اعتقد أنه بات في مقدوري أنا وغيري كثيرون أن نجيب بيقين عن السؤال الذي فرض نفسه طيلة الأسابيع التي شهدت الانقسام الوطني علي مشروع التعديلات الدستورية والاستفتاء الشعبي علي هذه التعديلات في مارس من العام الماضي وعلي الأخص ذلك الاستنفار السلفي الإخواني لدفع ملايين المصريين للإجابة ب نعم علي هذا الاستفتاء. كنا نتساءل: لماذا كل هذا الإصرار علي فرض الإجابة ب نعم علي استفتاء فاسد إجرائيا لأنه يضم العديد من النصوص التي قد يوافق المرء علي بعضها ويرفض بعضها الآخر, ومن ثم يصعب عليه أن يجيب في الإجمال ب نعم أو لا. ولماذا كل هذا التشويه المتعمد للغير وتحويل الحوار السياسي أو حتي الخلاف السياسي حول موضوع بالأصل ذي طبيعة سياسية إلي صراع عقيدي ساخن لدرجة وصف عملية الاقتراع علي هذه التعديلات الدستورية بأنها معركة حربية حملت اسم غزوة الصناديق الأمر الذي حول خلافاتنا السياسية إلي معارك بل وإلي حروب وتصفيات وإقصاء للآخرين. كان جوهر الخلاف حول تلك التعديلات الدستورية يتركز في موضوع محدد هو هل يجب أن نبدأ بعد نجاح ثورتنا بوضع دستور جديد للبلاد تتحول به الشرعية الثورية إلي شرعية سياسية ونبني من خلاله نظاما سياسيا جديدا يعبر عن آمال وأحلام المصريين في مصر التي يريدونها وطنا عزيزا كريما قويا ومقتدرا ينعم بالرخاء والعدل والكرامة ويتمتع بالسيادة والاستقلال في قراره الوطني وعلاقاته الخارجية مع كل دول العالم, أم نبدأ بالانتخابات التشريعية (مجلس الشعب ثم مجلس الشوري) وبعدها الانتخابات الرئاسية, ثم نتجه بعدها إلي صياغة الدستور الجديد ووضع أسس النظام الجديد. الآن وفي ظل ما يجري من صراعات داخل الجمعية التأسيسية للدستور وما جري من تدبير لاختيار جمعية تأسيسية بأغلبية مطلقة من تيار الإسلام السياسي وإقصاء تيارات سياسية مهمة إقصاء كاملا أضحت الإجابة واضحة للسؤال الخاص بأسباب تحويل الخلاف علي الاستفتاء علي التعديلات الدستورية إلي حرب وإلي غزوة صناديق. فالهدف هو أن يفرض علي الشعب دستور ترضي عنه فصائل وأحزاب تيار الإسلام السياسي وفق أولوياته التي تركزت بصفة أساسية علي الشريعة دون غيرها من القضايا الأساسية والجوهرية المرتبطة بنظام الحكم والعلاقة بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية واختصاصات كل منها. فالصراع الدائر الآن في الجمعية التأسيسية الذي أدي إلي انسحابات كثيرة من عضوية الجمعية سببه إصرار تيار الإسلام السياسي علي الانتهاء الكامل من إعداد الدستور قبل يوم 2 ديسمبر المقبل وهو موعد إعلان حكم المحكمة الدستورية العليا بدستورية أو عدم دستورية الجمعية, وهذا ما أدي إلي تصادم مع الأعضاء الذين يرفضون التعجيل في إقرار مواد الدستور قبل التبصر والتدقيق فيها. فالانسحاب من الجمعية التأسيسية جاء رفضا للجدول الذي وضعته أمانة الجمعية التأسيسية في مطلع شهر نوفمبر الجاري للانتهاء من المناقشة النهائية لمواد الدستور وإحالتها إلي لجنة الصياغة المصغرة لتكتب المسودة النهائية للدستور والتصويت النهائي عليها وإحالتها إلي رئيس الجمهورية قبل يوم2 ديسمبر المقبل. كما أن الانسحاب جاء اعتراضا علي المعارك المفتعلة حول المواد المحدودة الخاصة بالشريعة وفرض نصوص من شأنها إعطاء أشخاص المجتمع (مع الدولة والمجتمع) حق حماية الأخلاق والآداب العامة وحمايتها والتمكين للقيم الأصيلة ما يعني إمكانية تشكيل جماعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون همها مطاردة المواطنين في خصوصياتهم وحق تأديبهم علي النحو الذي يريدونه. الإصرار علي الانتهاء من الدستور قبل يوم 2 ديسمبر والرفض المطلق لمطلب التمديد لشهرين أو ثلاثة للتمكن من وضع دستور يليق بمصر وثورتها وآمال شعبها, سببه الخوف من أن يأتي قرار المحكمة الدستورية ليفرض حل الجمعية التأسيسية, ويلزم رئيس الجمهورية بتشكيل جمعية تأسيسية جديدة. جوهر رفض تشكيل جمعية تأسيسية جديدة هو الخوف علي الأغلبية الراهنة للتيار الإسلامي السياسي في الجمعية الحالية, والخوف من أن يضطر الرئيس تحت ضغوط المعارضة أن يشكل جمعية متوازنة لا يحظي فيها الإسلام السياسي بالأغلبية لفرض الدستور الذي يريده. هذا الخوف هو الذي يفرض التعجل الراهن للانتهاء من إعداد الدستور, وهو الذي فرض تعمد تجاهل دور اللجنة الفنية الاستشارية التي تضم تسعة من الخبراء المتخصصين في العلوم السياسية والقانون الدستوري والرموز الوطنية. فقد جري تجاهل كل مناشدات هذه اللجنة أن تخصص لهم جلسات استماع مع الجمعية التأسيسية أو لجنة الصياغة الموسعة, أو أن يضم اثنان منهم لعضوية لجنة الصياغة المصغرة. رفض كل هذه المطالب, وطرح مواد الدستور للإقرار النهائي دون اكتراث بما قدمته هذه اللجنة ودون انتظار لانتهائها من كامل عملها دفع أعضاءها للاستقالة يوم السبت الماضي, وإعلان عزمهم علي مواصلة عملهم وصياغة دستور بديل يليق بمصر يقدم للشعب. هذا الخوف من احتمال تشكيل جمعية تأسيسية جديدة من شأنه تعريض الدستور الجديد لعدم الشرعية ومن ثم افتقاد الإلزام وتعريض كل ما سيترتب عليه لعدم الشرعية أيضا. فالانسحابات الواسعة التي حدثت من ممثلي الكنائس الثلاث وحزب الوفد واللجنة الفنية الاستشارية وممثلي التيار المدني جعلت تيارا واحدا فقط هو من سيكمل وحده عملية إعداد مسودة الدستور, وهذا التفرد معناه تفريغ للدستور من شرعيته, كما أن احتمال صدور حكم من المحكمة الدستورية بعدم دستورية الجمعية التأسيسية سيجعل الدستور الجديد, وكل ما سيبني عليه من انتخابات جديدة عرضة لعدم الدستورية حتي لو جاء الاستفتاء بنعم علي مسودة الدستور الجديد عبر افتعال غزوة صناديق جديدة وترهيب الناس من فساد دينهم وخسارة دنياهم إن لم يذهبوا إلي صناديق الاقتراع ويقولوا نعم لدستور فرض بالمغالبة لا بالتوافق الوطني والرضا الشعبي العام الذي هو المصدر الحقيقي لكل شرعية. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس