يمكننا أن نطرح تطبيقا رئيسيا ومتميزا لممارسة السيد يسين البحثية المنهجية والبحثية من خلال مؤلفه السياسة الجنائية المعاصرة حول تحليل تاريخ وتطورات وأسس نظرية الدفاع مارك أنسل, وفي هذا الصدد يمكننا طرح مايلي من ملاحظات ومداخل للتعامل التحليلي مع هذا المؤلف المهم والتأصيلي فيما يلي: 1 إن الخطاب السوسيو قانوني, والسوسيو ثقافي في المقاربة البحثية للظواهر والمشكلات القانونية والاجتماعية والسلوكية لدي السيد يسين, يشكل خروجا علي التقاليد الفقهية والأكاديمية السائدة لدي الجماعة الفقهية والقضائية والدفاعية المصرية. 2 الخطاب القانوني الذي شاع مصريا وعربيا, اتسم ولايزال بالنزعة الشكلانية حيث سادت نزعة الشرح علي المتون, وهي مقاربة فيولوجية تفسر النصوص لغويا, وتحاول استنباط مرامي المشرع من وراء النص,أو الرجوع لدي بعضهم الي مبادئ الأحكام القضائية لمحكمة النقض أو الإدارية العليا أو ما انتهي اليه القضاء الدستوري من مبادئ وقواعد, وذلك كمحور وهدف لاستراتيجيات التفسير والتأويل القانوني. 3 النزعة الوضعية القانونية التي تأثرت بأوجست كونت وآخرين فلسفيا, ودارت حول الفقه الفرنسي في هذا المضمار, وتمت استعارتها تاريخيا, من خلال الاستمدادات النظرية والاصطلاحية والآداتية في استراتيجيات الممارسة البحثية. 4 الخطاب الأكاديمي حول الجريمة والعقاب اتسم بما يلي من سمات: أ غلب علي الممارسة الفقهية القانونية حول الجريمة والعقاب المنطق الفيولوجي الذي يركز علي النصوص, وذلك بهدف الكشف عن الثغرات القانونية, سعيا وراء إثارة الشبهات, والتشكيك في الواقعات الجنائية, أو الأدلة, ومدي توافر العناصر المشكلة لأركان الجريمة أو الإسناد السببي بين الفاعل أو الفاعلين أوالمشتركين في المشروع الإجرامي. إستراتيجية فيولوجية ترمي الي خدمة الإسناد والتأثيم للجناة, أو الكشف عن عدم توافر المسئولية الجنائية أو إثارة الشبهات حول أدلة الثبوت خطاب وممارسة عملية براجماتية سواء علي مستوي التفسير, أو التأويل أو التطبيق إثباتا أو نفيا للواقعات وأركان وعناصر الجريمة والمسئولية والمجرم, أو إثبات البراءة. ب بعض الممارسة الفقهية والبحثية حول تحليل أنماط السلوك الإجرامي ومعاملة المذنبين ووضع السياسات الجنائية أو العقابية, يمكن أن نطلق عليها وصف السرد المستعار للنظريات, والمفاهيم والاصطلاحات القانونية والإجرامية والعقابيةالغربية واللاتينية, وبعضها سرد مستعار ومتجاوز في بعض الدراسات النظرية اللاتينية المرجعية أو اللجوء الي الإلماع الي بعضها في بعض البحوث التطبيقية في محاولات وموضوعات علمي الإجرام والعقاب. ج بروز بعض الانفصال بين السرد النظري المستعار أو بعض تطبيقاته وبين بعض الممارسات البحثية الميدانية ماخلق فجوة بين الأطر النظرية والمفاهيم وبين الظواهر الاجرامية أو العقابية أو القانونية المدروسة. ماسبق من ملاحظات شكل ولايزال سمت بعض مناهج وإستراتيجيات البحث التي سادت في عقد الخمسينيات حتي عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في إطار الجماعة الأكاديمية والبحثية في العلوم الجنائية السؤال الذي نطرحه هنا: أين نضع مؤلفات السيد يسين في هذا الإطار؟ ثالثا: تطبيقات الدرس في المنهج أستطيع القول بلا مبالغة أو تجاوز أن مؤلفات الأستاذ السيد يسين شكلت مع بعض الكتابات السوسيو قانونية الأخري نقطة تحول في مجال الدرس والبحث الأكاديمي والتطبيقي في مجال الدراسات القانونية والسوسيولوجية في علوم الجريمة والعقاب والاجتماع القانوني, وهو مابرز في المؤشرات التالية: 1 النسق اللغوي الذي يتضمن تناصات بين لغة وبلاغة العلوم القانونية والسوسيولوجية والفلسفة والاستعارات الثقافية والأدبية, التي تعكس تكوينا علميا وثقافيا متعدد المنابع, والقراءات. 2 شكلت كتاباته خروجا علي الوضعية والشكلانية القانونية المسيطرة علي الخطاب والدرس الأكاديمي السائد آنذاك, ولايزال غالبه مستمرا. 3 بروز النزعة الاشتراكية حول القانون والدولة والجريمة والعقاب والسياسة الجنائية في مؤلفاته وبحوثه, وفي هذا الصدد نستطيع ملاحظة اهتمامه وإشاراته الي بعض جوانب الخصوصية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ومشكلات التطور الاجتماعي والثقافي المعاق قي المجتمعات العربية. ويمكن ملاحظة التأثر الأيديولوجي بالخطاب القومي العربي الذي شاع في عقدي الخمسينيات والستينيات تحت تأثير الأيديولوجيا الناصرية والبعثية ومصطلحاتها, وهو مايبدو في بعض اصطلاحاته في عنوان الباب الأول من الكتاب: حركة الدفاع الاجتماعي والمجتمع العربي المعاصر وكأننا إزاء مجتمع عربي واحد, علي الرغم من تفاوتات في مستويات التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي بين البلدان العربية علي اختلافها أياما كان الأمر في التقدم النقدي والتحليلي للغة الخطابات السياسية والبحثية السائدة آنذاك, إلا أن ذلك كان أمرا شائعا في الكتابات, والبحوث الاجتماعية والسياسية, إلا أن توجه الباحث الكبير كان تعبيرا عن موقفه الملتزم والمنفتح من مسألة الوحدة العربية علي خلاف توجهات بعض الماركسيين مواقفهم الفلسفية والسياسية النقدية علي إيديولوجيا القومية العربية الناصرية والبعثية وموقف بعض الاشتراكيين والليبراليين المصريين المتحفظ إزاء الفكرة القومية العربية الجامعة, نظرا لاختلاف مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين المجتمعات العربية, وذهب بعضهم الي أن الدول العربية باستثناء مصر والمغرب لاتعدو أن تكون قبائل ترفع أعلام دول. أياما كان الأمر كانت البلاغة والمجازات والكلاشيهات اللغوية القومية/ العربية شائعة آنذاك في الخطاب البحثي والأكاديمي في غالب فروع العلوم الاجتماعية. ومن ثم من الطبيعي أن نجد بعض التضمينات الشائعة في الخطاب القومي, في كتاباته وبحوثه, وإن لم تؤثر كثيرا في صلب العملية البحثية. نستطيع أن نقول أيضا إنها كانت محض قناع لتمرير المعاني والأفكار العدالية ذات الجذر الفلسفي الماركسي في مضمرات وظاهريات خطاب السيد يسن البحثي. 4 الكتاب يشكل مثالا علي المقاربة والأدوات المتكاملة في البحث السوسيو قانوني, والسوسيو ثقافي في مجال العلوم والظواهر القانونية والجنائية. ركز السيد يسين من مدخل/ مقدمة المقاربة حول السياسة الجنائية علي الطابع المتغير للجريمة بوصفها سلوكا اجتماعيا ذا بواعث وطرق مكافحة متغير, وليس نمطيا وحتميا. 5 ذهب السيد يسين وبحق إلي أن مصطلح السياسة الجنائية, أطلقه علماء الجريمة والاجتماع منذ القرن التاسع عشر علي مجموعة التدابير التي تصطنعها الدولة للوقاية من الجريمة ومكافحتها وعلاجها. من الشيق أيضا ملاحظة إبرازه تعددية مذاهب السياسة الجنائية وامكانيتها, ومن ثم أنها ليست عقيدة جامدة لاتنال منها رياح التغيير, بل تغيرت ملامح السياسة الجنائية وتبدلت سماتها مرات عديدة, ويشهد علي ذلك تتبع الرحلة الطويلة التي قطعتها. فقد بدأت أولا بالمدرسة الكلاسيكية التي نشأت خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر في إيطاليا علي يد الفقيه الإيطالي الكبير بيكاريا, الذي أعلن الثورة علي قسوة العقوبات وبشاعتها في عصره, وأدان تعسف القضاة وتلاعبهم بمصائر المتهمين. وقد ضمن بيكاريا تعاليمه الثورية كتابه الذائع الصيت في الجرائم والعقوبات الذي ألفه عام1764, وأحدث دويا في عالم القانون الجنائي. حاول سيزاري بيكاريا تحقيق عديد الأهداف وعلي رأسها الحيلولة دون تحكم القضاة عن طريق سلبهم سلطة فرض العقوبات وتحويل هذه السلطة للمشرع وحده. وإقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات,وإقرار مبدأ حرية الاختيار تبعا لمبدأ المسئولية الشخصية, والحيلولة دون توقيع العقوبات القاسية التي تمتهن كرامة الإنسان, والمناداة بتنظيم الخصومة الجنائية علي نحو يضمن حقوق الدفاع وصيانة استقلال القضاء, وإقرار أسلوب منع الجريمة قبل وقوعها كوسيلة لتحقيق الدفاع الاجتماعي. 6 عرض الباحث لانتقادات المدرسة الكلاسيكية التي أدت إلي ظهور النيوكلاسيكية التي ذهبت الي التحرر من النزعة التجريدية, وإهمالها للمجرم لصالح التركيز علي الجريمة, ومن ثم توجهت صوب إيلاء الاهتمام بالعناية بتفريد العقاب في ضوء شخصية المجرم, التي تحدد درجة المسئولية الشخصية, ومدي حريته في الاختيار. وذهبت الي وجوب تطبيق المسئولية الجنائية المخفضة في بعض الحالات وأثناء تطبيق العقوبة وتنفيذها. لاشك أن المدرسة النيوكلاسيكية شكلت امتدادا للمدرسة الكلاسيكية في نظرتها للعقوبة كمقابل للجريمة التي قارفها المجرم, ومن ثم يغدو القاضي في إطارها معنيا بالبحث في الجزاء الذي يستحقه المجرم أكثر من بحثه في الجزاء الذي يعالجه بالإضافة الي تعرض نظرية المسئولية المخففة لانتقادات عديدة. 7 عرض السيد يسين في مجال العرض التأصيلي والنقدي والتاريخي الي أن الثورة في حقل السياسة الجنائية تمت في إطار المدرسة الوضعية الإيطالية حول سيزار لومبروزو(1835 1909), وانريكو فيري(1856 1929) ورافابيل جارفالو(1852 1934) كانت الوضعية الإيطالية في مجال الجريمة والعقاب نتاجا لتأثير الفلسفة الوضعية الفرنسية( أوجست كونت) والفلسفة المادية الألمانية,والتطورية الإنجليزية لدي داروين, ثم هربرت سبنسر في المجال الاجتماعي. رفضت المدرسة الوضعية القانونية في المجال الجنائي ودراسات السلوك الإجرامي مبدأ حرية الاختيار وأن السلوك الإجرامي تحكمه الحتمية لا الحرية, وأن الجريمة هي حقيقة اجتماعية وإنسانية وليست محض فكرة مجردة. في هذا الإطار برزت فكرة الدفاع الاجتماعي التي تشكل محور كتاب السياسة الجنائية المعاصرة, وهي التدابير التي تطبق في مواجهة الجاني والتي لايقصد من ورائها القصاص منه, وإنما ترمي الي الدفاع عن المجتمع وتجنيبه الآثار الخطرة والسلبية من الفعل الإجرامي وترتيبا علي ذلك اهتم كبار علماء المدرسة الوضعية بإبراز أنواع التدابير التي يضعها المجتمع في مواجهة الجانحين والتي تتنوع بين تدابير استئصالية, وتدابير إصلاحية, وتدابير جزائية,ومن ثم اعتبر السيد يسين أن المدرسة الوضعية أثرت علي كثير من الذهنيات والمجتمعات.