عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ : من عبثية الواقع إلى عبثية الوجود
نشر في الوفد يوم 10 - 01 - 2011

لا يمكن بسهولة أن أصف نجيب محفوظ بالكاتب العبثي، وأيضاً يصعب أن أصف أدبه بهذه الصفة، وباستثناء قصته القصيرة "تحت المظلة" (كتبها فى الفترة من أكتوبر وديسمبر 1967)، التى أظن أن محفوظ كتبها تحت تأثير الفن العبثي، يبدو لى إنه من الصعب وصف بقية أعماله بهذه الصفة. فكتابات محفوظ المتنوعة سواء فى الرواية أو القصة القصيرة تتصدى لمعالجة هموم وقضايا ذات طابع إنسانى وميتافيزيقى مثل: الموت، المجهول، القدرية، الخوف، العجز، انعدام المعني، العزلة، الاغتراب، اليأس، الخواء، اللاجدوى .. وغيرها من القضايا الوجودية ، ومثلها بالتأكيد العبث. ولكنها مع ذلك تختلف عن أعمال "فرانتس كافكا"، و"صموئيل بيكيت" ، و"أوجين يونسكو" وغيرهم من كتاب العبث.
فالكاتب العبثى كما يوضح "مارتن إيسلن" يتخلى عن النقاش حول عبثية الوضع البشري، ويحاول أن يظهره ويجسده فقط فى الوجود من خلال أدواته الإبداعية والفنية. بعبارة أخرى فإن الفن العبثى لا بد أن يتجلى من خلال اللغة والحدث والمضمون والشخصيات، فالكاتب العبثى الحقيقى لا يسعى من وراء أدبه إلى أهداف أو غايات أخرى تتجاوز الوعى التعسى بعبثية الحياة.
أما نجيب محفوظ، فإنه يعالج موضوع العبث فى رواياته على طريقة "سارتر" و"كامو"، فهو يعترف فى الكثير من أعماله بأن الحياة عبث، ولا معنى لها، لكنه يرفض الاستسلام لإغراء الاستمرار فى الإيمان بهذا العبث، ويحاول أن يجد مخرجاً أو خلاصاً من هذه المحنة ، محنة معاناة الوجود الخالى من المعنى والقيمة والهدف.
ويستطيع القارئ لأدب محفوظ أن يستشف سهولة العديد من المواقف الدرامية التى تؤكد عبثية الحياة وعدم جدواها، وعقم التجربة البشرية ، فالحس التراجيدى يكاد يسيطر على معظم أعماله القصصية والروائية ونادراً ما ينجو أبطاله وشخوصه من المصير المهلك المدمر لكل آمالهم وطموحاتهم وأهدافهم. ويبدو أن محفوظ الذى استوعب الواقع المصرى الحديث بصورة جيدة وعميقة قد أدرك بحس وبصيرة الفنان مدى هشاشة الأمل وذبول المعنى فى ظل القهر السياسى وغياب الحرية وهيمنة شكل أحادى للسلطة فى العهود الملكية والناصرية وامتدادتها، والذى كان من أبرز نتائجه غياب الوعى السياسى لدى الجماهير، ،انحسار التفكير العقلانى والإبداعي، وسيطرة التفكير الدينى الأصولى التكفيرى الذى يلبى حاجات ونداءات الجموع المقهورة اليائسة.
لقد أدرك محفوظ ببصيرة الفيلسوف الفنان أن الواقع أقوى من تمرد "سعيد مهران" على كلاب الحراسة ، وأن ثورة "عمر الحمزاوى" التى تستند إلى رعشة الحلم ، لم تستطع أن تفعل شيئاً مع أسنان الواقع المدببة ، وحتى الاشتراكية العلمية التى ظل "عثمان خليل" بدافع عنها حتى آخر لحظة فى حياته لم تستطع هى الأخرى أن تغير شيئاً فى واقع شديد التخلف. وكذلك فإن رحلة "صابر" للبحث عن الأب الغائب "سيد سيد الرحيمى" الذى كان يأمل أن يمنحه الحرية والكرامة والسلام لم تكن إلا رحلة فى قلب الظلام والتيه !
إن نجيب محفوظ يحاول أن يؤكد فى أعماله أن الواقع لا يتغير بالأحلام أو بالأفكار، كما توهم "جعفر الراوى" فى "قلب الليل" لقد كان هدف "جعفر" أن يؤلف مذهباً جديداً يجمع بين المادية والروحية، ولكن مذهب جعفر انتهى به إلى الجريمة والضياع لأنه كما قال له صاحبه "سعد كبير".
"أنت تتوهم أنك صاحب مذهب ميتافيزيقى اجتماعى سياسي، إن أى مذهب خليق بأن يستغرق عمراً فى تكوينه، ولكن القارئ يطلع على المذاهب كلها فى عام أو عامين، وقد يتراءى له أن يقوم بعملية انتخاب من المذاهب يظنها تفكيراً وهى ليست إلا عملية انتخاب للجمع بين متناقضات يستطيعها أى مخلوق، ويمكن بهذه الطريقة أن يكون لدينا مذاهب بعدد غير الأميين فى العالم!".
إن تمرد الفرد ليس سوى صرخة احتجاج ضد واقع زائف وقاس وعبثي، هذه الصرخة التى غالباً ما تبدأ برفض الواقع السياسى السائد، والتمرد على ثقافة القهر والقمع والمنع والتحريم والتكفير غالباً ما تتحول عند محفوظ من الاحتجاج على واقع سياسى واجتماعى وثقافى محدد إلى الاحتجاج بمعناه الكونى الوجودي، فتتحول أسئلة الواقع حول الظلم وغياب العدالة ، والقهر وغياب الحرية ، والفوضى وغياب النظام، والخوف وغياب الأمن والسلام .. هذه الأسئلة وغيرها تتحول إلى أسئلة كونية ، أو ما يمكن أن نسمية بأسئلة الوجود الكبري، لماذا وجد الإنسان ؟ ، ولماذا يتعذب ؟ ، ولماذا يمرض ويعانى ويحزن ؟ ويتألم ويتعذب لموت آماله وفراق محبيه وانتحار أمانيه؟ ولماذا يموت بطريقة رخيصة أو مجانية ؟ ولماذا يحيا محروماً من السعادة والمعنى واليقين ؟ ولماذا تعذبه الأسئلة ولا يجد إجابة؟ ترى هل هذا سر الوجود ؟ وإذا كان هذا هو سر الوجود : أن يبقى الإنسان أسيراً لهذه السخرة الوجودية، ويظل دوماً داخل التيه . فما الذى يبرر الوجود؟ وما الذى يمنح الحياة معناها ولونها وطعمها ؟ وهل يمكن لنا أن نصل إلى اليقين أى يقين ؟ وإذا كانت الحياة تمتلئ بهذا الشعور من الظلم والقسوة فأين نجد السعادة؟
إن روايات محفوظ تمتلئ بالعديد من هذه الأسئلة التى تطعن فى مشروعية الواقع السياسى وتطعن فى مشروعية دراما الوجود ذاتها. وبالطبع ليس مطلوباً من المبدع أن يقدم إجابات محددة أو حلول مبتكرة لأزمة الوجود. ومع ذلك فإن محفوظ أحياناً يشفق على قارئه من رعب هذه الأسئلة ومن وطأة العبث، لذلك فأحياناً ما يجود علينا ببعض الإجابات الضمنية أو غير المباشرة التى تشير إلى أن الإنسان برغم كل معاناته كائن عظيم وإن التراجيديا الإنسانية لا تخلو من بصيص من أمل برغم كل شيء، وبرغم ضبابية الحقيقة وظلمة الطريق.
إن محفوظ هو واحد من المتشائمين العظام فى القرن العشرين، وهذا التشاؤم لا يعنى اليأس، ولا يعنى الهروب من مواجهة الواقع، ولكنه يمثل رؤية شديدة الواقعية لواقع فاسد يجب فضحه وتعريته وكشف ما انطوى عليه من زيف وخداع وخلل. فالتشاؤم فى بعض الحالات قد يكون أكثر شرفاً وقيمة من التفاؤل الساذج أو الزائف الذى لا يتأسس على فهم حقيقى وعميق للواقع.
إن تشاؤم محفوظ هو نوع من الاحتجاج الأليم على واقع قد أصابه الوهن والعفن ونخر السوس عظامه وكيانه، وتحول إلى واقع رخو متهتك، اعتلى فيه مشعوذوه منبر الحق وصاروا حملة الحقيقة المطلقة ، وأصبح جلادوه وحدهم كهنة وحراس هيكل الحرية المنهار!
على أية حال فإن سؤال العبث يلح إلحاحاً شديداً وبطريقة واضحة فى أعمال محفوظ، فلا يكاد يخلو سطر أو فقرة داخل هذه الأعمال من مناوشة أو مناقشة لقضية الإنسان المهموم بالبحث عن المعنى. وكما سبق وأوضحت فى الفقرات السابقة فإن هذه الأعمال لا تنتمى بصورة دقيقة إلى أدب العبث، ولكنها ربما تكون أقرب إلى الروايات الفلسفية أو الذهنية أو الوجودية أيا ما كانت الأسماء، فإن هذه الروايات الثلاث تلتقى جميعاً حول هدف واحد هو البحث عن معنى الوجود الإنساني، والبحث عن المعنى هو الوجه الآخر للعبث، فاستنزاف الذات فى البحث عن المعنى هو تجسيد لحياة تفتقر للمعنى.
ولا شك فى أن انعدام المعنى يؤدى إلى تعثر التواصل الإنساني، فيصبح الحوار قلقاً ومضطرباً، ومتلعثماً ومجزوءاً ، وتأخذ الأشياء دلالات حميمة ، إذ تصبح هى ملجأ الإنسان وملاذه الأخير، وهنا تتزايد ألفة المكان ويغترب معنى الزمان ويصبح الليل منيراً والنهار ليلاً سلبياً، ولهذا ليس مستغرباً أن تصبح المقبرة هى مأوى "سعيد مهران" فى "اللص والكلاب" . وتكون الصحراء هى واحة "عمر الحمزاوى" فى "الشحاذ" ، والنهر سمير "أنيس ذكى" فى "ثرثرة فوق النيل" . والإنسان فى التصاقه بالأشياء يعلن انفصاله عن البشر، فهو يموت مجتمعياً قبل أن يموت جسدياً وروحياً.
وحيث يولد العبث "يختفى من رواية محفوظ الجديدة عالم الأسرة الحميم واستقرار البيت القديم ودفء علاقات الزقاق ... ينتهى ذلك الوصف الدقيق لأشياء وزوايا ومنعطفات الحى القديم الواضح فى اسمه وتاريخه، وتنفتح الرواية على مكان قلق مائع، لا يدخله الإنسان إلا ليخرج منه. لكأن محفوظ، وبمعنى ما ، انتقل من تأمل جمال المشخص إلى تأمل جمال المجرد، ومن تأمل جمال التاريخ إلى تأمل جمال الإنسان، ومن تأمل كثافة الزمن المتعاقب إلى رصد كثافة اللحظة القاتلة".
ويمثل الموقف العبثى فى روايات محفوظ جزءاً من موقف وجودى أكثر اتساعاً وشمولاً هو موقف البطل المغترب، وربما يكون من الصواب أن نقول إن تجربة العبث تنطوى تحت تجربة أكبر هى تجربة الاغتراب، خاصة فى معناه الوجودى الذى يعنى إحساس الإنسان بأنه قد وجد فى عالم ليس عالمه، وإنه بلا جذور، وبلا روابط حقيقية تصل ما بين ذاته والعالم والآخرين. وكى يعبر محفوظ عن هذا "الاغتراب العبثى" - إن جاز لى أن أسميه بهذا الاسم - يلجأ إلى بعض التقنيات الفنية مثل : "المناجاة" أو "المونولوج" ، "والحلم" ، و"تداخل الأزمنة". ويعبر فيصل دراج عن هذا المعنى بقوله : "المونولوج لغة الذات المتوحدة ، التى منع عنها وضعها كل تواصل حقيقي، فجعلت من ذاتها مرسلاً ومستقبلاً للكلام فى آن، أى ضاعفت إنقسامها من جديد إلى ذات وموضوع. يحتل المونولوج مكاناً واسعاً فى رواية الاغتراب عند محفوظ ولا تكون هذه الرواية ، كما تريد أن تكون، إلا به ، فلا وجود لمغترب بدون وجود لغة تناجى ذاتها والعالم. تملأ المناجاة "اللص والكلاب" ، وتطفو واضحة فى "الشحاذ" وتصل فى "ثرثرة فوق النيل" إلى حدود الهذيان . يمتزج الحلم باللغة ليخلق لغة حالمة ، أى ليخلق صوراً طليقة لا وجود لها فى هذا العالم. لا يتعامل الحلم مع اللغة ، لا "يتحدثها" لأنه لا يستطيع أن يقدم الكلمات والأفكار إلا خلال الصور، وللحلم منطقه ، يهرب من النظام ويتدثر بالفوضي، ويكشف فى هروبه الفوضوى عن عجزه عن قبول عالمه. يحمل الحلم "أنيس ذكى" إلى التاريخ البعيد هرباً من التاريخ الراهن.
يعيش المغترب عالمه ويعيش عالماً آخر، وينسج روايته من صدام العالمين. وتكون الرواية فى مستوياتها المختلفة كلها صورة لوضع المغترب المزدوج ، الذى يسير جسده فى عالم ، ويبحث عن جوهره المفقود فى عالم آخر".
وفى عالم المغترب العبثى "لا يحقق الزمان فى دورته أشواق الإنسان بل يكشف عن تحققها المستحيل، يخلق الزمن الحلم ليبدده ... التاريخ لا غاية له والموت حقيقته الوحيدة وهذا ما يجعل من الديالكتيك السلبى عنصراً رئيسياً فى رؤية محفوظ، فلا تنمو الأشياء إلا لتنهدم ، ولا تعلو إلا لتسقط، فالعطب يسكن الوجود، والتغير قانون، والموت حقيقة وحيدة".
إن شخصيات محفوظ شخصيات قلقة مغتربة يعتصرها الشك ويؤرقها الحلم ويعذبها الأمل وتطاردها الأسئلة المزعجة المربكة .. أسئلة المعنى والحقيقة . وهى برغم ضعفها ووحدتها واهتزاز موقفها، إلا أن حلم الخلاص لا يفارقها، وهى تمضى فى طريقها غير عابئة بالنتائج أو المصير المأساوى الذى سوف يلاقيها. هكذا كان الحال مع سعيد مهران، وعيسى الدباغ، وصابر الرحيمي، وعمر الحمزاوي، وأنيس زكي، وجعفر الراوي، إنهم جميعاً مخلوقات ضائعة تفتش عن عالم مفقود وغير موجود، ولكن للأسف فإن المفقود لا يعود ، والضائع لا يعثر على ذاته أبداً !
إن هؤلاء وغيرهم من أبطال نجيب محفوظ يعلمون تماماً أن الوجود عبث، وأن اللعبة خاسرة ، وأن الطريق مسدود، ومع ذلك فهم يرفضون الاستسلام أو التراجع أو الإذعان لعالم ساقط وبلا قيمة "تردُ هذه الشخصيات على عبث الوجود بعبث ينكر كل وجود ويعتبر ذاته الهاربة الوجود الأصيل الوحيد. فأمام عالم يسحق الذاتية كاملة يصبح الدفاع المطلق عن الذاتية فعلاً مقاوماً".
يتوسل البطل العبثى طريقاً للخلاص، ويستجدى شيئاً من المعنى فلا يجد إلا ذاته يلوذ ويفوز بها بوصفها الصخرة الأخيرة التى تنعقد عليها آماله المجهضة وأحلامه الضائعة ، غير أن حلم الخلاص لا يتحقق إلا من خلال التواصل مع الآخر سواء كان هذا الآخر هو المرأة التى أحبها فى تجربة العشق، أو المتلقى أو المتذوق الذى يبحث عنه المبدع فى عملية الإبداع، أو الجماهير التى تتبنى حلم التغيير فى الممارسة الثورية ، أو الله الذى إليه تتضرع القلوب فى التجربة الصوفية.
إن أزمة الخلاص فى أدب محفوظ هى أزمة غياب الآخر فى كافة أشكال حضوره وتجليه. ولا ريب فى أن احتجاب الآخر واختفاءه يخلق عالماً منزوع الإنسانية ، ويجعل من أبطال محفوظ ضحايا للخلل بشقيه السياسى والكوني، كما يجعلهم ضحايا لنرجسياتهم العمياء وأنانيتهم المفرطة التى تجعلهم ينتقلون من زمن السقوط والضياع إلى زمن الاغتراب والعبث، وفى النهاية لا يبقى لهم من عذاب الرحلة سوى الموت أو السجن أو المجهول أو الجنون.
فسعيد مهران ينهى مصيره بالموت بعد أن يتورط فى قتل الأبرياء بدلاً من أن يقتص من الأوغاد والخونة ، والرصاصات الطائشة التى أخطأت هدفها جعلته يؤمن بأن وجوده عبث، وأنه لا معنى لحياته إلا إذا مات موتاً له معني، أو كما يناجى نفسه قائلاً : "مأساتي الحقيقية أننى رغم تأييد الملايين أجدنى ملقى فى وحدة مظلمة بلا نصير، ضياع غير معقول ولن تزيل رصاصة عنه عدم معقوليته ولكنها ستكون احتجاجاً دامياً على أى حال، كى يطمئن الأحياء والأموات ولا يفقدوا آخر أمل" ... "فالرصاصة التى تقتل رؤوف علوان تقتل فى الوقت نفسه العبث. والدنيا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية . ولست أطمع فى أكثر من أن أموت موتاً له معنى".
أما رحلة عيسى الدباغ من القاهرة إلى الإسكندرية فتنتهى بالسقوط فى أحضان امرأة ساقطة لا يجنى من ثمرة علاقته بها سوى طفلة برئية يحاول عبئاً أن يجدها ولكن بلا جدوى.
ويبدأ صابر طريقه بالخروج من حضن الأم الساقطة ليسقط فى مصيدة العشيقة الماجنة ، وليصل فى النهاية إلى جدران السجن القاحلة. وفى طريق مواز لطريق صابر يخوض عمر الحمزاوى مغامرة البحث عن الحقيقة فيهرب من سأم الحياة الزوجية إلى خواء المغامرات الجنسية لينتهى به المطاف إلى حالة أقرب إلى الجنون منها إلى التصوف.
أما جعفر الراوى فلا يكسب من عناء حياته المضيعة إلا الاستسلام للجنون، وها هو يهتف فى نهاية الرواية : "لتمتلئ الحياة بالجنون المقدس حتى النفس الأخير".
أما أنيس زكى ولى أمر عوامة المساطيل، فيدرك بعد أن يفيق من سحر الغياب ومن غيبوبة الكيف مدى سخف المغامرة الإنسانية، وأن أصل المأساة يكمن فى وعى الإنسان المفاجئ بذاته ورغبته فى ممارسة الحرية ، حرية الاختيار، تلك الحرية التى أدت لطرد آدم من الجنة. فالحرية مخاطرة، والوعى نقمه، والأمل محنة ، والطريق إلى المعنى لم يزل طويلاً وبعيداً ؟
"أصل المتاعب مهارة قرد !
تعلم كيف يسير على قدمين فحرر يديه
وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة
وقالوا له عُد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش.
فقبض على غصن شجرة بيد وعلى حجر بيد وتقدم فى حذر
وهو يمد بصره إلى طريق لا نهاية له".
*عميد كلية الأداب جامعة الزقازيق واستاذ الفلسفة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.