بالرغم من عدم مضي فترة طويلة علي تولي الوزارة الحالية مهامها التنفيذية فإن القرارات والمواقف المعلنة علي الصعيد الاقتصادي أظهرت الملامح الرئيسية لتوجهاتها الاقتصادية وكيفية إدارتها الاقتصاد ومعالجة مشكلاته, الأمر الذي يسمح بتقييم التجربة قبل المضي كثيرا في مسار لا يبدو صحيحا. لم تظل أمراض الاقتصاد المصري المزمنة الذي يمثل علاجها التحدي الحقيقي لنظام ما بعد الثورة ومقياسا للنجاح في تحقيق أهدافها علي حالها فقط بل استفحلت حيث زاد عجز الموازنة العامة وتراجعت الاحتياطيات الدولية وارتفعت نسبة البطالة وارتفع معدل التضخم وتدني معدل النمو, وهو تدهور يمكن فهمه وتبريره إذا كان مؤقتا ومرتبطا فقط بالأوضاع الأمنية والسياسية المضطربة وسيزول باستقرار تلك الأوضاع, ولكن الأمر يختلف تماما إذا كانت السياسات الاقتصادية وبرامج العلاج مؤدية إلي تفاقمها ومكرسة له, فالرابط الذي يربط تلك المشكلات جميعا هو زيادة الإنفاق علي الموارد, فحجم الإنفاق وطبيعته الاستهلاكية في معظمها هو الذي يؤدي إلي عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات وهو ما تتم معالجته بالاقتراض الداخلي والخارجي مما يؤدي بدوره إلي تزايد عبء الدين العام وشح الموارد المتاحة للاستثمار وبالتالي ضعف القدرة علي خلق فرص عمل جديدة أو توليد إيرادات جديدة ويؤدي أيضا لضخ أموال جديدة بالاقتصاد كفوائد علي الدين العام لا يقابلها إنتاج فيزداد التضخم, وبالتالي فالحل الصحيح هو زيادة الإيرادات وتقليل المصروفات ولكن السياسات المتبعة حتي الآن سارت عكس هذا الاتجاه. ليست الموازنة العامة مجرد توازن محاسبي بين جانبي الإيرادات والمصروفات, بل هي في حقيقتها تقديرات مالية لبرامج عمل الحكومة وهي الأداة الرئيسية للسياسة المالية لتحقيق الأهداف وبالتالي تعد كاشفة لتوجهات الحكومة وأهدافها وأولوياتها, وتطبيقا لذلك فإن أوجه الانفاق في الموازنة الحالية تفصح عن استمرار التحيز لشرائح الدخل العليا والمثال الأوضح لذلك هو دعم المواد البترولية والبالغ سبعين مليار جنيه والذي ينتج عنه نصف عجز الموازنة, فعلي عكس المفهوم الشائع لدي الكثيرين يذهب معظم ذلك الدعم لغير مستحقيه كالمصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة كالحديد والأسمنت والأسمدة ومنها مصانع مملوكة بالكامل أو بنسبة غالبة للأجانب وكذلك لمحطات توليد الكهرباء التي يذهب معظم إنتاجها للمستهلكين من شرائح الاستخدام العليا كمراكز التسوق والمحال التجارية وأماكن الترفيه والأفراد مستخدمي أجهزة التكييف المنزلي, وبالطبع سيؤدي إلغاء ذلك الدعم إلي ارتفاع أسعار عدة سلع, إلا أنه في المقابل سيقضي علي التضخم الناتج عن تمويل هذه القيمة من عجز الموازنة, كما سيوفر سيولة بذات القدر للجهاز المصرفي وإتاحتها للاستثمار, ولكن مثل تلك الخطوة تصطدم بمعوقات عدة أهمها المعارضة الشديدة من المؤسسات والأفراد المنتفعين من الأوضاع القائمة وتصويرهم للأمر وكأنه إضرار بالفقراء وعلي جانب الإيرادات تتضح تحيزات أخري أهمها ضعف إيرادات ضريبة النشاط التجاري والصناعي في الموازنة الجديدة المقدرة بنحو 85 مليار جنيه تمثل أقل من 6% من إجمالي الضرائب العامة وأقل من نصف ضريبة الرواتب, كما أن الأرباح المحققة من المضاربات بالبورصة المصرية معفاة تماما من الضرائب, وعليه توسعت الحكومة في الاقتراض حتي وصل رصيد أذون الخزانة حدا غير مسبوق بلغ في نهاية أغسطس 2012 "374 مليار جنيه" تستنزف المدخرات بالجهاز المصرفي وتحد من قدرته علي تمويل المشروعات الجديدة وترفع سعر الفائدة حتي بلغ ما يقرب من 16% مما يزيد تكلفة التمويل بدرجة كبيرة تثبط الاستثمارات الجديدة. ولكن أسوأ ما في الأمر هو ما أعلن دفاعا عن الاقتراض أن من أسباب التمسك بإتمام قرض صندوق النقد الدولي أنه سيفتح أبواب مؤسسات التمويل الدولية أمام الحكومة لمزيد من الاقتراض, وكأن الاقتراض أصبح هدفا في حد ذاته وليس وسيلة لالتقاط الأنفاس ليعود الاقتصاد للعمل بطاقته, وهكذا تؤدي السياسات المتبعة إلي تبديد الموارد الشحيحة والركون إلي الاقتراض, الأمر الذي يظهر مشكلة الاقتصاد المصري الحقيقية وهي تجاهل السياسيين الحلول الجادة التي تنفذ لأصل المشاكل الاقتصادية. مع اكتفائهم بإجراءات التفافية لا تقدم حلولا, بل تفاقم تلك المشاكل وذلك تفاديا لخسائر متوقعة في شعبيتهم ولمواجهات ليست سهلة مع أصحاب المصالح إذا ما صارحوا المواطنين بالحقائق وبالثمن الذي يتحتم دفعة إذا ما أريد الخروج من هذا الوضع المتردي. المزيد من مقالات جمال وجدى