يعمل علي مبروك في هدوء، يحاول قراءة مسيرة الحداثة العربية وتفكيكها، للوقوف علي اسباب انتكاساتها، وبدون صخب يقرأ الاستاذ المساعد بقسم الفلسفة في آداب القاهرة، مشاريع »الباشا« القديم، و»الجنرال« الحديث، ينزع الاستار المتراكمة عن الامام الشافعي، وصولا إلي ثورة الخامس والعشرين من يناير. لا يهدف كاتب لعبة »الحداثة بين الجنرال والباشا« عبر دراساته ومقالاته إلي مهاجمة الاشخاص، ولكن إلي نقد الخطاب الذي تقدمه تلك الشخصيات كي يصل ليس وحده ولكن مع الآخرين إلي سد فجوات الخطاب وإلي تعميقه كي يستطيع قراءة الواقع بطريقة سليمة، تمكن من بناء مستقبل مختلف،يغاير الماضي، الذي عمل علي بناء اشكال للحداثة وليس جوهرها، علي حد تعبيره. ربما يبدو صاحب »ما وراء تأسيس الاصول: مساهمة في نزع أقنعة التقديس« قاسيا في حديثه عن النخبة ولكن يبقي هدفه استغلال الفرصة التي جاءت مع الخامس والعشرين من يناير لتصبح ثورة حقيقية تصل إلي العمق المعرفي للمجتمع المصري. مبروك أيضا واحد من أهم زملاء نصر أبو زيد ورفاق رحلته البحثية في »الدراسات القرآنية« بالإضافة إلي ذلك فلقد رافقته في رحلته الأخيرة إلي أندونيسيا للبحث في مشروعهما المشترك حول إنشاء المعهد الدولي للدراسات القرآنية. دعنا نبدأ من مشاكل النخبة كما تراها قبل الخامس والعشرين من يناير .. خاصة وان جزءا من اعمالك ينصب علي محاولة نقد هذه النخبة؟ طوال الوقت انا لا اناقش النخبة كافراد، ولكن خطاب النخبة، فالمشكلة ليست في افراد، فقد يكون الاشخاص حسني النوايا ومخلصين جدا، ويسعون بالفعل إلي الاصلاح، ويدفعون ثمن ذلك، هذا لا يملك احد أن يناقشه او أن يجادل فيه. لكن المشكلة أن رؤي النخبة، او الخطاب الذي يقدمونه هو خطاب أعرج، فالخطاب الذي تقدمه النخبة للاصلاح يقع في براثن الخطاب الذي تواجهه وتريد تغييره وزحزحته. وإحدي أزماتنا أن الانشغال لدينا هو انشغال بالاشخاص، وليس بما يقدمونه، وأنا طوال الوقت مشغول بتوجيه الالتفات إلي الخطابات لا إلي الاشخاص، وليس لديّ مشكلة مع أي شخص ولكن لديّ مشكلة مع الخطاب الذي يقدمه ذلك الشخص. خاصة أن معظم الخطابات لدينا هي خطابات عوراء. بمعني انها عاجزة عن التأثير الفعال، والمنتج في الواقع، فالخطاب عندما يكون مبنياً علي مفاهيم ملتبسة، وحجج غامضة وتراكيب هشة ورثّة، ولا يقوم بعمليات فحص واختبار لتلك المفاهيم، والحجج التي يقوم عليها، ويكتفي فقط بالاتساق الظاهري يصبح خطاباً شكلياً وغير قادر علي إحداث تغيير في الواقع، وحتي إن كان يحوز قدراً من الإجماع الجماهيري سيظل من داخله خطاباً مأزوماً. وما أبرز الأسس التي تري أن خطاب النخبة »الأعور« يرتكز عليها؟ عندما اتحدث عن خطاب النخبة فانا اقصد خطاباً بدأ في التشكل مع بدايات القرن التاسع عشر، وتلك البداية لا تعني فقط رفاعة الطهطاوي، ولكن هناك شخصا اسبق من الطهطاوي وان كان ما حفظه لنا التاريخ من ذلك الشخص ليس بالكثير وهو المعلم يعقوب، وتجد في إحدي عباراته التي وصلت الينا ما يمكن اعتباره »العبارة التأسيسية« بامتياز، لخطاب ظل مهيمناً إلي تلك اللحظة حيث يقول ان »التغيير في مصر لن يكون نتاج انوار العقل، ولا اختمار المذاهب الفلسفية، وانما سيكون تغييرا تصنعه قوة قاهرة علي قوم وديعيين جهلا«هذه العبارة بالنسبة لي دالة علي مسيرة التحديث العربي منذ القرن التاسع عشر حتي الآن، التي هي بالفعل محاولات لبناء التحديث بالقوة، حيث نجد قوة ما تتشكل وتسعي لفرض التحديث علي مجتمعات تقليدية، من هنا ظل مشروع الحداثة العربي إما مشروع »باشا« بالمعني السياسي الضيق، أو مشروع »جنرال« بمعني حكم العسكر، ولم تكن الحداثة في أي وقت من هذا الزمن الممتد حداثة مجتمع، أو جماهير. عندما نري تاريخ التعليم في مصر منذ عهد محمد علي فسنجد أن التعليم طوال الوقت هو عملية إجرائية الهدف منها إنتاج كوادر تخدم مشروع الدولة، أما مسألة خدمة المجتمع واعادة صياغة عقله فهذا أمر غير موجود.التعليم لدينا يخلق عقلا اجتراريا وليس عقلا نقديا، لهذا السبب نجد في الفترة الاخيرة عودة القوي التقليدية وانها هي الفعالة بشكل اساسي مثل العشيرة والقبيلة وإلي آخر تلك الأشكال التقليدية، واذا نظرنا إلي الصراع الموجود الآن في العالم العربي سواء في ليبيا او سوريا او اليمن فسنجد أن الأشكال التقليدية القبلية هي التي تقوم به، فالعالم العربي في السنين الاخيرة اصبح مفرخة للاستبداد والفساد والارهاب، ومثل هذه النتيجة لا يمكن أن تخرج من مجتمع تعرض لعملية تنوير. ونحن الآن نخاف من سيطرة الاسلاميين او السلفيين علي الحكم في مصر بعد قرنين من عملية الحداثة المفترض حدوثها منذ وقت محمد علي، وفي النهاية نجد أن هذه القوي التقليدية هي المؤهلة لأن تكسب الساحة، وتحظي بقدرة كبيرة علي التأثير في الجماهير، وهذا يعني اننا يجب أن ندفع ثمن إهمالنا للمجتمع من »نحن« هنا؟ نحن هنا بالفعل ضمير ملتبس، يشمل الدولة والنخبة بشكل ما، فانا اعتبر نفسي واحداً من الذين سيدفعون الثمن علي الرغم من كوني ناقدا لهذا الخطاب، والنخبة المرعوبة الآن يجب أن تدرك أن هذا ثمن سنوات طويلة من عدم الالتفات لعقل المجتمع وحالته، فالاهتمام بالمجتمع ليس فقط ببناء الكباري أو الطرق الدائرية وإهمال كل ما يتعلق بالعقل. ولكن أعضاء التيار الاسلامي بألوانه من الإخوان إلي السلفيين ليسوا نبتا شيطانيا ولكنهم موجودون ومنتشرون منذ فترة.. فلماذا نري تلك الصدمة التي تشعر بها النخبة الآن؟ إذا حاولت تفسير تلك الصدمة بشكل حسن النية فهي بسبب أن الناس تدرك أن أمامها عملاً طويلاً من أجل عدم سرقة المجتمع.. ولكن مرة أخري من هم »الناس«... بمعني آخر هل بالفعل الجماهير في الشارع تخاف من مجيء الإسلاميين..أم أن تلك مخاوف نخبة معزولة؟ بشكل ما الجماهير لا تمتلك نفس مخاوف النخبة من الإسلاميين، وذلك لأن هذه الجماهير أفزعها فساد مبارك ورجاله، وأصبح بالنسبةلها الحل في مزيد من الاخلاق، لان مبارك ونظامه كانوا بلا أخلاق، كما أن هذا التيار الذي يتحدث باسم الدين ربما يكون أكثر أخلاقاً من نظام مبارك، وبالتالي فهم بديل أفضل. بالتأكيد الناس معذورة في ذلك الشكل من التفكير، وهذا سيرجعنا مرة أخري إلي أننا بلا مؤسسات، فالمؤسسات التي يمكن أن تقوم بعمليات المراقبة والمحاسبة والمساءلة غير موجودة، فأصبحنا نعول علي ضمير الشخص وأخلاقه ومدي خوفه من الله، والتي هي في النهاية كلها معايير ذات طبيعة شخصية جدا. وهنا إذا رجعنا مرة أخري إلي رفاعة الطهطاوي الذي انبهر بفرنسا ورأينا كيف يكتب عن الحاكم، فلا نجد أنه يتحدث عن آليات مؤسسية يمكنها مراقبة ومحاسبة ذلك الحاكم، ولكنه حين يتحدث عن القوة الرادعة للحاكم فهي الحياء، والضمير، ويمكن أن يسدي اليه النصح ولكن بحدود. وهذا يجعلنا نطرح تساؤلا كبيرا حول مفهوم »الدولة الحديثة« الذي يتحدث عنه الكثيرون في العالم العربي الآن، هل لدينا بالفعل دولة حديثة أم أن حالنا يشبه ما تحدث عنه الشاعر العراقي معروف الرصافي في بداية القرن العشرين »علم ودستور ومجلس أمة.. كلا عن المعني الصحيح محرف « وان كل ما نتحدث عنه باعتباره مؤسسات هي مجرد هياكل صورية أو ادوات تحقق من خلالها الارادة المستبدة للحاكم ولا تشكل اي نوع من انواع الحدود علي ارادة هذا الحاكم، ما يجعل الجمهور الآن يتجه إلي »اصحاب الاخلاق« لان المؤسسات لم تفد بشيء. في هذا السياق كيف تري 25 يناير؟ 52 يناير فتحت الباب لنا أمام فرصة، فإما أن نكون علي مستوي اللحظة والتحدي، وان نتفاعل بشكل إيجابي مع تلك اللحظة الهامة، واما ستدخل مصر والعالم العربي في نفق مظلم يعلم الله مداه. مرة ثانية... إلي من توجه ضمير المخاطب هنا؟ إلي النخبة التي يجب أن تستشعر حساسية اللحظة الراهنة، ولكن ما يبدو لي حتي الآن ليس مطمئنا بشكل كبير، فكي نكون علي مستوي اللحظة يجب أن نعي دلالتها علي مستوي السياق التاريخي، ويجب أن نري من أين جئنا لنصل إلي هذه اللحظة، واين نود الذهاب؟ وما يبدو لي حتي الآن أن ممارسات النخبة لم تتغير، واسوأ ما فيها انها حتي الآن غارقة في مستوي التخاصم والتناطح الايديولوجي، وهذه ليست الشروط اللازمة لكي تتحول 25 يناير إلي ثورة، حتي الآن نحن امام مشروع ثورة، والامر لا يتعلق بتغيير رأس السلطة، او باستبدال سلطة محل اخري. ولكن السؤال هو: هل نملك الآن شروط بناء النظام الجديد؟ ولا اقصد هنا فقط الفهم السياسي لهذه الشروط، ولكن ما اقصده هو الفهم المعرفي لدلالة ما حدث، وأكتفي فقط بطرح السؤال والايام والممارسات ستجيب عليه. روج النظام وبعض المثقفين أن أي تحرك جماهيري يمكن أن يحدث سيكون اسلاميا، ولكن يمكن القول بثقة أن أيام التحرير كانت ذات مسحة علمانية، كيف تفسر ذلك ولماذا تبدو تلك الحالة غائبة حالياً؟ اللحظة من 25 يناير وحتي 11 فبراير هي لحظة استثنائية لا يمكن القياس عليها، وتظل لحظات فارقة في تاريخ حياة الشعوب، بالتأكيد كانت لحظة فريدة اجتمع فيها كل الناس علي مطلب واحد تريد أن تقبض عليه بأيديها، وهذا ما شكل تلك اللحظة وليس علمانية الناس أو حداثتهم، ولكن اتفاقهم علي مطلب واحد وواضح ولا مجال فيه للاختلاف بين كل الناس المحتشدة في كل مدن مصر. لكن المشهد اختلف بعذ ذلك لأننا رجعنا إلي السياق العادي، وانتهت اللحظة الاستثنائية، وعدنا إلي الممارسات التي أتحدث عنها وأريد توضيح أن حديثي عنها لا يعني رفضا لها ولكنها محاولة لنقدها، رغبة في مزيد من العمق للحوارت الدائرة. ما الذي تقصده بتعميق الحوار...أي المناطق تحديداً التي تري أنها تحتاج إلي ذلك التعميق؟ دعني اضرب لك مثلا من الحوار الدائر بين الدينيين والمدنيين حالياً، والذي لا افهم علي أي ارضية يقف، فمثلا عندما يدور الحوار بين احد دعاة الدولة المدنية ذات المرجعية الاسلامية وبين احد دعاة المشروع العلماني، يتحدث الديني عن عدم إمكانية تولي غير المسلمين الولاية العامة، فيرد عليه المدني بأن هذا تمييز، فيجيب الديني بالموافقة، اجل هذا تمييز اجمع عليه الفقهاء. وهنا يقف صاحب المشروع العلماني حائرا أمام هذا»الاجماع«. وما اقصده بتعميق الحوار هنا، أن صاحب المشروع الديني هو اما جاهل او مرواغ، فإذا كان جاهلا فيجب أن يعرف واذا كان مراوغا فيجب كشف مرواغته، ففي هذه الحالة يجب علي صاحب المشروع المدني الا يقف امام حائط »الاجماع« وانما يجب عليه اختراقه بالسؤال عما يعنيه هذا الاجماع، بل يرد السؤال إلي مستوي اكثر عمقا بالسؤال عن معني المنظومة الفقهية اصلا، فهل الفقه هو القرآن؟ ام انها منظومة خلقت بفعل كثير من المحددات التاريخية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية لظرف بعينه. فالامام مالك عندما يتحدث عن اصول فقهه فمنها أعراف اهل المدينة، اذن ما تعارف عليه اهل المدينة اصبح في الفقه له قوة النص القرآني، لذلك عندما اراد الخليفة ابو جعفر المنصور تعميم كتاب »الموطأ« للامام مالك علي جميع البلاد، رفض مالك لأن عادات اهل العراق تختلف عن عادات اهل المدينة، وكل بلد له عادات واعراف مختلفة. فالفقه يحمل من المجتمعي والسياسي الكثير، ولكن مرواغة صاحب المشروع الديني باستعمال »الاجماع« تهدف إلي خداع الجمهور عن طريق الخلط بين الفقه والدين. وعندما يقف داعية الدولة المدنية امام »الاجماع« فهذا يعني انه قبل الفرضية التي يطرحها الآخر والتي تساوي بين الفقه والدين، وبالتالي إذا عارضت الدولة المدنية ما يقول به الفقه فكأنها تعارض الدين. هذا ما اعنيه بالأسس التي تعمق الحوار، ولكن ما يحدث أن الجميع يصنع تراكيب بالغة الهشاشة ويخوضون بها نقاشا غاية في الضحالة، وهذه اسوأ طريقة في الاشتغال المعرفي. فمن يريد اقامة دولة دينية ذات مرجعية دينية قائمة علي التباس بين أن الفقه هو الدين، وهكذا نبدو كمن يريد أن يسلم مصر إلي من يبني مشروعاً خاطئاً من اساسه، وبالتالي فان مستقبل البلاد لا يعنيه. ونفس المشكلة موجودة في الخطابات الأخري فالجميع في الهم سواء المدني والديني والحداثي، والهدف من مثل هذه النقاشات ليس تفنيد خطاب الخصم، ولكن بالاساس تنبيهه إلي انه لا يوجد خطاب يمكنه بناء واقع مشرق بدون أن يكون مبنياً علي اساس سليم. واتمني ألا تقام تلك النقاشات في برامج التوك شو، ولكن بعيدا عن ماكينة الاعلام، فهناك في كل فريق من هو مهموم بمستقبل البلد وليس فقط ما يمكن الفوز به من الكعكة الحالية. كيف تري سبيل الخروج من تلك الدائرة؟ يجب أن نبني الشروط التي تسمح بمصر مختلفة ولن نصنع ذلك الا اذا انتقلنا من الخطاب القديم، الذي يعمل فقط علي صناعة توافق شكلي خارجي، فيصبح لدينا كل شيء ولكن من الخارج فقط لدينا مؤسسات شكلية، ودولة شكلية، وحتي الدين لدينا شكلي، بينما الجوهر خال تماما. لذلك اصبحنا في ذيل الامم بسبب الخواء الفظيع الذي نحيا فيه، وكما ذكرت فنحن امام فرصة يمكن أن تخرجنا بعيداً عن تلك الدائرة، اذا وعينا بمتطلباتها. وأولي تلك الخطوات أن نتجه إلي إنقاذ النخبة، ومن سيقوم بهذه العملية هم ذلك الجزء من النخبة الذي يمتلك خطابا نقديا يجعله قادراً علي رؤية الفجوات في خطابه قبل رؤية فجوات خطابات الآخرين، كي نفتح بابا لتجاوز التلفيق والشكلانية الهشة. وهذا التجاوز هو ما يسمح فعليا ببناء دولة المؤسسات، دولة الحق، وهذا ما يسمح بإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة وبين المجتمع.