من مظاهر فشل النخب السياسية والحزبية والفكرية, سواء كانت في سدة الحكم اليوم , أو كانت في صفوف المعارضة; أن تلك النخب تقدم ما يمكن أن يتأخر من القضايا وتنهمك في الانشغال باختياراتها ومصالحها, وتؤخر ما لا يمكن وما لا يجب أن يتأخر; حتي لو كان هو اختيار السواد الأعظم من المواطنين ومعبرا عن مصالحهم. وفي كل الحالات لا يتردد الجميع في أن يرفع شعارات الدفاع عن مصلحة الشعب, وعن سيادة القانون, وحتي عن أهداف الثورة; في حين أن الواقع يشهد بأنهم مشغولون بمواقعهم وأهدافهم الخاصة أكثر من انشغالهم بقضايا ومشكلات عموم المواطنين. وأقرب مثال علي ذلك هو ما حدث بشأن النائب العام, والضجة المفتعلة التي ضخمت الموضوع علي حساب دماء الشهداء أولا وأخيرا. وأقول إن القضية الاقتصادية بتشعباتها التي تشمل: اتساع دائرة الفقر, وارتفاع نسبة البطالة, وانخفاض مستويات المعيشة للسواد الأعظم, وتفاقم مشكلة الإسكان; هي من القضايا التي تحتل أولوية متقدمة لدي عموم المصريين بدلالة نتائج استطلاع الرأي الذي قمنا به في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عشية ثورة يناير, وبدلالة الواقع الذي لا تخطئه العين المجردة. هذه القضية لم تعد في رأينا مجرد قضية اقتصادية معقدة وإنما تحولت إلي سلطوية بالغة القسوة يمارسها المترفون علي القطاعات الواسعة من المفقورين والمظلومين. وتتجلي وقائع القسوة هذه السلطوية علي مختلف جوانب الحياة اليومية للقطاعات الشعبية الواسعة من الفقراء وصغار الفلاحين والموظفين والعمال والمهمشين وسكان العشوائيات(بلغ عدد سكان العشوائيات16 مليون نسمة; أي ربع إجمالي سكان مصر حسب إحصاءات سنة2011). وأنا هنا أناقش ما ورد بشأن تلك القضايا والمشكلات الاقتصادية في برامج جماعة الإخوان المسلمين. أدرك تماما أن الوقت لا يزال مبكرا جدا للحكم علي ما قدمه الإخوان في تلك البرامج لمعالجة ما أسميته سلطوية المترفين; سواء من واقع السياسات التي طبقها الرئيس محمد مرسي في الشهور الأولي لحكمه, أو من واقع المناقشات البرلمانية لحزب الحرية والعدالة; فقد كان عمر البرلمان قصيرا ولم تتح لجميع القوي الممثلة فيه فرصة كافية لطرح تصوراتها لحل أي مشكلة, أو لتفكيك أي سلطوية كبيرة من نمط هذه السلطوية التي نتحدث عنها. بعض الأرقام قد يكفي في الدلالة علي البشاعة التي بلغتها سلطوية الترف علي الفقراء عشية انهيار نظام مبارك, ولا تزال مصر تتخبط في آثارها السلبية, وستظل تشكل تحديا هائلا أمام النظام الجديد أيا كان الممسكون بأزمته في المرحلة الانتقالية والتي تليها. في عهد مبارك, كان هناك ما يقرب من2000( ألفي رجل أعمال) فقط يستأثرون ب34% من إجمالي الناتج القومي لمصر. وهؤلاء وعائلاتهم انفصلوا عن السواد الأعظم من المصريين وتخطوا الطبقة العليا, وأصبح تعبير القطط السمان الذي أطلقه السادات علي أثرياء الانفتاح في السبعينيات مجرد نكتة قديمة. فهؤلاء الرأسماليون الجدد قد دخلوا فيما يسميه باول فوسيل طبقة عليا غير مرئية أو خارج نطاق الرؤية. هذه الطبقة هي التجسيد القبيح للنيوليبرالية. أعضاؤها من سماسرة السلاح وأصحاب الأعمال عابرة القارات, يعيشون علي استغلال بقية أبناء المجتمع, ولا علاقة لهم بالوطن إذ يمكنهم التواجد في أي مكان في العالم وقتما يشاؤون, أو أن يأتيهم أي شيء من أي مكان في العالم وهم في مكانهم; وأغلب أوقاتهم يقضونها في الفنادق الفاخرة والطائرات الخاصة واجتماعات البيزنس. وتتيح لهم ثرواتهم الخيالية أن يحدثوا تغييرات سياسية وثقافية في بلدانهم دون أن يعرضوا أنفسهم لأدني لوم من عامة المواطنين, أو يلقوا لهم بالا أصلا. وعلي الجانب الآخر هناك من هم دون التصنيف الطبقي ويشكلون غالبية كاسحة من المصريين تصل إلي40% يعيشون تحت خط الفقر( أقل من دولارين في اليوم). وهناك أيضا5.45 مليون موظف حكومي بلغت مرتباتهم20 مليارا من الجنيهات سنويا. بينما بند حوافزهم التي يحصلون عليها بلغ35 مليارا سنويا. وهذه المفارقة بين مرتبات أقل وحوافز أكثر لها دلالة سلطوية بالغة الأهمية. ففلسفة تقليل أساس الرواتب, وتكبير الحوافز تجعل هذا القطاع الكبير من موظفي الدولة رهين الشعور بالأسر الدائم لرؤسائه, ولا يملك إلا أن يدين لهم بالسمع والطاعة كي يضمن حوافزه. ومن جهة أخري بلغ الفرق بين الحد الأقصي والحد الأدني للدخل في مختلف القطاعات الاقتصادية مستوي فلكيا وهو في المتوسط1 إلي1.300.000 مرة. لست معنيا بالتحليل الاقتصادي البحت لهذا الخلل الحاد; وإنما السؤال هنا هو: ما معالم الرؤية التي قدمها الإخوان المسلمون لمعالجة هذه السلطوية الترفية التي بلغت أعلي مراحل قبحها في مواجهة الكثرة الفقيرة من العمال والأجراء والمهمشين؟. في برامج الإخوان نجد جملة من الاقتراحات لمعالجة هذه السلطوية, ولكن يعيبها قدر من الاضطراب والغموض فمثلا: اقترح الإخوان في برنامجهم لانتخابات مجلس الشعب تطبيق نظام الضرائب التصاعدية علي الإيراد العام. لكنهم عادوا في برنامج النهضة لانتخابات رئاسة الجمهورية واقترحوا ما أسموه نظاما ضريبيا مرنا! دون أن يشرحوا لنا لماذا هذا التغيير وما معناه؟. هذا إلي جانب مقترحات أخري مثل: رفع حد الإعفاء الضريبي علي دخول الطبقة الوسطي. ودمج بندي الأجور والمكافآت, وتخفيض الحد الأعلي للأجور إلي30.000 جنيها ليصبح الحد الأدني تلقائيا1300 جنيها دون تحميل الميزانية أعباء إضافية. وأيضا دمج الصناديق الخاصة داخل الموازنة العامة للدولة. ومد مظلة التأمينات الاجتماعية والرعاية الصحية لجميع المواطنين, ومنح العاطلين إعانة بطالة..إلخ. ويبني الإخوان مثل هذه الاقتراحات علي برنامج يستند حزمة من السياسات المالية والنقدية والتجارية, وسياسات أخري تتعلق بالاستثمار المحلي والأجنبي. ما لاحظته هو أن النقاش الجاد حول ما طرحه الإخوان في برامجهم بخصوص القضية الاقتصادية وسلطوية الترف القاسية, لم يحظ إلا بقدر يسير من الاهتمام, وفي دوائر محدودة من الخبراء الاقتصاديين, وخصوصا من الخصوم السياسيين المتنافسين مع جماعة الإخوان. أما أصحاب المصلحة الحقيقيون وهم السواد الأعظم من المصريين فلا يزالون في مواقع المتفرجين. المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم