كتب - جيرى موللر أستاذ فى الجامعة الكاثوليكية الأمريكية كان سيمون كوزنتس، وهو واحد من أعظم رجال الاقتصاد في القرن العشرين، من رواد نظرية رأس المال البشري. وقبل وفاته بمدة بسيطة، أوصي كوزنتس أحد زملائه الشباب بضرورة دراسة الدور الذي لعبه اليهود في الحياة الاقتصادية. لقد أهمل أهل الاقتصاد وغيرهم من علماء الاجتماع تاريخ اليهود والرأسمالية، لأسباب مفهومة ولو أنها غير مقنعة. فبالنسبة لأغلب علماء الاقتصاد كانت الدرجة التي أسهمت بها الميول الثقافية المبكرة في صياغة الرأسمالية الحديثة بمثابة مصدرٍ للحيرة في أفضل الأحوال، إن لم تكن مجرد عامل يمكن إهماله. إذا نظرنا إلي التجربة التاريخية لليهود فسوف يتبين لنا أن اليهود، علي الرغم من فقرهم المدقع في أوائل القرن العشرين، نجحوا مع الوقت في تحسين آدائهم علي نحو غير متناسب في المجتمعات التي سمحت لهم بالتنافس مع غيرهم علي قدم المساواة. وكانت هذه هي الحال في وسط وغرب أوروبا، ثم في الولاياتالمتحدة. وكان آداء اليهود جيدا بصورة خاصة في مجال التجارة. وفي البحث عن منافذ اقتصادية لم يحتلها آخرون بالفعل، فقد نجح اليهود علي نحو متكرر في إنشاء أسواق لمنتجات وخدمات جديدة. كما تمكنوا من ريادة مؤسسات البيع بالتجزئة الجديدة، من جميع أشكال المتاجر. وكانت أسرع قطاعات الاقتصاد نمواً منذ أواخر القرن التاسع عشر تلك القطاعات التي صنفت عموماً تحت فئة "صناعات الخدمات"، والتي كانت تشتمل في الأغلب علي نشر المعلومات والترفيه وهي الأنشطة التي برز فيها اليهود بشكل خاص، من نشر المطبوعات إلي مسرح المنوعات ومن الأفلام إلي مختلف أشكال الرياضة التجارية. كما كان آداؤهم طيباً علي نحو غير متناسب أيضاً في المهن المكتسبة من خلال التعلم مثل الطب، والقانون، والمحاسبة وهي المهن التي تشكل أهمية مركزية بالنسبة للمجتمع الرأسمالي الحديث. ولأن اليهود كانوا يشكلون لفترة طويلة أقلية خاضعة للتمييز فإن هذه الحقيقة تستخدم في بعض الأحيان كحجة لتبرير ميلهم إلي تكريس جهودهم للتجارة، والمال، والمهن المختلفة. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الأقليات التي خضعت للتمييز لفترات طويلة قادرة علي إحراز نفس النجاح في ظل ظروف المنافسة السائدة في السوق. وهناك عدد من الطرق لتفسير الإنجازات غير المتناسبة التي حققها اليهود. ففي مجال التجارة كانت خبرات اليهود أفضل من خبرات غيرهم من الجماعات، كما تساعدنا معرفتهم الضمنية بالبيع والشراء وحساب المزايا، التي انتقلت من جيل إلي آخر بين الأسر اليهودية، فضلاً عن العلاقات التجارية القوية، تساعدنا في تفسير تميز اليهود في التجارة. فضلاً عن ذلك فقد استُبعِد اليهود لفترة طويلة في القسم الأعظم من أوروبا من المشاركة في قسم كبير من القطاع الاقتصادي الراسخ المتمثل في ملكية الأراضي، كما استبعدوا من العديد من المجالات الأخري التي كانت مقتصرة علي المسيحيين. لذا فقد تعلموا كيف يتحينون الفرص في الأسواق التي تعاني من نقص الخدمات، والعمل كباعة جائلين علي سبيل المثال، أو خلق منتجات جديدة أو أشكال جديدة من التسويق. كما لعبت الشبكات الاجتماعية أيضاً دوراً مهماً. فقد انتشر اليهود عبر العديد من البلدان، ولكنهم كانوا يشتركون إلي حد ما في لغة واحدة وحس بالمصير المشترك. لذا فقد كانوا أكثر انتباهاً إلي الفرص البعيدة، وكانت اتصالاتهم الدولية أوسع انتشاراً، وكانوا يتسمون بالنشاط بصورة غير متناسبة في عالم التجارة الدولية. فضلاً عن ذلك فإن اليهود كانوا متمسكين بثقافة دينية تروج لثقافة عالمية للبالغين أو الرجال منهم علي الأقل وثقافة تحترم دراسة الكتب. ولقد تحولت هذه المواقف من النصوص الدينية إلي الأشكال العلمانية من التعليم. ونتيجة لذلك، كان اليهود ميالين بشدة إلي التعلم، وعلي استعداد لتأجيل المتع والمكاسب المالية الآنية للحصول علي المزيد منها فيما بعد. ومثل هذه العوامل تبين لنا كيف يساعدنا الانتباه إلي تاريخ اليهود في ظل الرأسمالية في فهم الرأسمالية بشكل أكثر عموماً. كما تذكرنا بأن قدراً كبيراً من النجاح في أي مجتمع رأسمالي يستند إلي عوامل ثقافية وتاريخية تساعد في إنتاج سمات مثل الإبداع، والاستعداد للتسامح مع المجازفة، والاستعداد لإرجاء الإشباع من خلال الادخار والتعليم. وهذه السمات الثقافية يصعب قياسها كمياً، ولهذا السبب يجد خبراء الاقتصاد صعوبة في التعامل معها. وتنتقل هذه السمات غالباً من جيل إلي جيل داخل الأسر، لذا فهي تتناقض مع السياسات الاجتماعية القائمة علي فكرة مفادها أن العمل الحكومي قادر علي خلق تكافؤ الفرص. لا يحب بعض علماء الاجتماع لفت الانتباه إلي النجاح الاقتصادي غير المتناسب الذي أحرزه اليهود خشية أن يؤدي هذا إلي إثارة العداء للسامية، أو تعزيز نظريات المؤامرة بشأن هيمنة اليهود علي اقتصاد العالم. لا شك أن العقول المؤمنة بنظريات المؤامرة سوف تجد دوماً ما يغذي هواجسها. ولكن حقيقة أن تاريخ اليهود والرأسمالية يدعونا إلي التشكك في مدي دقة العلوم الاجتماعية الحالية تشكل في حد ذاتها سبباً قوياً لدفعنا إلي استكشاف هذا الموضوع.