ثورة حداثية مدنية, تواجه انقلابا عسكريا ما بعد حداثي. هذا هو التناقض الرئيسي الذي تبلور في مصر بوضوح مع اقتراب نهاية المرحلة الانتقالية ووجوب تسليم السلطة من المجلس العسكري لسلطة مدنية منتخبة في نهاية يونيو الجاري.2012. هذا التناقض تبلور بعد ما يزيد علي عام علي انتصار الشعب علي دولة الاستبداد وإطاحة رأس النظام المخلوع يوم11 فبراير.2011 هذا التناقض بين حداثة الثورة, وما بعد حداثة الانقلاب, تبلور أيضا بعد أن تيقن المجلس العسكري من استحالة إعادة إنتاج النظام القديم عبر الأدوات المعروفة في تراث الثورات المضادة والانقلابات العسكرية التقلدية, فلجأ بمعاونة كل تلك الأدوات إلي تنفيذ انقلاب ما بعد حداثي ليفل به ثورة25 يناير الحداثية. وكأن لسان حال المجلس العسكري وقوي الدولة العميقة والفلول قد انتهي إلي أن يقول: لا يفل ثورة حداثية, إلا انقلاب ما بعد حداثي. نقطة البداية في فهم جدلية العلاقة بين الثورة والانقلاب في مصر منذ يناير2011 حتي الآن هي أن نعرف الفرق بين الفعل الحداثي الذي مارسته قوي الثورة بكفاءة وبراءة منقطعة النظير من جهة, ورد الفعل ما بعد الحداثي الذي مارسته القوي الانقلابية التي أشرنا إليها, أيضا باقتدار وبشراسة لا نظير لها, من جهة أخري. والحداثة هي رؤية للحياة أساسها الحرية. أما التحديث فهو عملية بنائية تعتمد منجزات العلم والتكنولوجيا المتطورة. الحداثة تتعلق بالبنيات العقلية, والتحديث يتناول البنيات المادية, الحداثة أساسها التفتح الروحي والعقلي, والتحديث أساسه التمكن والسيطرة علي شئون الحياة والبيئة. التحديث وليد الحداثة. ولكنه لا يغني عنها, ولا يساويها أبدا. أما ما بعد الحداثة فهي عبارة عن نزعة عدمية. تجزيئية تنزع للشرذمة. تفكيكية عبثية لا تعبأ بإعادة تركيب أو حتي ترميم ما فككته. وبهذا المعني تكون ما بعد الحداثة في السياسة فعلا انقلابيا مناهضا لفعل الحداثة الثوري. الحداثة فعل ثوري شعبي, وحركة اجتماعية فتية تتطلع نحو مستقبل جديد. هي كفاح تجميعي ينزع للتماسك وشد أواصر اللحمة الوطنية. أما ما بعد الحداثة, فهي رد فعل انقلابي, وردة إلي الخلف. هو فعل تجزيئي لا يبالي بأن تئول حركته إلي العدم والتشظي, أو تئول إلي تآكل كل الأبنية والمؤسسات; لأن فاعليه يؤمنون بنسبية القيم والأخلاقيات في كل شيء. وبحسب تقاليد الفقه السياسي للثورات فإن كل ثورة اجتماعية يتربص بها انقلاب, أو ثورة مضادة, أو أكثر. وأن كلا من الثورة والانقلاب يظلان في عراك دائم حتي ينتصر أحدهما علي الآخر. وهذا ما ينطبق بالضبط علي الثورة المصرية المجيدة; فهي تواجه منذ قيامها في25 يناير2011 قوي الدولة العميقة والثورة المضادة والنزعة الانقلابية للأوليجاركية العسكرية. حداثة ثورة يناير هي في أساسها وجوهرها ممارسة السواد الأعظم للمصريين ل الحرية. هي نجاحها في جلب السواد الأعظم من الناس إلي ميدان التحرير بمعناه السياسي وليس فقط بمعناه الجغرافي أو المكاني. هي خروجهم من كهف الخوف وهدمهم له ودهسهم أنقاضه. هو اللحظة التي اكتشف فيها المصري أن حريته تكمن داخل روحه ولا توجد خارجها. هي اللحظة التي اكتشف فيها أن ما كان يقوله سدنة النظام والحزب الوطني عن الحرية والديمقراطية ليس إلا محصلة علاقات القوة القائمة في الواقع الاجتماعي البئيس, وعلي المسرح السياسي الفاسد المستبد. حداثة ثورة يناير هي شعور المصري يوم25 بأن روحه حرة, ويجب أن تكون كذلك لأن الله خلقها كذلك. والفعل الحداثي للثورة هو نزول جموع المصريين ممن لا علم لهم بفيس بوك وأخواتها مع من لهم بذلك علم من الشباب إلي المجال العام وانخراطهم في شئون السياسة بعد أن ظلوا بعيدين عنها طويلا لأسباب عدة في القلب منها أنها شيء مخيف, وشرمستطير, وله ناسه, وأن الأفضل أن تعتزلهم وتبتعد عنهم. وإن استطعت أن تغني لهم فغن, عملا بالقول المأثور ابعد عن الشر وغني له. السواد الأعظم من المصريين اكتشفوا مع ثورة25 يناير أنه حتي لو كانت السياسة شرا فالخير كل الخير هو في أن يقتسموه مع الذين احتكروها. اكتشفوا أن احتكار السياسة يعني موتهم بيولوجيا وليس فقط معنويا. اكتشفوا أن سكوتهم علي احتكار الحزب الوطني والزمرة الحاكمة للسياسة وحظرها علي غيرهم; أدي إلي احتكار ذلك الحزب المنحل للسلطة والثروة والنفوذ, ولم يبق علي شيء سوي الفقر الجهل والأمراض والفساد بألوان قوس قزح يتقاسمه بقية المصريين, ويتنازعون بسببه فيما بينهم. اكتشفوا أن الخوف هو الملك الحقيقي الذي يحكمهم ويسخرهم, وليس حسني مبارك وأجهزته الأمنية ومؤسساته القمعية, ولا حتي مؤسساته القضائية وترسانته القانونية, التي صنعها علي عينه ليتحصن داخلها هو ومن معه في وقت الرخاء, ناهيك عن وقت الشدة. وعندما حانت لحظة يناير التي فجرها الشباب, هب السواد الأعظم ليمسك بها ويقتل ملك الخوف فقتله في قلبه أولا, ثم تأكد من قتله بالنزول إلي ميدان التحرير. وكانت تلك هي لحظة الحداثة السياسية الأولي في وعي السواد الأعظم من المصريين, ولا أقول في وعي النخبة فوعيها الحداثي أسبق من وعي السواد الأعظم بطبيعة الحال, وإن لم يكن أفعل منه في الواقع علي أية حال. قتل ملك الخوف في قلوب السواد الأعظم هو لب الفعل الحداثي الذي جاءت به ثورة يناير المجيدة, وليس هو توظيف تكنولوجيا الاتصالات الحديثة كما قد يظن البعض. والفرق شاسع بين الأمرين. ما أود التشديد عليه هنا هو أن الفعل السياسي الحداثي لثورة يناير لم يكن في تسخير الشباب الثائر لأدوات الاتصالات الحديثة(الفيس بوك والإنترنت والتويتر. واليوتيوب.. إلخ). نعم هذه أدوات تكنولوجية حديثة كان لها دور فعال في تجييش الجماهير وتعريفهم ببعضهم بعضا, وساعدت في نجاح الثورة في إطاحة رأس النظام.ولكنها ليست هي التي أضفت علي الثورة صفة الحداثة. فقط التشبث بالحرية والتحرك الشعبي الواسع صوب المجال العام وقتل ملك الخوف في القلوب هو ما أكسب ثورة يناير المجيدة صفة الحداثة, وهو ما يجعلها تنتمي بجدارة إلي عائلة الثورات الاجتماعية العظمي التي حولت مجري التاريخ. غان المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية م المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم