لايملك من يستعرض تاريخ علم الاجتماع في مصر والبلاد العربية إلا أن يقف عند إنجازات حسن الساعاتي(30 سبتمبر1916 30 سبتمبر1997), فهذه الانجازات تمثل علامة بارزة في مسيرة هذا العلم. وأنا لا أكتب هنا بصفتي ابنته لكن لأنه عالم بحق, تمر ذكري مولده ووفاته غدا, وتشهد المكتبة العربية علي ما قدمه هذا العالم الجليل من نظريات أصيلة وبحوث ميدانية رائدة شكلت في مجملها نقلة نوعية وسجلت له فضل السبق والريادة في تطوير علم الاجتماع وفتح آفاق جديدة أمام أجيال من الدارسين في هذا الحقل العلمي. لقد كان الساعاتي رائدا فذا وسباقا للبحث الاجتماعي الميداني في وقت كان علم الاجتماع يتجه في توجهاته الأساسية الي منحي نظري تحليلي غالبا. وقد بدأ حسن الساعاتي في قراءة الواقع المصري المعاصر في أثناء إعداده لأطروحة الدكتوراة التي حصل عليها من جامعة لندن1946 وذلك حين انصب اهتمامه فيها علي جناح الأحداث وأطفال الشوارع, وكانت أطروحته تستند الي بحث ميداني يجري لأول مرة علي أرض مصر وعلي مواطنين مصريين, وقد انتهي فيها الي نظريته الشهيرة المتفردة عن مناطق التفريخ ومناطق الجذب في المدينة, أما عن نظريته الفريدة المعروفة, نظرية الوعي المصري للعدالة فتعد مفتاحا لفهم الشخصية المصرية, لذلك رجع إليها جمال حمدان, وكان أحد طلابه في موسوعته عن شخصية مصر, ومن النظريات المبنية علي المنهج العقلي نظرية حسن الساعاتي المعروفة وعنوانها, التحليل الاجتماعي للشخصية.. منحي جديد لفهم السلوك البشري ومؤداها أن كلا من مجموعة الأسرة ومجموعة الصحبة ثلة الاقران ومجموعة الرفاق في العمل وكلا من جماعة الجيران وجماعة المدرسة وجماعة النادي( إن وجدت) تكون تشكيلا نفسيا في شخصية الفرد. لكن اهتمام الساعاتي بالأبحاث الحديثة النظرية حول مفاهيم العدالة وبالتجارب العلمية وبمعاناة الظروف والأوضاع التي مرت بها أمتنا العربية جعله يخرج علينا بنظرية متكاملة سماها العدالية, والعدالية, كما يحددها الساعاتي, هي تفاعل العدالات الثلاث: العدالة الاقتصادية وسندها الحق والعدالة السياسية وسندها الحرية والعدالة الاجتماعية وسندها المساواة. فالعدالة الاقتصادية تنشأ نتيجة التغير الاجتماعي من علاقات قائمة علي الرأسمالية الفردية الي علاقات اقتصادية قائمة إلي الرأسمالية المجتمعية. أما العدالة السياسية فتنجم من الانتقال من علاقات سياسية قائمة علي الدكتاتورية إلي علاقات سياسية قائمة علي الديمقراطية وتأتي العدالة الاجتماعية نتيجة تحول اجتماعي من علاقات قائمة علي التمايز الي علاقات قائمة علي التكافؤ بين الأفراد, والعدالية علي هذا الأساس وفي اطار هذه المفهومات نظرية جديدة في التغير الاجتماعي. دور الساعاتي كرائد للبحوث الميدانية في علم الاجتماع في مصر لأن هذه البحوث شكلت في مجملها نقلة نوعية وسجلت له مكانته المرموقة وفضله في السبق والريادة في تطوير علم الاجتماع وفتح آفاق جديدة أمام أجيال من الطلبة والباحثين في هذا المجال العلمي, فقد ترك لنا الرجل من البحوث والدراسات الميدانية والانجليزية ما يقرب من عشرين بحثا ودراسة, ولأنه لم يتوان عن تقليب تربة التراث الفكري العربي وتقديم أفكاره حول هذا التراث ولعل أبحاثه المتعمقة عن الغزالي أو الماوردي وأبي الفداء وابن خلدون وبخاصة ابن خلدون الذي يكتسب أهمية خاصة عند الساعاتي بوصفه الرائد العربي الذي أسس في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الميلادي علما جديدا موضوعه العمران البشري والاجتماع الانساني. لقد قضي عالم الاجتماع المصري حسن الساعاتي الذي ما يقرب من نصف قرن من عمره باحثا منقبا ورائدا أصيلا وعالما منظرا ومحللا ومدققا ومعلما سباقا لأجيال وأجيال. المزيد من مقالات د. سامية الساعاتى