شغل مفهوم المرحلة الانتقالية حيزا بارزا في تاريخ العرب المعاصر, خاصة حول منتصف القرن الماضي . وفي سياق الربيع العربي وتحولاته; عاد هذا المفهوم للظهور في سياق مختلف; وبات يشغل حيزا كبيرا من النقاش العام بين القوي والتيارات السياسية المختلفة والمتنافسة. مفهوم المرحلة الانتقالية لا يظهر عادة إلا في أعقاب حدث تاريخي مثل قيام ثورة شعبية أو حركة انقلابية تطيح بالنظام وتسعي لتأسيس نظام جديد. ومعيار تاريخية مثل هذا الحدث هو أن ما بعده يختلف جوهريا عما قبله, وتمس تأثيراته مصالح السواد الأعظم من المواطنين. وإليه تنسب المواقف والرؤي, وتعرف بمقدار توافقها أو تناقضها معه. مفهوم الانتقالية بمعناه الإجرائي الضيق, يحيل نظريا إلي إجراءين رئيسيين هما:1 التأقيت, وهو يرتبط بمدة زمنية محددة( ولو بالتقريب), ويفترض أيضا وجوب الإنجاز في مدة زمنية محددة.2 الاستثناء وهو يعني إمكانية القبول ببعض الأحكام غير العادية وتحمل سلبياتها لحين انتهاء عملية الانتقال في المدة المحددة لها سلفا; حتي يتم الوصول إلي وضع الاستقرار وأحكامه العادية. بهذا المعني تكتسب المرحلة الانتقالية أهميتها الوظيفية من جهة المساعدة في الخروج من النظام القديم والتخلص من مخلفاته, ومن جهة التمهيد للدخول في النظام الجديد وبناء هياكله ومؤسساته. إن أحد أوجه معضلات ماقبل المرحلة الانتقالية بالمعني السابق, هو اتساع ظاهرة الانسحاب الجماهيري من المجال العام. وكان هذا الانسحاب بحد ذاته تعبيرا عن وصول أزمة الدولة العربية الحديثة إلي أعلي مراحلها; حيث تناقض هذا الانسحاب مع مبادئ الحداثة السياسية, التي تعني فيما تعني تمكين الشعب من ممارسة حقه الأصيل في الولاية علي نفسه, وأن يكون بالفعل هو مصدر السلطات, وأن يشعر المواطنون أن لهم ذوات حرة. لكن ما حدث منذ بداية التحديث هو أن السواد الأعظم من المواطنين أجبروا علي أن يعيشوا في سيناريو ليسوا فاعلين فيه; فقط كانوا مادة استعمالية, ومتلقية طوعا أو كرها تعليمات المركب النخبوي من قادة الجيش, والبيروقراطية, والمثقفين الحداثيين, الذين أداروا مع قوي خارجية/أجنبية مسيرة التحديث السلطوي التي انتهت بطرد السواد الأعظم من حساباتهم منذ البدايات الأولي لعمليات بناء الدولة الحديثة. لهذا فإن أحد أهم إنجازات الربيع العربي; هو الإقبال الجماهيري الطوعي والواسع علي الدخول في المجال العام ومحاسبة كل القوي والمؤسسات والأفكار المسؤولة عن إفساد عملية التحديث بكل مفرداتها. وعليه فإن مضمون المرحلة الانتقالية في سياق الربيع العربي هو في أحد معانيه إعادة تأسيس مشروع التحديث برمته. وأولي خطوات هذا المشروع هي تقويض السلطويات الإقصائية التي أزاحت السواد الأعظم من المجال العام, ومن ثم بناء مؤسسات تستوعب هذا السواد الأعظم داخلها علي مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة الواعية. ذلك هو الإطار العام الذي تنطرح فيه جميع الإشكاليات التي تواجه الحركات والقوي والجماعات الساعية للتغيير والإصلاح; سواء كانت هذه الحركات والقوي بنت الربيع العربي كحركات الشباب وأحزابهم وائتلافاتهم الثورية الجديدة, أو كانت بنت مراحل سابقة مثل جماعة الإخوان المسلمين; التي نشأت بعد خمس سنوات من بدء العمل بدستور1923, وهو وإن كان أول دستور ليبرالي; إلا أنه قد ارتسمت فيه معالم أغلب السلطويات التي قيدت فرص تحقيق أهداف التحديث. فقد كرس هذا الدستور سلطوية الملك علي البرلمان, وسلطوية النخبة البرلمانية علي الجمهور العام وأصحاب الجلاليب الزرقاء, وسلطوية المدن علي الأرياف, وسلطوية الإقطاع والرأسماليين علي الفقراء والمعدمين. وفي ظل ذلك الدستور استمرت سلطوية الاحتلال الأجنبي الذي سيطر بوسائل شتي علي الملك, والأحزاب, والبرلمان. ولم تفلح ثورة يوليو سنة1952 في التخلص من تلك السلطويات; رغم تعهدها بذلك في مبادئها الستة الشهيرة; بل اتسع المجال لسلطوية جديدة عرفناها في نهاية عهد مبارك باسم الدولة العميقة. الحاصل أن ثمة عديدا من السلطويات التي ترعرعت في سياق عمليات التحديث السياسي وبناء الدولة المصرية الحديثة. وفي نظرنا أن هذه السلطويات بإرثها السلبي هي التي ستعوق عملية التحول الديمقراطي وبناء دولة المواطنة والحرية والعدالة لفترة أطول بكثير من الفترة الانتقالية التي تمر بها مصر بعد ثورة يناير. والتحدي هو في كيفية تفكيك هذه السلطويات كشرط ضروري, وإن كان غير كاف, لإنجاز مهمات التحول الديمقراطي. وأهم هذه السلطويات. سلطوية الجماعة الحاكمة علي عموم المحكومين, باسم الدولة وعبر بيروقراطيتها الرسمية. وسلطوية النخبة المتغربة علي الجمهور العام; باسم المعرفة والتنوير والتقدمية... إلخ. وسلطوية العسكر علي المدنيين, باسم الذود عن الأرض والكرامة الوطنية. وهناك سلطوية الخارج علي الداخل, بحكم الأمر الواقع, ولأسباب كثيرة يتصل كل منها بطرف مع سلطوية أو أكثر من السلطويات السابقة. ومعلوم أيضا أن ثمة سلطويات اجتماعية أخري لم نذكرها مثل سلطوية الرجل علي المرأة وهي ذات جذور أقدم وأسبق من السلطويات التي أنتجتها الحداثة المصرية; ولكن كل هذا لا ينفي أن السلطويات التي أشرنا إليها جاءت في أغلبها نتاجا لعمليات التحديث التي قادها مركب النخبة السياسية والعسكرية والبيروقراطية علي مدي القرنين الماضيين. وعندما تأسست جماعة الإخوان سنة1928 لم تكن هذه السلطويات قد اشتد عودها أو اكتملت قسوتها علي المجتمع; وإنما حدث ذلك بالتدريج وبصفة تراكمية; وإن بخطوات متسارعة في أعقاب ثورة يوليو سنة1952, ثم بمعدل أكثر سرعة خلال العقود الثلاثة التي قضاها مبارك في السلطة قبل أن تخلعه ثورة يناير. التساؤل هنا هو: هل تدل تصرفات ومواقف القوي الحزبية والتيارات السياسية والفكرية في المرحلة الانتقالية للربيع العربي علي أنها تدرك مثل تلك السلطويات, وتسعي لتفكيكها وتخليص المجتمع منها أم لا؟ المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم