أكتب إليك رسالتي بعد أن وصلت إلي طريق مسدود, وضاقت بي الأرض بما رحبت,وأنتظر طوق النجاة الذي ينتشلني من الحياة القاسية التي أحياها. فأنا فتاة في العقد الثاني من عمري, نشأت في أسرة متوسطة لأب يعمل مديرا لإحدي الشركات, وأم ربة منزل حاصلة علي شهادة جامعية ومثقفة, وأنا الابنة الوسطي, ولي أختان, وقد وجدتني أعيش مأساة كبري بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان, وأتمني الموت علي الاستمرار في العذاب الذي أعانيه, فأبي يعاملنا معاملة قاسية تصل إلي درجة الإهانة والضرب المبرح, والطرد من المنزل في منتصف الليل. ومرت علينا ليال مريرة فقدنا فيها الحنان والرعاية, وذقنا الحرمان من كل شيء حتي الطعام والشراب والملابس التي يحرص كل أب علي أن يشتريها لأولاده, فلقد عودنا علي الخوف والرعب الشديد منه, وحتي أمنا لم تسلم من أذاه ومن السباب و الشتائم, ووصل به الأمر إلي حد توجيه اتهامات لها في أخلاقها وشكه في سلوكها, والحقيقة أنها تحاملت علي نفسها كثيرا, وكانت تكتم أحزانها ولا تشعرنا بأي شيء, وتصدت له كلما حاول أن يتعرض لإحدانا حتي تفوقنا في دراستنا, فمنا الطبيبة والمهندسة والحاصلة علي أعلي الدرجات العلمية التي يتشرف ويتباهي بها أي أب, وكان دافعنا إلي هذا النجاح هو تطلعنا إلي اليوم الذي تتبدل فيه الأحوال إلي الأحسن, ويعود إلي رشده, ويحمد ربنا علي فضله وكرمه بما أعطاه من نعمة يحسده عليها الآخرون, لكنه لم يدرك قيمة ما معه, والأدهي والأمر ما عرفناه عنه من أنه يرافق السيدات الساقطات والبنات ممن هن في مثل أعمارنا, وينفق عليهن ببذخ في الوقت الذي يضن فيه علينا نحن فلذات كبده بكلمة حلوة. أعلم يا سيدي أنك تتعجب من كلامي وربما لا تصدقه, لكنها الحقيقة المرة التي عايشناها ومازلنا نحياها مع أبينا, هل, تتصور, أننا كنا نذهب إلي المدرسين ونشرح لهم ظروفنا, فكانوا يلتمسون لنا الأعذار, ويعطوننا دروسا مجانية أحيانا, وبأسعار مخفضة أحيانا أخري وأبي لايسأل عنا؟! ولو أن الأمر توقف عند هذا الحد ما كانت هناك مشكلة, لكنه تمادي في تصرفاته التي يأباها العقل والدين, وساءت سمعته في الشركة التي يعمل بها, وواجهنا مواقف محرجة كثيرة من الجيران وبعض موظفي الشركة التي يديرها, وأيضا الأقارب الذين فاتحوا والدتي فيما يفعله, وبرغم كل هذا لم يعبأ أو يلقي بالا لأي كلام عنه, بل تمادي في تصرفاته غير اللائقة, وسلوكه المشين, ولا يريد أن يتراجع عما هو سائر فيه. ولم يكتف بذلك, حيث بدأ التخطيط لتزويجنا حسب مزاجه, حيث أجبر أختي الكبري علي الزواج بالإكراه من شخص لا نعرفه خلال فترة وجيزة لا تتعدي الشهرين, وبعد الزفاف بدأ في تحريض زوجها ضدها, وجاءتنا تشكو مما يفعله معها, فإذا بأبي ينصره عليها, ويؤازره في أي موقف يتخذه ضدها, وتحملت مصاعب جمة لكنه لم يبال بما تعانيه, وبرغم أنها أنجبت منه ولدين فإنه سائر في غيه وظلمه لها, وتريد الآن الانفصال عنه, لكنها لا تعرف إلي ذلك سبيلا, فلقد أوصد أبي كل الأبواب في وجهها, وأدعي أنها مختلة عقليا, ولا أدري كيف تكون كذلك وهي حاصلة علي درجة علمية رفيعة؟!. والآن يريد أن يكرر هذه المأساة معي بالطريقة نفسها, حيث يسعي لتزويجي لصديق له في العمل عمره ثلاثة وخمسون عاما, مبررا قبوله به بأنه من أصحاب القوة والنفوذ والمال, ويغريني بالماديات تارة, وبالتهديد والوعيد تارة أخري, مستخدما سياسة العصا والجزرة, ليس معي فقط, ولكن مع أمي أيضا التي مازالت تناضل من أجلنا. إنني لا أري أمامي سوي مستقبل مظلم.. أتدري ماذا فعل معي والدي عندما رفضت هذه الزيجة؟!, لقد أجبرني أنا وأختي علي البقاء في المنزل وعدم الخروج منه, وهددنا بذبحنا إذا لم نلتزم بما يمليه علينا, وكلما خلوت إلي نفسي أدعو الله أن يرق قلبه لنا, فلا يتمادي في إيذائنا, وأسأله عز وجل أن يهديه إلي سواء السبيل, وإنني أسألك: ألا من حل لمشكلة هؤلاء الآباء الذين ينكلون بالأبناء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟! ولكاتبة هذه الرسالة أقول: آفة بعض الناس أنه يتصور أن السعادة في جمع المال. والحصول علي الملذات حتي لو كان ذلك علي حساب بيته ودينه وأولاده, فهو يتعامي عن كل شيء ولا ينظر إلا إلي نفسه فقط دون اعتبار لمن حوله, ولا لصورته التي تهتز وسط مجتمعه أو أولاده الذين يحصدون الثمار المرة التي هي من صنعه. ووالدك واحد من هؤلاء, فلقد انجرف في تيار الانحراف والسقوط التام, فأقام علاقات مشبوهة غير عابئ بما يترتب علي أفعاله من نتائج سلبية تتعلق بسمعة بناته ومكانة أسرته في محيط مجتمعهم, وسيطر المال علي تفكيره, فلم يتورع عن اجباركن علي الزواج ممن هم في مثل عمره, لمجرد أن هذا أو ذاك سوف يدفع له المبلغ الذي يريده, ولن يكلفه مليما واحدا في الأثاث وخلافه, والغريب أنه يفعل ذلك وهو رجل يحتل منصبا مهما, ولديه دخل يكفيه هو وأسرته لحياة سعيدة ومستقرة لا تعوزها الحاجة, ولا ينقصها شيء.. لكنه السلوك المتدني والأعمال الدنيئة التي تأكل في طريقها الأخضر واليابس فمهما أوتي من مال لن يشبع, ومهما حقق من مغامرات لن يشعر بالسعادة والراحة التي يتطلع إليها. وانني أدعوه إلي أن يتوقف قليلا عند حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم من بات آمنا في سربه معافي في بدنه, عنده قوت يومه, فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها, أي نال أحسن السعادات وأفضل الخيرات, وكلنا يملك هذا المفتاح السحري للسعادة, لكن الكثيرين لا يذكرونه ولا ينظرون إليه, أو يولونه اهتمامهم. ولن يهتدي إلي السعادة أو ينعم بها إلا من اتبع الصراط المستقيم, إذ إنه سيكون حينئذ مطمئنا لحسن العاقبة, واثقا من طيب المصير, عالما بأن له ربا يهديه إلي سواء السبيل, ولعل أباك يفيق مما هو فيه ويدرك أنه بأفعاله هذه يلقي ببناته إلي الهلاك نظير ثمن بخس, ويعرف أن الدنيا كلها لا تساوي أن يقدمهن واحدة بعد الأخري غنيمة لمن يدفع أكثر, وعليه ألا يكرههن علي الزواج ممن لا يتناسب معهن عمرا وفكرا, فللبنت احتياجاتها النفسية والعاطفية وسوف يحاسبه الله علي ما يقترفه في حقهن من ذنوب وخطايا. ولا يفوتني أن أحيي والدتك التي لم ترضخ لضغوطه وترفض بإصرار أفكاره وأفعاله الشيطانية.. وأنصحك بالصبر واليقين في أن الحل سيكون قريبا, بإذن الله, فالدنيا مزيج من العسر واليسر, إذ يقول الحق تبارك وتعالي في كتابه الكريم إن مع العسر يسرا.. أسأل الله لأبيك الهداية ولكم الصبر والتوفيق.. إنه علي كل شيء قدير.