لست أشك لحظة واحدة في أن قرار الحد من أعداد الطلاب الملتحقين بكليات الحقوق هو قرار صائب, لعله يمثل خطوة أولي حقيقية علي طريق اصلاح التعليم الجامعي في مصر. ولعله أيضا يتبع بقرارات مماثلة جريئة في باقي الكليات التي أصبحت أعداد الخريجين فيها تتجاوز احتياجات سوق العمل في العديد من المجالات. المشكلة أن أعداد الطلاب الملتحقين بكليات الحقوق تتجاوز المنطق وتفوق الخيال. وقد أفضي تضخم النسل الجامعي علي هذا النحو الي نتيجتين سلبيتين وربما كارثتين. النتيجة الأولي أن كليات الحقوق في مصر تضخ كل عام أعدادا هائلة لا تحتاجها سوق العمل. فالهيئات القضائية من مجلس الدولة والنيابة العامة والنيابة الادارية وهيئة قضايا الدولة لا توظف كل عام- علي أحسن الفروض- أكثر من ألفين من خريجي كليات الحقوق. وإذا اعتبرنا أن إجمالي خريجي كليات الحقوق يبلغ سنويا نحو أربعين ألف متخرج حائز علي ليسانس الحقوق فإن معني ذلك أن هناك38 ألف متخرج ليس أمامهم سوي الانخراط في مهنة المحاماة أو الادارات القانونية في مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص, وهذه المجالات المتاحة لا تحتاج في سوق العمل المصري أكثر من بضعة آلاف سنويا. معني ذلك أن هناك أكثر من ثلاثين ألف خريج حقوقي لا يمكن لسوق العمل استيعابهم. وفي ظل عدم وجود اي ضوابط أو مواصفات لاكتساب عضوية نقابة المحامين والعمل بالتالي بمهنة المحاماة فقد ترتب علي هذا الوضع نتائج سلبية ومربكة منها تراجع المستوي المهني للمحامين وتضخم أعداد الملتحقين بالنقابة من غير الممارسين فعليا لمهنة المحاماة وهذه بحد ذاتها مشكلة أخري لنقابة المحامين يبدو أنها تؤثر بالسلب علي مستوي الخدمات النقابية وتهبط الي حد كبير بمستوي الأتعاب المادية للمحامي بل وبمجمل المستوي اللائق لمهنة المحاماة بصفة عامة. ولهذا كان مأساويا أن نشاهد الآلاف من شبابنا الملتحق شكليا بنقابة المحامين والمفترض كونه يحمل صفة محام لكنه تحت وطأة الحاجة وقسوة متطلبات المعيشة يضطر لأن يعمل في مهن أخري لا علاقة لها البتة بالقانون أو المحاماة مثل العمل في المطاعم والفنادق بل وفي أعمال يدوية أخري. ليس معني هذا التقليل من قدسية وأهمية كل عمل ولو كان يدويا لكنه يعني ببساطة اننا قد أهدرنا المال والوقت والجهد لمدة أربع سنوات في كليات الحقوق ثم كانت النتيجة أن نحو75% من خريجي كليات الحقوق يعملون في مجالات لا علاقة لها بما درسوه في تعليمهم الجامعي. ومن المؤكد أنه كان أفضل وأجدي لهؤلاء الشباب وللمجتمع لو أنه قد تم توجيههم منذ البداية لنوعية أخري من التعليم المهني أو غير المهني الذي تحتاجه سوق العمل. ولم تكن المشكلة في الزيادة الهائلة لأعداد الملتحقين بالجامعات هي قضية سوق العمل فقط بل أظن وأرجو أن يكون ظني صحيحا أنها التراجع المخيف في جودة التعليم الجامعي في قطاع الدراسات القانونية نتيجة هذه الأعداد الهائلة من الطلاب مقابل عدد محدود جدا من اعضاء هيئة التدريس. فالمعدلات المتعارف عليها للجودة التعليمية تتطلب عضو هيئة تدريس واحدا مقابل كل خمسين طالبا. لكن الحاصل في جامعاتنا أن هذه النسبة قد تضاءلت لتهبط الي عضو هيئة تدريس واحد مقابل ألف طالب في بعض كليات الحقوق في مصر. معني ذلك ببساطة أن النسبة الحالية تقل عشرين مرة عن النسبة التي تفرضها معايير الجودة التعليمية. لا أحد يمكنه تصور كيف تتم العملية التعليمية في كلية الحقوق حيث يمتليء المدرج عن آخره فيضطر الطلاب الي إفتراش الأرض أحيانا والتحلق حول الأستاذ والجلوس خلفه وحواليه في مشهد يثير السخط والضحك في آن معا!! لقد أصبحت قاعات الدرس في كليات الحقوق أبعد من أن توحي بفكرة الجامعة مركز العلم والتفكير ومصدر التنوير ومكان الحوار وكادت أن تتحول الي فصول تعليم مدرسي بالمعني الحقيقي لا المجازي. وكان أخطر ما أفضت اليه ظاهرة الكليات كبيرة العدد وهي لا تقتصر فقط علي كليات الحقوق أنها قضت تماما علي فكرة التواصل بين الأستاذ والطالب التي هي عماد التعليم الجامعي المبني علي الحوار وتنمية ملكات المعرفة والنقد وكلها متطلبات يستحيل القيام بها في ظل هذه الاعداد الهائلة من الطلاب. ولم يقتصر تضخم النسل الجامعي في كليات الحقوق علي قسم الليسانس بل امتد ليشمل قسم الدراسات العليا في مشهد ليغفر لي زملائي لو وصفته بأنه يبدو أقرب أحيانا الي التهريج المنظم! فحين يتجاوز عدد الطلاب في دبلوم الدراسات العليا الألف طالب وحيث يفترض أن هذا الدبلوم المتخصص يقوم أساسا علي فكرة البحث العلمي فكيف يمكن لأستاذ أن يشرف مثلا علي ألف بحث علمي لطلاب الدبلوم في فترة زمنية لا تزيد عمليا عن ستة أو سبعة شهور ؟ بل كيف يمكن له ابتداء أن يدير حوارا مع10% فقط من هذا العدد الهائل؟ ثم تتكرر المشكلة مرة أخري في قسم الدكتوراه. ولست أفشي سرا حين أقول أن درجة الدكتوراه تمنح في القانون أحيانا( بل ربما كثيرا) لمن لا يجيدون أساسيات وربما بديهيات البحث العلمي. لدينا إذا مشكلة كبيرة بشأن ضوابط ومعايير الجودة التعليمية سواء في قسم الليسانس والبكالوريوس أم في قسم الدراسات العليا. ويبدو أننا صحونا متأخرين لعلاج هذه المشكلة, المهم أننا صحونا! لكن ما زالت هناك تساؤلات وتحفظات يبديها البعض حول قرار الحد من أعداد المقبولين في كليات الحقوق. فهناك من يري أن الحل ليس في إلغاء نظام الانتساب الموجه ولكن في اصلاحه. وثمة من يطالب بأن تعتبر الشهادة التي تمنح لطلاب التعليم المفتوح من قبيل شهادات الثقافة القانونية التي لا ينبغي لها أن تتساوي مع شهادة الليسانس في الحقوق. والواقع أننا مدعوون بمناسبة صدور هذا القرار الي فتح نقاش عام في المجتمع حول سياسة الالتحاق بالتعليم الجامعي ليس فقط في كليات الحقوق بل في غيرها أيضا من الكليات الأخري لأن جزءا من مشكلة سياسة الالتحاق بالتعليم الجامعي يرتبط بثقافة المجتمع ونمط تفكير الأسرة المصرية وكلها أمور تحتاج الي المراجعة والتصويب. كما أننا نحتاج أيضا الي نقاش آخر معمق حول تطوير قطاع الدراسات القانونية علي وجه التحديد. فلربما يكشف مثل هذا النقاش عن أن المشكلة لا تكمن فقط في الحد من أعداد المقبولين وإنما تتعلق المشكلة بجوانب وأبعاد أخري لعل أولها تحسين أوضاع هيئة التدريس في الجامعات بالاضافة الي توفير ودعم الامكانات الجامعية من مباني وقاعات درس ومختبرات ومكتبات. وهذه تجرنا مرة أخري الي قضية التمويل وضعف المخصصات المالية في موازنة الدولة. هذا هو التحدي الأكبر لتطوير التعليم في مصر. وبدون مواجهته سنظل نواجه ارتدادات المشكلة وليس المشكلة ذاتها! [email protected]