«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهجرة لبلاد النفط تطل من رواية " التساهيل في نزع الهلاهيل"
نشر في محيط يوم 21 - 10 - 2008


طبعة ثانية من "التساهيل في نزع الهلاهيل"
غلاف الرواية
محيط - خاص
تصدر قريبا عن دار شمس للتوزيع رواية "التساهيل في نزع الهلاهيل" للكاتب والروائي دكتور زين عبد الهادي، وهي الطبعة الثانية، وقد صدرت الطبعة الأولى منها عام 2005 ووزعت عشرة آلاف نسخة.
كتب د. زين على صدر المجموعة ما يلي:
"حين بدأت كتابتها كنت أكتب بعض من مذكراتي الشخصية لم أكن أعلم أبدا أنني أكتب روايتي الأولى، وعلى الرغم من أنها نشرت كرواية ثانية لي، إلا أني أعترف بأنها الرواية الأولى التي كتبتها، كنت أرصد معاناتنا في الخليج ، كيف ذهبنا بكل تلك الأحلام، ولم نحقق شيئا، لم نحقق شيئا على الإطلاق سوى أن الوطن تمزق، بسبب الوهابيين، والانتهازيين، والفاسدين، لم أتكلم سوى عن أحلام البسطاء التي تتهاوى في لحظة، لأن القدر لا يريد شيئا آخر لهم، القدر العنيف في التعامل مع الفقراء والبسطاء، هذه الرواية لم يكتب عنها حرف واحد من قبل في الصحف العربية والمجلات النقدية ومع ذلك انتهت نسخها العشرة آلاف خلال عامين من نشرها وهأنا أقدم لكم الطبعة الثانية، علها تروق من يريد قرائتها، وإذا لم ترقه فسأصبح أنا أيضا جزءا من القدر العنيف "إنها لكم إلى هؤلاء الذين عاشوا وماتوا بحلم واحد لم يتحقق".
لا تعبر رواية "التساهيل في نزع الهلاهيل" فقط عن حقبة الثمانينيات والتسعينيات وأحوال المصريين في الخليج، لكنها تعبيرا دراميا عن الواقع العربي ككل في ذلك الحين، صحيح أن السياسة تكتب التاريخ، لكنها أيضا تكتب من جانب خفي آلام البسطاء وانكساراتهم التي لن يهتم بها التاريخ بعد ذلك!.
تصور الرواية رحلة "سيد العبد" عام 81 بعد معاهدة السلام مع اسرائيل من الصحراء الغربية أثناء فترة تجنيده منتقلا إلى قلب الصحراء العربية وعلى وجه التحديد ارتحاله إلى الكويت، ملقيا الضوء على عدد كبير من الأسباب التي أعادت تشكيل الحياة المصرية تاركة تأثيرات ضخمة عليها، فلم تكن رحلات المصريين مجرد انتقالا جغرافي، لقد ترك ذلك تأثيره على كل شئ، فها هي النساء تفضل العائدين من الخليج، وها هي قصص الحب تموت، وها هو التأثير الاجتماعي لذلك يظهر في الشوارع والحارات والبيوت، وها هم الذين ذهبوا بأحلام عريضة يعودون فاقدين لكل شئ.
إن رحلة سيد العبد طوال الرواية هي بحث عن حبيبته التي فقدها حين تم تجنيده ليلقى هناك في قلب الصحراء كفأر لا قيمة له، ليكتشف أن روحه تغيرت وأنه فقد كثير من أحلامه وطموحاته، حين ينتقل إلى الخليج يكتشف أن المصريين أتوا بكل تراثهم معهم من الثأر إلى الأمراض، إنه يلاحظ التحول في الشخصية المصرية، ما نحن فيه اليوم سببه تلك المسافة الشاسعة التي كانت تحول بين الأحلام من جانب والقدرة من جانب آخر ورغبات الآخرين من ناحية أخرى والقدر من جانب أخير!.
كتبت الرواية بأساليب متعددة تجمع بين السرد المبني على تيار الوعي والفلاش باك والومضات السريعة الخاطفة لأحداث الماضي والحوار، كذلك على نوع من الكتابة الحميمية التي تجمع بين الكاتب وقراؤه، ستشعر أثناء القراءة بهذا اللهاث الذي يمتد على صفحات الرواية، فأنت تركض مع البطل، كأنكما تنزلقان معا من أعلى الجبل ككرة الجليد، حتى تقفا تماما مع الكلمة الأخيرة في الرواية، لقد نجح الكاتب في أن يرتحل مع قارئه إلى هناك فاتحا أعيننا على ماحدث ويحدث ومستمر في الحدوث، إنها ليست حكاية زين عبد الهادي وحده، إنها حكايتنا جميعا، حكاية كل من ذهبوا وعادوا بأحلام وحيدة لم تتحقق، وهي نفس الجملة التي يصدر بها الكاتب هذه الرواية، لكنه أيضا يصدر غلاف رواية التساهيل بعبارة بجانب العنوان هي "مرثية للآخرين" كأن الكاتب يؤهلنا بهذا العنوان شبه الفرعي لما هو قادم فيها.
فيما يلي الفصل الثالث من الرواية "العيون المفتوحة":
"إذا لم تكن تدري من أين جئت .. فليس من المهم أن تعلم إلى أين أنت ذاهب"
تائه في الكويت
هبطت الطائرة في مطار الكويت، ذلك الهبوط الرخو، قلبي يدق في عنف، لا أحد في انتظاري، المجهول وأنا، أسير على بلاط له بريق، ضحكات مختلطة بصراخ أطفال، نساء سمينات، ورجال يهتزون في ملابسهم اللامعة، أتحسس بنطلوني الجينز المتقرح، هنود وفليبينيون وصعايدة وأمريكان، الصعايدة يسيرون في جماعات لا تزيد عن ثلاثة أو أربعة أفراد، الجميع يبدأ في الركض، فقط الأمريكان هم الذين لا يركضون، ومع ذلك خرج الأمريكان سريعاً لا أدري كيف، لاحظت الابتسامات المتبادلة بينهم وبين العساكر والضباط، لم أجد في استقبالي سوى النظرات المتشككة للضابط الصغير، ملابسه الرمادية وحذاؤه اللامع، وشاربه العريض، كان الطابور طويلاً بشكل غريب وتساءلت هل هجر المصريون مصر، منذ ركبتُ الطائرة وأنا أشعر بأني داخل حضانة لجنين ولد قبل ميعاده، معرض فيها للأشعة البنفسجية وفوق البنفسجية وأشعة إكس وأشعة كشف الروح ومسح الجسد وتعطيل الدماغ، وكي العروق وكل أنواع الإشعاعات، حضانة للميلاد، أم حضانة للموت، تم دفعي للخروج، قال الجميع بكل لؤم، خروجك فيه حياتك، بينما كنت أعلم أني يجب أن أتسلق السلك الشائك عارياً أتوجس، موتي ينتظرني فوق كل شبر من هذه الأرض. لاحظت أن مضيفات الطائرة من جنسيات مختلفة منهم الهندية والمصرية والكويتية واللبنانية والإنجليزية، وأجملهن هذه الباكستانية الفارعة التي تعلقتُ بعينيها الواسعتين الجميلتين.
زميل المقعد النائم بجواري يسيل على شفتيه لعاب غريب ينحدر على جانب ذقنه، أشعر بأن وجهه كله يسيل، حتى لم تبق فيه ملامح، كل شيء فيه مطموس حتى خلته هو والمقعد كتلة واحدة، كتلة من قماش ودم ولعاب، وكان الكثيرون نائمون، وأدركت في تلك اللحظة أني الوحيد الذي لا ينام أبداً، مفتوح العيون دائماً وبشكل لا يطاق وأقول لنفسي ها أنت تركت القطار والغبار، وكلاب السكك وعربات البيجو التي كانت تحرث الأرض باتجاه السلوم محملة بشباب الفلاحين والصعايدة، ورأيت أطفالاً بينهم وأيضاً عواجيز ونساء، كنت أراهم بالمئات والألواف في سيدي براني، ماذا كانوا يفعلون وإلى أين هم ذاهبون ، إلى "ليبيا" ، عيونهم جميعاً ممتلئة بأحلام، يرتدون طبقات من جلابيب كثيرة منتفخين بأوهام الثراء، كم رأيت من عربات تعود بنعوش، فهل رأيت نعشك بينها يا غبي يا بن الغبي لتقرر الذهاب إلى الكويت، قُضي الأمر!.
هيا أغمض عينيك، أمي كانت تردد على مسامعي وأنا صغير دائماً عبارة وحيدة "لماذا لا تغمض عينيك يا حبيبي وأنت نائم" ، هل كنت كذلك، في تلك الليلة البعيدة مات "عبد الناصر" قال أبي: لماذا تركنا ناصر في مواجهة كل هؤلاء، يحدثني وهو يظن أني أفهم، لا أدري لماذا أصر على حفر هذه الكلمات في رأسي، أمي قبل أن تموت لم تهتم كثيراً ولم تقرأ جرائد طوال عمرها وتشيح بيدها إذا حدثناها في ذلك وماتت وهي لم تعرف الفرق بين الملك فاروق والرئيس عبد الناصر أو من أتى حتى بعده، وأذكر أنها قالت ذات يوم: "رئيس .. ملك .. وزير .. كلهم شيء واحد" سحبني أبي من يدي وسرنا في جنازته، ركبنا القطار حتى محطة الجيزة وهناك ضعت وسط الناس وبعد عدة ساعات عثر عليَّ وأنا جالس فوق الرصيف في الليل أبكي وعيناي مفتوحتان، احتضنني وخبأني تحت معطفه من البرد لكني كنت قد أصبت، واعتقدت أن عينيَّ ظلتا مفتوحتين من يومها، فلم يلفت نظري أحد ما لذلك إلا بضعة مرات قليلة، وكنت أنا أنسى، و "سَوسن" لم تقل لي أبداً أن عينيَّ مفتوحتان دائماً، هل كنت أخاف شيئاً ما .. ؟؟ أم أن هناك مرضاً ألمَّ بي فتصلبت جفوني على الوضع المفتوح، خوفاً من أن تسرق مرة أخرى ... ؟؟ ورغم عينيك المفتوحة فقد كانت تتم سرقتك كل يوم وكل ساعة. لم أرغب في الذهاب إلى طبيب ليفتش داخلي عن السبب في ذلك، فتش شرطي الحقيبة بعناية وقلب الضابط جواز السفر الأخضر وعاد يتفحصني من جديد، عيناه تمتلئ بشكوك واتهامات لا تحصى، وفي أركانها تختفي عبارات السخرية واتهامات بشحاذة دولية، لقد انتهينا من الشحاذة المحلية فلم يتبق لنا سوى الشحاذة الدولية، تركنا النظام نقوم بالشحاذة بدلاً منه، سنؤكل يا أولاد الكلب وأنتم هناك تضحكون، أشحذ أنا ليقوم بطل الحرب والسلام بالتصوير في مجلة التايم الأميريكية مع كلبه الوولف وحذائه الأبيض وشورته الأبيض وعصاته التي يهش بها علينا.
أشار لشرطيين فسحباني إلى حجرة داخلية حيث تعرضتُ لتفتيش ذاتي، حاولت إفهامه أن شحاذاً مثلي لا يمكن أن يخفي شيئاً داخل ملابسه البسيطة، ولكنه أعطاني قفاه في حدة وتركني لهما، ها أنا أقف بعيداً بمئات الأميال وحيداً هذه المرة أخلع جميع ملابسي دون أن أنطق ودون أن أعترض، كانا يفتشان في كل شيء يقلبانه عدة مرات، بحثا تحت لساني وداخل الحذاء أزكمتهما رائحة قدمي، وبين فخذيَّ وكنت أنا ابتسم، وكانا يضحكان وهما يشيران "للفانلة" الذائبة المهلهلة من على الصدر ولم أدر أنها ذائبة إلا في هذا الوقت فضحكت معهما وفتح أحدهما علبة سجائري ومزقها أمام عيني باحثاً عن الحشيش والأفيون الذي عادة ما يخبؤه أمثالي من المصريين في تلك العلب، وفتحا دفتر المذكرات الصغير الأزرق وهو الشيء الباقي لي من "سوسن" وكنت خائفاً من أن يمزقاه ولكنهما ألقياه على الأرض في إهمال بعد أن قرآ بعضاً من سطوره وضحكا في سخرية، انحنيت والتقطته في لهفة فأنزل أحدهما السروال الداخلي لي ليرى ما بداخله فاعتدلت سريعاً، أمرني بإنزال اللباس، تطلعت للضابط، أمرني هو الآخر بخلعه، وشبح ابتسامة متشفية تلوح على وجهه، كدت أصرخ ولكن الصرخة التصقت بسقف حلقي، وكنت أشعر بالحرج لكني نطقت أخيراً بأن ذلك انتهاك لحريتي لكنهما استمرا فيما هم فيه دون أن يعيراني التفاتاً، هاجمني ضيق فجائي فلم يكن معي نقوداً لأشتري علبة أخرى، ولم أكن دري ماذا يمكن أن يحدث لي في الخارج، وأخيراً خرجت في صحبتهما مع الضابط الذي اعتذر في جمود قائلاً بأن اسمي تشابه مع اسم شخص مطلوب القبض عليه وأشار لي بأن أخرج، حملت الحقيبة ولم تكن تحتوي سوى على خطابات لبعض المصريين تم فتحها جميعها وتساءلت في حيرة عما يمكن أن أقوله لأصحابها، كنت قد تعودت على النظام والطاعة هناك فلم أعترض كثيراً، فالألوان أصبحت متشابهة ؛ الكاكي والأخضر والرمادي، قابلت المضيفة الباكستانية على الباب نظرت لي ولم تبتسم وتركت لي ذكرى وحيدة هي نظرة عينيها الواسعتين الممتلئتين ببرود لا نهائي في طائرة مجهولة.
* * *
لمحت يافطة معلقة خارج صالة الجوازات تشير إلى مكان تجمع المدرسين المتعاقدين، ووجدت آخرين اندسست بينهم، وكان أصغرهم في مثل سني عدا ثلاثة أو أربعة كانت أعمارهم بين الأربعين والخمسين واحدٌ فقط يبدو أنه تعدى الخمسين وكان لا يفتأ يشكو التعب والوقفة المرهقة، ظننت لوهلة أننا ذاهبون لمعتقل واحد في نفس اللحظة، كمجموعة من الجرذان تندفع فجأة لتلقي حتفها من فوق جرف عالٍ دون سبب معروف وأعود أقول: ما هذا اللغو .. هل أصبحت مجنوناً؟! ولم يجيبني أحد، لقد وقعت العقد بكامل إرادتي ولم يدفعني أحد لذلك وتركت وظيفتي وربما تركت "سوسن" و "سُنسُن" وصلاح وأبي وجميع من أعرفهم لذلك، فما معنى الانتحار، وكنت أظن أحياناً أني مجنون حقيقي، ضحكت سوسن بشدة ذات يوم وقالت لي: "ما الفرق بين المجنون الحقيقي والمجنون غير الحقيقي .. سواء كنت هذا أو ذاك فأنا أحبك .. مجنونة بك" لم أكن أدري ما الذي تجده فيَّ مختلفاً، كانت تعترف بحبي دائماً، حتى مللت هذه الكلمة وربما مللت الحب نفسه، ولكن في تلك اللحظة كنت أحتاجها بشدة، حين كانت تسير بجانبي وكانت أطول مني بسنتيمترات قليلة مرتدية حذاءها الواطئ وكانت موضة الأحذية الرجالية هي الكعب الإسفنجي العالي فكنت أظهر أطول منها وكنت اشعر بأننا نكذب على أنفسنا وعلى الآخرين وكانت تقول لي دائماً: "دعك من هذا أنا أحبك فلا تأبه" ولكني كنت أظن دائماً أننا نكذب، هل هذا هو السبب وراء اختفائها الفجائي ولما لم تكن هناك إجابة في تلك اللحظة فقد ابتلعت كلماتي وأخذت ألوك صمتي، وأنا أدور بين الأسباب والمسببات والعلل والنوايا والرغبات حتى لم يبق أمل في أي منها، أدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها دون أن أعثر على سبب واحد قد يريح البال ويبلل الشفاة الجافة التي على وشك التكسر، ولكني لم أفكر أبداً بأنني قد أكون السبب!!!.
لاحظت أفواج الهنود والباكستانيين والبنجلاديش، ملامحهم واضحة يقفون في طوابير طويلة، أغلبهم من النساء، وأدركت أنهم يأتون للعمل هنا كخدم، أو في وظائف دنيا، ولاحظت بعض النساء اللاتي يبكين وهن يتحدثن مع كفيلهن، كن يحاولن أن يثنينه عن تسفيرهن، والرجل يبدو كقطعة من الصخر الصلد ولم يتدخل أحد.
تقدم منا رجل ذو رأس ضخم وجسد هزيل يرتدي نظارات وغترة وعقالاً، ذو ملامح طيبة للغاية، وبعد أن فحص أوراقي وقرأ العقد انقلبت ملامحه بشكل فجائي وقال لي: "أنت راعي مكتبة وليس لك الحق في سكن أو الانتقال لدار الضيافة" وأشاح بيده وواصل قائلاً" دبِّر حالك .. ولم أفهم ما الذي يقصده تماماً ما معنى راعي مكتبة، لكْنَتُهُ غريبة نوعاً ما بالنسبة لي، اقترب أحدهم مني قائلاً: "ولا يهمك .. تركب معنا السيارة وتنزل في الكويت وهناك يمكن التصرف"، حاولت إفهامه أني لم أنظر للعقد وأني لم أقرأ بنوده، وضربت بالطاعة عرض الحائط وقلت له: "إني على استعداد أن أعود في نفس الطائرة التي أتيت بها" هز رأسه ولم يجب وقال "سوّ ما تريد" قلت له في لهجة حاسمة مهدداً: "إذا لم تكن تستطيع أن تفعل شيئاً فأتني بأي مسئول آخر، لن أتحرك من هنا، إما الطائرة أو السكن" نظر إليَّ في شك ونادى على أحدهم: "يا أبو جاسم" فأقبل آخر وكان سميناً أسود البشرة عريض الأنف حركة أقدامه على الأرض مكتومة غليظة، وتبادلا حديثاً قصيراً وفهمت أنهم يتحادثان بشأن عقدي وأخيراً نطق الرجل الأول قائلاً: "سنأخذك معنا .. في دار الضيافة وغداً تدبر حالك" سكتُ ولم أنطق، وتذكرت الموظف المصري في لجنة التعاقد حين قلت له أني أريد قراءة العقد قبل أن أوقعه، رماني بنظرة نارية وقذف أمامي بنسخة أخرى من العقد وهو يهمهم "فقري" ابتسمت وتناولت القلم من يده ووقَّعت دون أن أقرأ شيئاً".
حين خرجتُ من باب المطار خيل إليَّ بأن هناك من ألقاني في الجحيم وأن ما أحس به ربما يكون أسوأ من جهنم، درجة الحرارة فوق الأربعين والرطوبة فاقعة فكبست أنفاسي وطبقت على صدري، أما زجاج المطار فقد كان يخفي ما يمكن أن يكون بالخارج، خرجت من البوابة وقفلت راجعاً من الباب الآخر والجميع خلفي، وارتفعت ضحكات الجميع قلت لهم لا يمكن أن نلقي بأنفسنا من فوق الجرف في هذا الجو، سننتظر للمساء، انزعج الرجل ذو النظارات عريض الرأس وقال: "ايش فيه" حدثه أحدهم بالأمر، ضحك حتى ظننت أن قلبه سيتوقف وقال: "هيا هيا يمكنكم أن تتحركوا الآن الباص يقف أمام المطار .. لا تؤاخذوننا"، وكنا ننشوي بنار الكويت في الخطوات العشر الأولى حتى باب "الباص". وكانت المفاجأة الثانية اكتشافنا أن الباص غير مكيف، وهكذا تم شيّنا وسلقنا بعد تجريدنا من ملابسنا بدعوى الشيِّ على العريان، خلال ساعة حتى دار الضيافة .. وخفف عنا بعض الشيء السائق الفلسطيني الذي أخذ يلقي علينا النكات ويسأل عن الأحوال في مصر، في المساء كان لابد من خروجي، حيث كنت أحمل خطاباً لابد من توصيله تلك الليلة بمنطقة "الشويخ"، همت فيها حوالي الساعة حتى وصلت لصاحب الخطاب وكان قريباً لأبي، وحين دخلت سكن العمال الذي يقطنه قابلني اثنان من الصعايدة يبتسمان في وجهي .. بعد لحظات كنت جالساً على سرير مصنوع من صناديق الكولا والبيبسي وفوقه حاشية إسفنجية في غرفة مصنوعة من الصاج والحجارة الأسمنتية، وكان بها ثلاجة قديمة وتليفزيون وفيديو، وأصرَّ قريب أبي على أن نتعشىَّ، وأكلنا فراخاً مشوية وكباباً وشربنا مشروب "الفيمتو والشاني"، ونهضت أخيراً راغباً في العودة، أصرَّ مرة أخرى على أن يقوم بتوصيلي، وفي سيارته الشيفروليه أوصلني للسكن، وحدثني طول الطريق عن ما يجب أن أفعله، ونصحني بتحويل مرتبي أول كل شهر وذكر لي أشهر الصيارفة وعرض عليَّ الإقامة معه إذا أردت لحين توفير سكن، ولكنني أفهمته بأني لن أتنازل عن موضوع السكن، وقال لي "محمود" في النهاية: "نورت الكويت" وكان يضحك وكرشه الكبير يهتز في عنف وأشار إليه قائلاً: "هنا منحني الرخاء" فضحكت في بلاهة، وأخيراً هبطت أمام دار الضيافة وكانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل وكانت الأضواء مطفأة، يعم السكون كل الأشياء، إلا أنا فقد كنت أتخيل أنني اكبر حمار عرفته الكويت، حين حكيت لمحمود ما جرى في المطار، ترجرج كرشه وهو يضحك قال: "أفق، هناك الآلاف الذين يتمنون لو يحصلون على ربع عقدك في الكويت .. المئات ينامون أمام السفارات الخليجية .. إحمد ربنا" تفرست في وجهه محاولاً إدراك الموقف، لكني كنت قد أدمنت اللامبالاة، فقلت: "فليأخذ هؤلاء الآلاف هذا العقد ويعطوني ما تم سرقته مني" ضحك وقال: "اذهب إلى الشارع، واصرخ في الناس، من يريد عقداً للكويت .. وستجدهم" وقطع جزءاً من صدر الدجاجة ووضعه في فمه دفعة واحدة، وأمر أحد الأخين بوضع شريط المغربية "سميحة سميح" في الفيديو، صوتها عميق، نظرت في عينيه فوجدته يمارس معها الجنس في خياله، وهو يقول "صوتها جاي من تحت"، ابتسمنا جميعاً.
* * *
د. زين عبدالهادي مؤلف الرواية
تسللت إلى غرفتي وألقيت بجسدي فوق السرير، وأغفلت عيني وكان صدري مقبوضاً وكانت أجهزة التكييف تعمل بشكل جيد، ونهضت في فزع في الثالثة فجراً على صرخة، خرجت من باب الغرفة اتصنت، كان هناك صوت أنين منبعث من حجرة ما في الممر وحين وقفت فيه أدركت أن الشقة التي بجانبي هي التي يخرج منها هذا الأنين، دفعت الباب وكان موارباً، وكنت أدعك عيني، كان الرجل الكبير السن الذي رأيته في المطار مكوماً بجانب الباب، وكانت الدماء تغطي صدره، وتناثرت على الأرض كتل من الدم القاني، وحين جلست بجانبه أدركت أنه يعاني من شيء ما في معدته أو حلقه، كان يتصبب عرقاً بارداً وكان مستكيناً تماماً عدا ذلك الأنين وحين سندته بيدي حاول أن يخبرني شيئاً فلم ألتقط منه سوى كلمات غريبة ماتت على شفتيه، وهكذا قضينا الليلة الأولى لنا هناك في مستشفى "الصباح"، وعدنا وقد تركنا الرجل في غرفة الإنعاش، وفي اليوم التالي قيل لنا أنه مات، ولم يبك أحد منا عليه، من يبكي على من ؟، وتأكدت في تلك اللحظة أن المذبحة بدأت مبكراً، مبكراً جداً عما تخيلته، لم يذهب خيالي إلى هذا الحد، أن تذبح الخراف في الليلة الأولى، وها هي الضحية الأول تسقط سريعاً قبل أن تخطو الخطوة الأولى نحو الحلم أو نحو الثراء أو نحو الطمع هرباً من الفقر والصراخ والزحام والعرق والألم والعيون البائسة والأنيميا والبلهارسيا والفساد.
* * *
في اليوم الثالث توجهت إلى المدرسة التي سأعمل بها، وهناك تم تحديد السكن الذي سأقطنه، واعتذر لي الرجل ذو النظارات عن الخطأ الذي حدث في المطار، وعلمت فيما بعد أنهم كانوا بسبيل عدم إعطاء "أمناء المكتبات" سكناً، ولكن المشكلة تم حلها، واستلمت مبلغاً من المال للإنفاق الشخصي لحين إنهاء إجراءات تحويل المرتب على البنك وحين سألني عن البنك الذي أود تحويل مرتبي عليه لم أتردد في اخباره باسم البنك، وكان محمود قد أخبرني بذلك أول أمس، وأتصل بي بعد ذلك في المدرسة وكنت قد تركت له عنوانها فطمأنته بخصوص السكن، وقال لي سأزورك .. وفي اليوم الرابع ودعنا نعش الرجل الذي مات أنا والبعض، وكان مع النعش واحد من أقربائه في الكويت، ودفعنا جميعاً ثمن نقل الخشبة بالطائرة ولم يأت أحد من السفارة المصرية، وحين كنت عائداً من المطار لا أدري لماذا تذكرت "سوسن" وأبي وكنت خائفاً من أن يموت أبي وأنا في الكويت كما ماتت أمي وأنا في الصحراء الأخرى، وكنت أحياناً أقول: هل من المهم أن أخاف أن يموت أبي؟ وتذكرت شجارنا حين قلت له أن عبد الناصر كانت له سيئات أيضاً كما كانت له حسناته، فانزعج صارخاً: "حرام عليك .. حرام عليك .. أسكت"، وأدركت أنه يحب عبد الناصر أكثر من أي شخص آخر، ولم اكن أدري لماذا يُكِنُّ له كل هذا الحب، وسألني ذات يوم إذا كنت أحب الرئيس الحالي قلت له بلا تردد: "أبي .. أنا لا أحب أحداً" ابتسم وهو يشير لطبق المكرونة أمامه ثم قطع الدجاجة أربعة أقسام، ولكنني نهضت خارجاً ولم آكل نصيبي وكانت أختي الصغيرة أول من خطفت الجزء الخاص بي ووضعته كله في فمها، وكان الجميع يضحك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.