النظرية تمر والضفدعة تبقي.. مقولة للعالم( جون جوستو) لخص فيها رؤيته للعلاقة بين العلم والحقيقة, أي ارتباط النظرية بالواقع, فالعلم علمنا أن ما نعتبره حقائق ما هو إلا مقاربات نظرية لفهم الحقائق عن طريق وضع بناء ذهني افتراضي يعطي للحقيقة العلمية معني, فالحقيقة المجردة ليس لها معني إلا إذا وضع لها الإنسان تصورا أو نظرية, فتعطي لها المعني المعرفي وهو بذلك مجبر علي قبول الحقيقة النسبية حسب قدرة المعرفة المستمرة للوصول إلي نظريات معرفية تعرفنا بالحقيقة أكثر, ولذلك فالنظريات متغيرة وتمر, ولكن الضفدعة كحقيقة أولية تبقي. كما هي, في انتظار تفسيرات جديدة بأشكال معرفية متعددة, فنظرية التطور ليست حقيقة علمية ولكنها إطار نظري لمجموعة من الحقائق العلمية, تحاول الوصول لجوهر الأشياء حسب قدرة حواسنا علي إدراك الواقع الخارجي. إذا كان ذلك صحيحا أو مسلما به في المجال العلمي البيولوجي, فإن تطبيقه علي النظريات الاجتماعية سياسية واقتصادية أولي, فعندما قامت ثورتنا المصرية وضعت إطارا نظريا للنهوض بالمجتمع يستند للواقع المصري فأرست قواعد لاشتراكية عربية إنسانية تقوم علي حقوق الإنسان ولا تعادي الدين, ولكن تفصله عن الدولة بالقدر الذي يحافظ علي الوحدة الوطنية وسمحت بالملكية الفردية, والملكية التعاونية, إلي جانب ملكية الدولة, وهي تجربة سياسية واقتصادية حققت للبلاد نهضة اقتصادية وثقافية ملموسة, فلا يستطيع أحد إنكار قضائها علي الاستعمار وأعوانه أو علي الاقطاع والأهم الاحتكار وسيطرة رأس المال علي الحكم, أو إنكار تحقيقها لعدالة اجتماعية شملت مختلف طبقات المجتمع, ولم تناقض النزعة الفردية في الوقت نفسه بالسماح بالملكية الفردية المحدودة. والاشتراكية فكر غربي في الأساس ظهر لمقاومة النزعة الفردية الرأسمالية, وانبثق منها الفكر الشيوعي المتطرف كأحد الأوجه للاشتراكية, فهي لها تطبيقات متنوعة, ثم ارتبطت بالحركات الاستقلالية في العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية في إطار مكافحة الاستعمار, بخلاف ما قامت عليه في أوروبا في مكافحة الرأسمالية, لاستعمال( رأس المال) لخير الجميع لا لمنفعة القلة من الرأسماليين, لتحل الملكية الجماعية لرأس المال محل الملكية الخاصة!! التجربة المصرية الاشتراكية تستحق الدراسة كتجربة إنسانية فريدة, فهي جمعت بين الأساس الأخلاقي للنظرية الفردية التي قامت عليها الرأسمالية فسمحت بالملكية الفردية والمنافسة الفردية ليستعمل الفرد جميع قواه للترقي وحق التملك, وفي نفس الوقت لم تأخذ بالنظرية الداروينية في الاقتصاد بالبقاء للأصلح, وقامت الدولة بحماية الطبقات الضعيفة من طغيان الطبقات الأخري, فحاولت تحقيق توازن بين الفرد والدولة لتحقق المصلحة العامة والمصلحة الخاصة في نفس الوقت. التطرف في تطبيقات الاشتراكية كما في التطبيقات الرأسمالية أدي إلي فشل ذريع, فالشيوعية تراجعت لفشلها في تحقيق الاحتياجات الأولية للجميع وقضت علي الفرد وطموحاته وهو أساس المجتمع, وبعد أن أعلنت الرأسمالية نهاية التاريخ بسيادتها كنموذج وحيد لإدارة دفة المجتمع في كل مناطق العالم. أثبتت الأزمة المالية خطورة إلغاء دور الدولة في الاقتصاد, والاستناد فقط إلي آلية السوق في توجيه رأس المال والعمل, لتحقيق أكبر ربح وأعلي أجر وعندما تراجع دور الدولة المخطط والمراقب, تراجعت أهمية القطاعات الانتاجية والخدمية الحيوية وأصبح الاقتصاد يدور في الأسهم والسندات والمشتقات المالية المبتكرة والمضاربات في النفط والغذاء! التجربة العملية تقضي بمراجعة التجربة الاشتراكية للثورة المصرية للاستفادة من نجاحها في تلبية متطلبات التنمية, بالتخطيط المتواصل, وتعظيم طاقة المجتمع, ورفع معدلات الادخار المحلي, وإنشاء صناعات جديدة, والحد من الاستيراد ووضع قيود علي انتقال الأموال, وفرض ضريبة تصاعدية خاصة علي الأرباح الريعية وتشجيع النشاط الإنتاجي, وتنويع التحالفات الاقتصادية الإقليمية والدولية خاصة مع دول العالم الثالث التي تتشابه ظروفها الاجتماعية معنا. ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن ثورتنا المصرية استطاعت أن تكتسب وزنا دوليا علي مختلف الأصعدة بفضل التحالفات العربية والإفريقية والإسلامية والعالمثالثية وكلها تصب في المصلحة الوطنية وتعظيم المكاسب الداخلية. في الوقت نفسه يجب الأخذ في الاعتبار التغيرات التي طرأت علي الواقع وأنه ليس هناك نظرية مطلقة ودائمة لمواجهة الأخطار التي قد يتفق عليها الجميع ولكن الخلاف دائما في آلية المواجهة, فكما أسلفنا النظرية تمر والضفدعة تبقي! فالمخاطر القديمة مازالت قائمة من فقر وضعف مخرجات التعليم والخلل في الأمن الغذائي والتركيب الطائفي والتصعيد في الصراعات الدينية والإثنية بالإضافة إلي الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية وصراع الحضارات فكلها مشاكل تحتاج إلي جهد إبداعي حقيقي, ومع قليل من فضيلة التواضع.. يمكن الاستفادة من التجربة الثورية التي صنعناها بأيدينا حتي لا نرمي الطفل مع الغسيل القذر! لم ينكر المنصفون للثورة فشلها في إقامة تنظيم سياسي ناجح وقادر علي الاستمرار, ويقوم علي بنية الدولة المؤسسية وهياكلها وعلاقتها بأفراد المجتمع, وتضبط آليات صنع القرار, بتوازن وضمانات حقوقية بالاضافة لضمانات آلية, انتقال السلطة سلميا, ويرجع ذلك علي الأرجح لطبيعة القائد في المجتمعات بالعالم الثالث التي لم تدخل تماما في حدود الأطر التنظيمية المماثلة في الدول المتقدمة وذلك لسهولة تكوين الشخصية الكاريزمية الملهمة التي تبقي فوق النقد والمساءلة, خاصة أن إنجازات زعيم الثورة المصرية( جمال عبد الناصر) أوجدت منه شخصية اسطورية مازالت تحتفظ بسحرها حتي الآن ولأجيال قادمة إن شاء الله. عافية الثورة في نقدها, فالنقد يعني استمرارها بالتطوير والتعديل ومواكبة المستجدات الحديثة, دون إنكار إنجازاتها أو الإكتفاء بها, فهي نقطة تحول تاريخية في تاريخنا المعاصر, تحتاج لجهد فكري بناء لتوجيه مسارها في صالح الشعب الذي قامت من أجله, ففي فرنسا مازالت تحتفل بالثورة الفرنسية التي انقلبوا عليها مرارا, وأجروا العديد من المراجعات حتي وصلت إلي شكلها الحالي في قيم الجمهورية التي تخدم الشعب بعد أن كان هدفها سحب القرار السياسي من يد الإقطاع لوضعه في يد الرأسماليين التي مهدوا لها, وفي انجلترا لم يكن في ذهن الاقطاعيين عندما اقتطعوا تنازلات من الملك المستبد( جون) وأعلنوا( الماجنا كارتا) لأخذ حقوق للمشاركة في القرار السياسي, إن هذا الاعلان الشهير سيتحول بفضل النقد والتطوير إلي ديموقراطية برلمانية ونظام حكومي رشيد يعمل لصالح الشعب بإرادة الشعب. أما الأمثلة القريبة علي أهمية التطور النقدي في تعديل النظريات السياسية هي ما تشهده تركيا من إفراز العلمانية التركية المتطرفة التي أعلنها( أتاتورك) منذ سقوط الخلافة العلمانية لعودة العثمانيين الجدد بفكر جديد يوفق بين المرجعية الإسلامية والنظريات السياسية والاقتصادية الحديثة! كذلك تشهد إيران مراجعات جذرية علي الثورة الإسلامية الخومينية من قلب الثورة في اتجاه الحرية الفردية والتواصل مع العالم الحديث. التغير سمة الحياة علي مستوي الفرد والمجتمع والعالم والكون, ويكون في صالح الغالبية عندما نفهمه ونضع له الأطر النظرية التي تلائمه فيعود بالنفع علي أصحابه, ويلخص مونديال كرة القدم الذي أقيم أخيرا نوعية التغيير, الذي طرأ علي العالم, حيث أصبح قرية صغيرة تتنافس فيه الشعوب للفوز, فثورة المونديال تنذر بفلسفة كونية جديدة تقوم علي( تنافس الشعوب المنتجة حضاريا) فعلينا استيعاب الفلسفة الجديدة حتي نضع مصالح الشعوب الفقيرة علي خريطة التغيير العالمي, فما علينا إلا تثوير ثورة يوليو العظيمة من جديد, للتأهل للتنافس الدولي والانتاج المادي والحضاري, واستيعاب الجماهير الغفيرة التي تريد العمل والحياة, ويلزمها قوانين وتشريعات انتاجية وبنائية, وكما يقول الكاتب الأمريكي مارك تيون في مطلع القرن ال20 إن وقت الاصلاح لم يفت قط. ومازالت ثورة يوليو تحتاج لعملية اصلاحية كبيرة لا تضع العجلة قبل الحصان فتعيد الاعتبار لدور الدولة في تسيير حركة المجتمع ككل, فلا ترمي العجلة ولا تقتل الحصان ولا الضفدعة! المزيد من مقالات وفاء محمود