واضح تماما الآن, وفي ظل كل خلفيات التحريض والشحن المتبادل حول مشروع مسودة الدستور والإصرار علي الاستفتاء عليه في الموعد المحدد, أن مصر باتت محشورة بين مشروعين يتصارعان حول مستقبلها; المشروع الأول. هو المشروع المنتسب شرعيا للثورة وأهدافها المؤكدة عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية, والداعي لإقامة دولة مدنية ديمقراطية لا عسكرية ولا دينية, ولكن دولة ترتكز علي مبدأ المواطنة المتساوية وتضمن الحقوق والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل المواطنين, دولة تحقق كفاءة الإنتاج وعدالة التوزيع بما يكفل التقدم المنشود في جميع مواردها وقدراتها الذاتية. المشروع الذي نعنيه هنا هو مشروع الدولة العصرية القادرة بالعلم علي إنتاج المعرفة والمشاركة بكفاءة في التقدم العالمي في جميع مجالاته. أما المشروع الثاني فهو مشروع الدولة الدينية المرتبط عقليا وعاطفيا بدولة السلف, أي دولة الارتداد للماضي, وإعادة إنتاج دولة السلف بدافع من الولاء للعقيدة والشريعة. بأمانة شديدة مثل هذه الدولة لم تكن غاية أو هدفا من غايات وأهداف تحريك ملايين المصريين للنزول إلي الشارع ابتداء من يوم28 يناير2011 وحتي يوم11 فبراير2011 لإسقاط نظام حسني مبارك. هذه الملايين لم تنزل إلي الشارع لا دفاعا عن العقيدة ولا دفاعا عن الشريعة, ليس إهمالا أو تجاهلا للعقيدة والشريعة ولكن لثقة في ثبات العقيدة والإيمان عند المصريين, ولأن الشريعة لم تكن غائبة عن القانون المدني المصري قبل الثورة, وكان الدستور الحاكم منذ عام1971 ينص في مادته الثانية علي أن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. هذه الملايين نزلت لإسقاط دولة الفساد والاستبداد وإنهاء كل أشكال احتكار السلطة والثروة واسترداد مصر لأهلها وبناء دولة تحقق عزة وكرامة مصر والمصريين. لذلك فإن مشروع الدولة الدينية يعتبر مشروعا دخيلا علي الثورة ويعتبر انتكاسا لتعهد الرئيس محمد مرسي فيما عرف ب وثيقة فيرمونت يوم22 يونيو2012( قبيل يومين فقط من الإعلان الرسمي لفوزه بالرئاسة) التي نصت علي أن الدولة مدنية ديمقراطية لا دينية ولا عسكرية, فضلا عن أنها تضمنت النص علي مبدأ الشراكة الوطنية الجامعة كأساس للحكم الجديد تحسبا لأي محاولة من أي فصيل سياسي أيا كان للتفرد بالسلطة والاستئثار بها. الصراع بين هذين المشروعين: مشروع الدولة العصرية المدنية الديمقراطية, ومشروع الدولة الدينية كما يطرحه أصحابه وكما يفرضون الشريعة عنوانا له, ويعلنون الجهاد من أجله هو الصراع الحاكم الآن لما يمكن تسميته بالعملية السياسية في مصر, وهو الذي سيحكم هذه العملية أيا كانت نتيجة الاستفتاء علي مسودة الدستور. فإذا كانت المؤشرات الأولية لجولة الاستفتاء الأولي التي جرت يوم السبت الفائت تقول أن حوالي57% من الأصوات الصحيحة لمن شاركوا في الاستفتاء قالوا نعم وأن حوالي43% قالوا لا, وإذا كانت النتيجة النهائية, بعد جولة الاستفتاء الثانية يوم السبت المقبل ستكون مؤكدة أو غير مؤكدة لهذه النتيجة, فإن المحصلة تقول أننا أمام دستور انقسم حوله المصريون نصفهم تقريبا قالوا نعم ونصفهم تقريبا قالوا لا, ما يعني غياب الشرط الأساسي لشرعية هذا الدستور وهو الرضا والتوافق الوطني.فالدستور ليس وثيقة خاصة بالعقيدة أو بالشريعة ولكنه عقد سياسي اجتماعي بين كافة أبناء الوطن, تعاقد كأي تعاقد, يستلزم شرطي الرضا والتوافق الوطني دون إكراه أو إرغام, يستهدف تجديد شكل الدولة وسلطاتها, والعلاقة بينها ووظيفة كل منها, كما ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وكيفية توزيع كافة عناصر القوة والثروة بالعدل بين كل المصريين, لذلك فإن مثل هذا التعاقد لا يخضع لقاعدة التصويت التقليدية بالأغلبية لكنه يستلزم الرضا والتوافق الوطني وهذا الشرط لم يتحقق, لا في صياغة الدستور ولا في الاستفتاء عليه. فضلا عن ذلك, غاب عن هذا الدستور الضمانات القانونية التي تكمل شرعيته. فلا يوجد نص رسمي جري نشره في الجريدة الرسمية يقول هذا هو النص الدستوري الذي يجري عليه الاستفتاء, ولم يدمج هذا النص في استمارة التصويت حتي يعرف كل مواطن أي دستور يستفتي عليه. كما غاب الإشراف القضائي الحقيقي بعد أن أعلن أكثر من90% من القضاة في جمعيتهم العمومية الطارئة رفضهم الإشراف علي الاستفتاء, ولم يعلن المستشار زغلول البلشي رئيس لجنة الاستفتاء من الذين ترأسوا اللجان الفرعية أو الرئيسية في جولة الاستفتاء الأولي, ولا من سيكون هؤلاء في جولة الاستفتاء الثانية يوم السبت المقبل. وفضلا عن ذلك غابت الرقابة الشعبية الحقيقية علي عمليتي التصويت والفرز وإعلان النتائج, ولم نعرف من كل هؤلاء الذين كانوا يدخلون ويخرجون أثناء الفرز ويشاركون في التعامل مع بطاقات الاستفتاء.ولم تتوافر أي ضمانات حقيقية لجدية التصويت والفرز, خاصة أن من أشرفوا علي الاستفتاء إما أنهم من قضاة الموالاة وإما أنهم من خارج السلك القضائي تماما. نحن إذن أمام استفتاء مشكوك في شرعيته وأمام دستور مشكوك في شرعيته, منذ تأسيس الجمعية التأسيسية والانقسام الذي حدث داخلها, ومنذ الإصرار الرئاسي علي التمسك بموعد الاستفتاء, أما ثالثة الأثافي فكانت آليات عملية الاستفتاء ذاتها التي جرت علي جولتين في تصرف غير مسبوق. المعني المباشر لهذا كله أن الصراع سوف يتفاقم بين المشروعين, لكن الخطورة تتزايد مع تحول الصراع بينهما من مجرد صراع سياسي إلي صراع دموي مع اللجوء المتزايد للسلاح لتصفية الحسابات وللانتصار لكل من المشروعين, ومن هنا بالتحديد تتأكد مسئولية الرئيس. فالرئيس أمام خيارين; إما أن يبقي منحازا لمشروع دون الآخر ولفصيل دون الآخر, وأن يلتزم بفرض الدستور إذا كانت النتيجة هي نعم ضاربا عرض الحائط بأبجديات مسئولياته الدستورية في حماية الوطن, وأما أن يأخذ مبادرة جريئة بطرح مشروع سياسي للتوافق الوطني سواء كانت نتيجة التصويت مع نعم أو مع لا, مشروع يستعيد قواعد التوافق والشراكة الوطنية والثقة بين جميع التيارات, مشروع يستلهم أهداف الثورة وطموحات الشعب, لأنه بدون ذلك لن يستطيع أحد أن يوقف عجلة الانحدار نحو الهاوية بالجميع, علي أن تكون أولي نصوص هذا المشروع هو الإقرار بأن الدستور الذي جري الاستفتاء عليه مؤقت وأن نصا بديلا سيجري الإعداد له بروية وبتوافق وطني كامل في أقرب وقت ممكن. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس