للمجتمع المدني تعريفات متعددة لكن أبسطها هي أنه ذلك المجتمع الذي تقوم العلاقة بين أفراده علي عنصرين اثنين لا ثالث لهما, العنصر الأول هو الثقافة المشتركة بما تحتويه تلك الثقافة من قيم وسلوك وعلاقات بين الأفراد وطرق تفكير, والعنصر الثاني هو المصلحة التي تقوم علي أساس أن هناك مصالح مشتركة بين الافراد جميعا وتتولي الثقافة والقيم التوفيق بين المصالح المتعارضة في تلك المجتمعات. ومن الطبيعي والحال كذلك أن يخرج من هذا التعريف المجتمعات القبلية والعشائرية, التي تبني العلاقات بين أفرادها علي رابطة الدم وحدها والانتماء إلي جد مشترك, ويخرج عن هذا التعريف كذلك المجتمعات الدينية التي تقوم علي الانتماء إلي دين واحد تحكمه نصوص مقدسة يقوم عليها كهنة مقدسون كذلك, ومن الطبيعي والحال كذلك أن تحيط تلك المجتمعات بدعاوي من العنصرية والنقاء العرقي في مواجهة من لا يشترك معها في نفس الأصل, أو بدعاوي من القداسة المطلقة في مواجهة من لا ينتمي الي نفس الدين. علي أساس من فكرة المدنية قام المجتمع المصري منذ أقدم العصور, فقد كانت القري تقوم علي أساس من المصالح المشتركة في تنظيم الري ومواجهة غضبات النهر ورعاية الملكيات الخاصة, وتنوعت العبادات والآلهة المصرية التي رعت جميعها تلك المصالح المشتركة وحضت علي التعاون والتسامح والحرص علي المصالح المشتركة. وهكذا دلفت مصر من عصورها الوسطي إلي العصر الحديث في زمن محمد علي بهدوء وسلاسة(1805-1848) فاحتفي الناس ببعثات محمد علي التعليمية إلي إيطاليا وفرنسا والنمسا كجسر للتواصل بين مصر والحضارة الحديثة, رغم أن تلك البلاد في المخيلة الدينية هي بلاد الفرنجة والكفار, واستبدل هؤلاء المبعوثون جلابيبهم التقليدية بالبدلة والطربوش ورابطات العنق, وقبل الناس مواجهة محمد علي العنيفة لدولة الخلافة العثمانية, وارتضوا بالتنظيمات الحديثة للدولة والبنوك والتعليم الحديث وقبلوا الموسيقي الحديثة والمسرح والسينما والراديو والتليفون, واندفعوا معا علي اختلاف عقائدهم وطبقاتهم وثقافاتهم لمواجهة الاحتلال البريطاني وصيانة استقلال البلاد وتأسيس الجامعة الحديثة. سرت روح القبول والتسامح من ثقافة المجتمع إلي ديانات وعقائد سكانه, فعرفنا في الاسلام الشيعة ومذاهب أهل السنة والصوفية, وعرفنا في المسيحية إلي جانب الأرثوذكسية العتيدة البروتستانتية والكاثوليكية وعرفنا من اليهود السبتيين والقرائين وعرفنا البهائية والماركسية والعلمانية وغيرها. ولظروف وأسباب لا يتسع لها المقام جرت في نهر الوطن مياه كثيرة. وفي منتصف السبعينيات وما تلاها عرفنا الجماعات الاسلامية التي استلهمت قيم وأفكار المذهب الحنبلي فراحت تنشرها في المجتمع المصري, فتسعي لتأكيد التمييز بين المسيحيين والمسلمين, وتشيع مساجلات اعتقادية تبذر بذور التطرف والتعصب, وتفرض ما تراه زيا شرعيا إسلاميا, وتسعي للفصل بين الاناث والذكور, وتجرم وتحرم الغناء والموسيقي. وفي ظل غياب مشروع ثقافي للدولة وقبضتها الرخوة, راحت تفرض ما تراه صحيح الدين بالقوة, وتوهمت في ظل غياب الديمقراطية وعدم تعرض مقولاتها للاختبار أنها أصبحت تملك القدرة علي الحكم وادارة شؤون البلاد, وفق رؤاها القاصرة والرجعية والبدوية. وشهدت بلادنا ثورة رائعة انتهت بتولي الرئيس محمد مرسي رئاسة الجمهورية الذي ينتمي لأهم فصيل من فصائل التيارات الإسلامية وتطورت الأحداث بحيث كان الصدام في الأيام الأخيرة محتما بين رئيس ينتمي لتلك التيارات ومجموعة لا يعرفها احد تزين له اعلانا دستوريا كريها ودستورا مشوها وبين الشعب بأكمله. وشهدت بلادنا موجات من الاحتجاج علي دخول بلادنا المرحلة الاخوانية, ولقد تداعت الأحداث لنشهد هجوما علي المتظاهرين السلميين حول قصر الاتحادية, مما أسقط العديد من القتلي والمئات من المصابين, ومع تقديري البالغ للمعركة السياسية بين الاستبداد والديمقراطية, فإنني أظن أن المعركة الأهم هي معركة إستعادة مصر المدنية بتراثها الفكري الانساني وادراكها التاريخي لمعني العلم والتقدم والتحضر, ولاحترام الانسان واختياراته وارادته, ولقيمها الثقافية النبيلة التي احتنضت الطهطاوي ومحمد عبده ولطفي السيد وشوقي وحافظ وطه حسين والعقاد, وتراثها الفني في السينما والمسرح والموسيقي والغناء, أي باختصار استعادة مصر وجهها الصبوح. المزيد من مقالات د كمال مغيث