قرب نهاية الثلاثية( أي في إبريل2591) كان كمال يري أن التصوف ضرب من الهروب والسلبية, كما رأينا. أما في8 يناير0691, فقد ذكر نجيب محفوظ نفسه. في لقاء صحفي بالأهرام أنه ينادي بالصوفية الاشتراكية وأوضح أنه يعني بذلك التطلع إلي الله وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا خلت حياة المجتمع من الشرور والآثام, فطالما كان هناك استغلال فالمستغل شرير والمستغل بائس والعلاقة بينهما حقد وكراهية, وفي ظل هذه العلاقة لا تطلع إلي الله. وهذا ما تصوره رواية الشحاذ. ولنلاحظ أولا أن بطل الشحاذ, عمر الحمزاوي, ليس شحاذا بالمعني المألوف, فهو واحد من أشهر المحامين الناجحين في القاهرة, وعلي درجة كبيرة من الثراء, ويقرض الشعر. وزوجته كانت في غاية الجمال, وجمع بينهما الحب رغم اختلاف الديانة, فهي من أسرة مسيحية, وتم الزواج برغم معارضة الأسرتين, وأنجب الزواج بنتين وولدا. وبجانب الكثير من الزملاء والمعارف, كان له صديقان حميمان من أيام الدراسة, مصطفي وعثمان, وكان ثلاثتهم, أيام الدراسة أعضاء في خلية شيوعية, وقد اعتقل عثمان وسجن لسنين طويلة ولم يرشد عن صديقيه. وكان لمصطفي باع طويل في المسرح والتليفزيون والإذاعة, فكيف يكون عمر شحاذا ولديه كل هذا؟ إنها ليست شحاذة لإطعام الجسد, وإنما هي شحاذة لغذاء الروح. فلقد أصيب عمر بالداء الذي ليس له دواء, علي حد تعبير بطل قصة زعبلاوي,( الذي كان ينشد التطلع إلي الله). فالرواية تبدأ وعمر جالس في عيادة الطبيب الخطير, زميل المدرسة, ينتظر دوره. وبعد الترحيب وتبادل الذكريات والنكات يسأله الطبيب بجدية عما به, فيجيب عمر عن هذا السؤال وعما تلاه من أسئلة قائلا: لا أعتقد أني مريض بالمعني المألوف.. ولكني أشعر بخمود غريب.. الحق أنه نتيجة لذلك الخمود ماتت رغبتي في العمل علي الإطلاق, تركته للمحامي المساعد.. وكل القضايا تؤجل وكثيرا ما أضيق بالدنيا, بالناس, بالأسرة نفسها المسألة خطيرة مائة في المائة.. لا أريد أن أفكر أو أشعر أو أن أتحرك, كل شيء يتمزق ويموت. وأنا آمل أن يكون لذلك سبب عضوي. وفهحصه الطبيب بعناية, ووجده سليما تماما, ونصحه بإجازة طويلة نوعا وبالمشي كل يوم وقال: الكبر مرض.. هنالك شبان فوق الستين, المهم أن نفهم حياتنا( فردد عمر)- أن نفهم حياتنا؟!- أنا لا أتفلسف طبعا ولكنك تداويني بنوع من الفلسفة, ألم يخطر لك يوما أن تسأل عن معني حياتك ؟ فضحك الدكتور عاليا ثم قال: لا وقت عندي لذلك. وواضح من إجابات عمر للطبيب( التي جاءت في السطور الأولي من الرواية) أن الشحاذ تبدأ من حيث انتهت السمان والخريف. وكأن المؤلف يوحي للقارئ بأن هناك تطورا جديدا سيطرأ علي موقف الغريب هنا. وهو ما حدث بالفعل. فقد بدأ عمر الحمزاوي رحلة علاج طويلة, هجر فيها البيت, بعد أن ودع الأسرة وداعا كريها وحاسما ومؤثرا. وأقبل علي العلاج بالحب وعاش لفترة مع راقصة متعلمة, أحبته حبا صادقا وأثث لها شقة عاشا فيها معا ونعم بالسعادة لفترة, اعتقد معها أنه بدأ في التعافي وذهب إلي مكتبه وطالع بعض القضايا, وزاره في المكتب خاله حسين, المستشار وأخته الوحيدة, وتضرعا إليه ألا يتزوج من الراقصة, وقال مصطفي: لماذا نسأل؟ الحقيقة أن العقيدة كانت تعطينا معني متكاملا, وأننا نحاول أن نملأ الفراغ تحقيقا لقانون طبيعي. وتنفست الصعداء لأيام معدودة, ثم ما لبثت أن عاودته نفس أعراض ومشاعر الاغتراب كرة أخري. وقطع صلته بالبنت التي بادلته الحب, وعاد من جديد إلي الملاهي الليلية وخرج كل ليلة بفتاة مختلفة, حتي ذاع سره وتعجب الزملاء. ثم جاء الربيع وانتقلت سهرات الملاهي من القاعات إلي الحدائق, ورأي وردة, الفتاة التي أحبته بإخلاص, غير بعيدة من مجلسه فدعاها إلي مائدته, وحمل إليه النسيم من الحقول الغارقة في الظلام شذا مسكرا من زهر البرتقال فتح له عوالم خفية من المسرات.. فسألها بشغف: خبريني يا وردة لماذا تعيشين فقالت: وهل لهذا السؤال من معني ؟ إني أعيش, هذا كل ما هنالك لنقل إني أحب الرقص والإعجاب وأتطلع إلي الحب الحقيقي. فسألها: ألم تحبي مرة ثم كرهت الحب ؟ غيري فعل. ثم سألها: والله, ما موقفك منه؟ أومن به.- بيقين؟- طبعا.- من أين جاء اليقين؟- إنه موجود وكفي.- أتفكرين فيه كثيرا؟...- عند كل حاجة أو شدة. في تلك الليلة نعم عمر حمزاوي باليقين الذي هجر كل شيء نفيس من أجله. ولكن لندعه هو يحكي لنا كيف حدث. في الثالثة صباحا ترك الملهي ووردة:; ثم انطلق بسيارته وحده إلي الطريق الصحراوي. وقال إن خروجه وحده هذه الليلة يعتبر تطورا ذا شأن. ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر وغادرها إلي ظلمة شاملة.. ووقف هو مفقودا تماما في السواد ورفع رأسه.. آلاف النجوم عناقيد وأشكالا ووحدانا وبعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال وأجيال من الآلام والآمال والأسئلة الضائعة وقد يتغير كل شيء إذا نطق الصمت وها أنا أضرع إلي الصمت أن ينطق, وإلي حبة الرمل أن تطلق قواها الكامنة وأن تحررني من قضبان عجزي المرهق. وما يمنعني من الصراخ إلا انعدام ما يرجع الصدي. وأسند جسمه إلي السيارة ونظر نحو الأفق, وأطال وأمعن النظر, وثمة تغير جذب النظر. رق الظلام. وانبثت فيه شفافية. وتكون خط في بطء شديد ومضي ينضح بلون وضيء عجيب. كسر أو عبير. ثم توكد فانبعثت دفقات من البهجة والضياء النعسان. وفجأة رقص القلب بفرحة ثملة. واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه وشد البصر إلي أفراح الضياء يكاد ينتزع من محاجره. وارتفع رأسه بقوة تبشر بأنه لن ينثني. ويملؤه سعادة غامرة جنونية آسرة وطرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة. وكل جارحةرنمت وكل حاسة سكرت واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب. وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة. وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد. لكنه ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب. لا اسأل صحة ولا سلاما ولا أمانا ولا جاها ولا عمرا. ولتأت النهاية في هذه اللحظة فهي أمنية الأماني. ولبث يلهث ويتقلب في النشوة... وتنفس تنفسا عميقا كأنما ليسترد شيئا من قوته عقب شوط من الركض المذهل. وشعر بدبيب آت من بعيد. من أعماق نفسه. دبيب إفاقة ينذر بالهبوط إلي الارض. عبثا حاول دفعه أو تجنبه أو تأخيره... تنهد من الأعماق واستقبل موجات من الحزن. وأفاق, والضياء يضحك. رجع إلي مجلسه بالسيارة... ونظر إلي الطريق بفتور( وقال) وكأنما يخاطب شخصا أمامه: هذه هي النشوة. وبعد صمت: اليقين بلا جدال ولا منطق.. ثم بصوت مسموع أكثر: أنفاس المجهول وهمسات السر. وتساءل وهو يزيد من سرعة السيارة: ألا يستحق ان ينبذ كل شيء من اجله ؟( الشحاذ221-431) وبالفعل ينبذ عمر مكتبه ويتركه لمساعده, ولعثمان صديقه- الذي خرج من السجن الآن- ليبدأ حياة المحاماة, واخبر زوجته بأنه سيوكلها عن نفسه في التصرف فيما يمتلك. وكان وداعه للأسرة ولمصطفي وعثمان بائسا وحزينا. وهام علي وجهه في الخلاء وأقام في مأوي صغير في أحد الحقول, يسائل الظلام والنجوم ويحادثها كثيرا, وتتعاقب عليه الأحلام كل ليلة وتتكاثر, مع ابنته ومع مصطفي ومع عثمان ووردة... الخ ولتوحده وكثرة مخاطبة النجوم, وكثرة الأحلام أخذ يخلط بين الحلم والواقع, لدرجة أنه حين لجأ إليه عثمان- في عالم الواقع- هاربا فعلا من البوليس اعتقد انه يحلم, حتي قبض علي عثمان وعليه أيضا, بعد ان إصابته رصاصة غير قاتلة في الترقوة, وكان جندي قد تعثر في قدميه وهو راقد في الظلام مستمر في حلمه ومتسائلا متي يري وجهه ؟ ألم يهجر الدنيا من أجله ؟! لكن استمرار الالم وشدته أشعره بأن قلبه ينبض في الواقع لا في الحلم... ووجد نفسه يحاول تذكر بيت من الشعر... تردد في وعيه بوضوح عجيب: إن تكن تريدني حقا فلم هجرتني؟! أي بهجرك للمحتاجين من خلقي. ولعل تفسير هذا السؤال يكمن في تذكر نوع التصوف الذي نادي به نجيب محفوظ نفسه, في اللقاء الصحفي المشار اليه آنفا. وهو الصوفية الاشتراكية, فالاشتراكية وحدها- أو الشيوعية- التي كان يعتنقها عمر( وزميلاه) لم تحقق له السعادة, وأصابته بداء الاغتراب, والتصوف وحده- دون مساعدة الفقراء والمهمشين, بل و استغلالهم- لم يحقق له السعادة, بل اصابه بالخبل وهجر الأهل والتعاسة. وإذن فلتحقيق النشوة, او التطلع الحقيقي إلي الله, الذي يجلب الرضا والسلام واليقين والطمأنينة, يجب دمج السلوكين معا. وينبغي أن نلاحظ ان الشحاذ لم تكن نهاية عهد نجيب محفوظ بالتصوف, فقد ظل يمارس الكتابة عنه في اعمال كثيرة لاحقة منها, علي سبيل التمثيل روايات الطريق وقلب الليل والحرافيش و رحلة ابن فطومة ثم اصداء السيرة الذاتية. وهو ما يشير( في رأيي) الي ان الكاتب العظيم, مع إيمانه بالله, قد ارتضي بالتصوف دينا يجعله اقرب الي الله, من الدين الذي يمارسه العامة. وهو هنا ينضم الي قائمة المتصوفين الكبار: الجنيد والحلاج وابن الفارض وابن عربي وغيرهم