في القراءة الموضوعية النقدية لأعمال الجمعية التأسيسية تلفت النظر خطيئة إلغاء النص علي المسئولية التنموية والمجتمعية والوطنية للرأسمالية في المادة38 الملغاة بمشروع الدستور. أقصد خطيئة الغاء النص علي وجوب أن ينظم القانون أداء الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة في خدمة الاقتصاد القومي وفي إطار خطة التنمية, ودون انحراف أو استغلال أو احتكار, وعدم جواز تعارض طرق استخدام الملكية الخاصة مع الخير العام للشعب. وقد كان التوفيق من نصيب لجنة باب المقومات الأساسية دون ريب حين ضمنت النص المذكور, لكنها أخفقت حين حذفته, واكتفت بالتشديد الواجب علي حماية الملكية الخاصة من التأميم والمصادرة. ولا جدال أن في مقدمة أسباب ثورة25 يناير يبرز هدر مسئولية رجال الأعمال نتيجة الجشع والفساد, وهو ما يوجب الرجوع عن الغاء النص المذكور من جانب الجمعية التأسيسية; سواء بتشكيلها القائم أو الجديد. وأسجل أولا, أن مشروع الأعمال الخاص يسعي, وينبغي أن يسعي, الي تحقيق أقصي ربح ممكن, لأن هذا ما يميزه عن المشروع الخيري. لكن إنكار الوظيفة الاجتماعية لقطاع الأعمال الخاص يتجاهل أن الربح لم يبرر- تاريخيا ونظريا- إلا بقدر ما يكون الرأسمالي مالك مشروع الأعمال الخاص مبادرا ومنظما ومخاطرا ومبتكرا; أي فاعلا لا غني عنه في قيادة التنمية والتقدم والعدل. وقد صار الإعتراف بمشروعية هدف تعظيم الربح مرتبطا بالتزام الرأسمالي, بل قل إلزامه, بتحمل واجبات مسئولياته التنموية والمجتمعية والوطنية. وثانيا, أن النقد الواسع لأعمال الجمعية التأسيسية لم يتطرق الي نقد إلغاء النص المذكور; لكن المسئولية بالدرجة الأولي تتحملها الأغلبية في الجمعية التأسيسية. فقد تناسي ممثلو حزب الحرية والعدالة ما أورده برنامجه للانتخابات البرلمانية من أن حلقة ضيقة علي قمة الطبقة الرأسمالية المصرية قد تعاظم ثراؤها حتي استأثرت بنحو ربع الدخل القومي. ويعرف هؤلاء مثل غيرهم أن هذا الثراء لم يكن مجرد نتاج لتراكم الربح المشروع والمبرر في مشروعات التنمية, وإنما نجم وبدرجة أساسية عن زواج حرام بين السلطة والثروة. وثالثا, إن الجشع كان مصدرا لإثراء غير مبرر; وجد تبريره في نظرية اقتصاد العرض أو ما سمي باقتصاد التنقيط في السوق الحرة, التي زعمت أن زيادة الأغنياء ثراء سوف ترفع معدلات الاستثمار والنمو, ومن ثم تتساقط الثمار علي الفقراء بزيادة التشغيل والأجور!! وهو ما لم يحدث في مصر أو في أي مكان. وقد سقطت هذه النظرية سقوطا مدويا مع سقوط الأصولية الرأسمالية في الأزمة العالمية, التي تفجرت في معقل اقتصاد السوق الحرة الأمريكي, وأشهرت إفلاس أجندته المعادية لتدخل الدولة لضبط السوق وردع الجشع. ورابعا, أن إلغاء النص الدستوري علي الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة يثير هواجس ارتباطه بدعوة المصالحة مع كبار رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق. ويقينا فان مثل هذا التوجه- إن أهدر تطبيق العدالة الانتقالية بقضاء ناجز ونزيه- لا يمكن أن يرجع حقوقا مغتصبة, أو يولد استقرارا في ظل مطالب شعبية مشروعة باستئصال الفساد. وإذا كانت المصلحة الاقتصادية الوطنية تتطلب تصالحا مع المستثمرين فانها ينبغي أن ترتبط باسترداد الأموال المغتصبة بشتي ألوان الجريمة الاقتصادية وتنفيذ العقوبات ضد المدانين قضائيا. وأظن أن تحقيق أهداف ثورة25 يناير يستوجب تحقيق ما دعوت اليه قبلها بجريدة الأهرام في3 مايو2009 تحت عنوان في أصول المسئولية المجتمعية لرجال الأعمال, مع الأخذ في الاعتبار معطيات وتطلعات ما بعد الثورة. وباختصار, فانه يستحيل تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي وإنجاز التقدم الاقتصادي بغير نص قاطع في الدستور علي مسئولية قطاع الأعمال الخاص; علي أن ينظم القانون تفعيل هذه المسئولية. وأقصد, أولا: إدراك أن صعود الدعوة إلي تفعيل مسئولية قطاع الأعمال الخاص قد استهدف تقليص العواقب الاجتماعية السلبية التي ترتبت علي تقليص الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في سياق الردة عن حماية العدالة الاجتماعية والمصلحة العامة وربحية المجتمع. نظام السوق الحرة المعني, أساسا وأحيانا حصرا, بالمصلحة الخاصة والربح الفردي, جراء سيادة نزعة التراكم الريعي علي التراكم الانتاجي في ظل سياسات العولمة الاقتصادية المتوحشة والانفتاح الاقتصادي المنفلت. وثانيا, إنه ينبغي عدم الرهان علي نزعة عمل الخير لدي بعض رجال الأعمال أو علي استجداء الإحسان! فكثيرا ما استهدف فاعلو الخير مجرد الترويج والتباهي ونفاق المسئولين لنيل الإعفاءات والتسهيلات, بل واحيانا لإخفاء الوجه القبيح لتركز الثروة بأساليب غير شرعية وغير أخلاقية وضارة بالمجتمع, وبجني الريع وليس الربح, وبالربح الاحتكاري بدلا من الربح في سوق تنافسية. وعلي القانون انطلاقا من نص دستوري صريح أن يضمن مراعاة حقوق ومصالح جميع المتأثرين بأنشطة شركات الأعمال من مساهمين ومشتغلين ومستهلكين وموردين ومستوردين ومتعاقدين ومنافسين...إلخ في سعيها الي تعظيم الربحية. وثالثا, إن مسئولية قطاع الأعمال الخاص تعني تحقيق ربحية المجتمع جنبا الي جنب مع الربح الفردي, بأن تكون الأسبقية في تشجيع وحفز الاستثمار الخاص للمشروعات التي تحقق الأهداف الوطنية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية, وتعزز الأمن الاقتصادي القومي للوطن والإنساني للمواطنين. ولا بد من تضمين المصلحة العامة في مشروعات قطاع الأعمال الخاص بعد أن صار عليه تحمل العبء الأكبر في تنفيذ مشروعات التنمية لتسريع التقدم الصناعي والتكنولوجي, وإيجاد فرص العمل ومحاربة الفقر وتحسين خدمات الصحة والتعليم ومكافحة التلوث وحل مشكلات الإسكان والمواصلات وغيرها. ويبقي القول إن أموال رجل الأعمال بمنطق الدنيا ليست سوي جزء من ثروة الأمة منوط بمالكها تحقيق المصلحة العامة للمجتمع, وبحكم الإسلام فانها مال الله والإنسان مستخلف فيه ووظيفته إعمار الأرض. لكن الأمر يتوقف علي طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي وتوجهات إستراتيجية التنمية والسياسات الاقتصادية, وهو ما يستحق تناولا لاحقا لما ورد بشأنه في مشروع الدستور. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم