لا يمكن قراءة تاريخ السينما المصرية دون التوقف طويلا أمام ثورة يوليو 1952، تلك الثورة التى غيرت ملامح المجتمع والسياسة والفن معا، وأعادت صياغة دور السينما، ليس فقط كوسيلة ترفيهية، بل كأداة للدعاية والتنوير والبناء الثقافي، فأصبحت بينهما علاقة تبادلية، الثورة دعمت السينما بالحرية والتمويل والأفكار الجديدة، بينما تحولت السينما إلى منبر شعبي يروج لإنجازات الثورة ويعكس هموم الناس وتطلعاتهم تحت ظل النظام الجديد. تناولت السينما ثورة يوليو منذ أيامها الأولى بأفلام وثائقية سريعة، ثم تحولت إلى الدراما الروائية لتروى قصص البطولة والتغيير الاجتماعي، ومن أبرز هذه الأفلام: رد قلبي (1957) للمخرج عز الدين ذو الفقار والذى تناول قصة ضابط شاب من أصول فقيرة يصطدم بالطبقية حتى تحقق الثورة أحلامه، وفيلم الأيدي الناعمة (1963) الذى أبرز سقوط طبقة الأرستقراطية وصعود الطبقات الوسطى، وأيضا في بيتنا رجل (1961) الذى تناول مقاومة الاحتلال فى أجواء تمهيدية للثورة، أما فيلم ناصر 56 (1996) فقد استعاد سيرة الزعيم جمال عبد الناصر وقراره التاريخي بتأميم قناة السويس، في حين استعرض فيلم أيام السادات (2001) حياة الرئيس السادات منذ نشأته حتى اغتياله مستعرضا خلاله ظروف قيام الثورة، وبقيت هذه الأعمال علامات فنية تؤرخ للثورة وتحفظ سرديتها للأجيال. وجهان لعملة واحدة في البداية يرى الناقد أحمد سعد الدين أن ثورة يوليو والسينما كانتا وجهين لعملة واحدة، موضحا أن السينما قبل الثورة كانت تحت سيطرة طبقة الأثرياء والأجانب والإقطاعيين، وكانت أغلب موضوعاتها تدور حول قصص الحب الأرستقراطي والمجتمع الراقي مع استثناءات قليلة. ويضيف سعد الدين أن الثورة جاءت لتفتح الباب أمام موضوعات جديدة قريبة من الناس، مثل العدالة الاجتماعية والفقر والغربة الداخلية وأحلام التعليم والتوظيف، مشيرا إلى أن الدولة وقتها أدركت قيمة السينما، فأعطتها دعما ماديا ومعنويا، وتأسست مؤسسات إنتاجية عامة مثل المؤسسة العامة للسينما التى أنتجت أعمالا كبرى تخلد ذكرى الثورة وزعمائها. ويكمل سعد الدين أن السينما استفادت من الثورة فى منحها حرية نسبية لتناول قضايا وطنية كبرى كانت محرمة من قبل، مثل الاحتلال والفساد الملكي والصراع الطبقي، مما جعل الجمهور يشعر لأول مرة أن السينما تتحدث بلسانه وتعبر عنه. ويشير إلى أنه رغم هذا الدعم فإن الثورة استفادت أيضا من السينما، حيث استخدمتها كوسيلة إعلامية للوصول للناس وإقناعهم بالمشروع القومي، لافتا إلى أن فيلم "رد قلبي" على سبيل المثال لم يكن مجرد قصة حب، بل دعاية مباشرة لفكرة الإصلاح الزراعي وسقوط الطبقية. ويختتم أحمد سعد الدين حديثه بالتأكيد على أن علاقة السينما بالثورة كانت نموذجا للدور الوطني للفن رغم أن الأمر لم يخل من الرقابة الفنية. شراكة فى الوعى أما الناقد رامي المتولي فيرى أن العلاقة بين السينما وثورة يوليو كانت أكبر من مجرد إنتاج أفلام عن الثورة، بل كانت شراكة فى صناعة الوعى، موضحا أن السينما المصرية لعبت دورا مهما فى تقديم رموز الثورة للشعب المصري وللمنطقة العربية بأكملها. ويضيف المتولي أن الأفلام التى تناولت الثورة مثل "في بيتنا رجل" و"ناصر 56" و"الأيدي الناعمة" صنعت أسطورة الضباط الأحرار فى خيال الناس وربطت أسماءهم بمشاعر البطولة والفخر، كما قدمت صورة ذهنية جذابة رسخت مكانتهم فى الوجدان. ويكمل المتولي أن السينما بعد الثورة اختلفت عن السينما قبلها، ففى الأربعينات وأوائل الخمسينات كانت معظم الأفلام مقتصرة على الاستعراضات والكوميديا الرومانسية دون عمق اجتماعي، بينما بعد الثورة ظهرت موجة الواقعية الجديدة مع صلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين، وبدأت أفلام الطبقة العاملة والفقراء والريف والهجرة الداخلية. ويشير المتولي إلى أن النظام وقتها كان على وعى مبكر بتأثير السينما الجماهيري ففتح لها أبوابا جديدة للإبداع والجرأة مقارنة بما كان قبل الثورة من رقابة اجتماعية طبقية شديدة. ويختتم رامي المتولي حديثه بالتأكيد على أن علاقة السينما بالثورة مرت بمراحل من التمجيد والترويج فى الخمسينات والستينات إلى النقد والتحليل والتقييم التاريخى بعد 1967 وخلال حقبة الانفتاح مما أتاح للسينما تقديم رؤى أعمق وأكثر موضوعية لاحقا. علاقة مثمرة من جانبه يرى الناقد محمود قاسم أن علاقة السينما بثورة يوليو كانت علاقة إيجابية ومثمرة، موضحا أن السينما لعبت دورا كبيرا فى تقريب أفكار الثورة وأحلامها إلى الناس بأسلوب بسيط ومؤثر. ويقول قاسم إن الأفلام التى تناولت الثورة فى بداياتها مثل "رد قلبي" و"في بيتنا رجل" ساعدت الجمهور على فهم التغيرات السياسية والاجتماعية التى حدثت بعد يوليو، وقدمت لهم رموز الثورة بشكل إنساني قريب إلى قلوبهم. ويضيف قاسم أن الثورة دعمت السينما بشكل كبير من خلال إنشاء مؤسسات إنتاجية ساعدت على ظهور أعمال قوية ظلت حتى اليوم علامات فنية وتاريخية مهمة، لافتا إلى أن تلك الفترة شهدت اهتمام الدولة بالمحتوى السينمائي واعتباره وسيلة تعليمية وتثقيفية للشعب، وهو ما لم يكن موجودا بهذه القوة من قبل. ويكمل قاسم أن السينما بعد الثورة ازدهرت وتنوعت موضوعاتها، فلم تقتصر فقط على الأعمال الرومانسية، بل ناقشت قضايا اجتماعية واقعية مثل الفقر والعدالة والتعليم، وهو ما جعلها أكثر ثراء وقربا من الناس، وخلد أسماء مخرجين كبار استطاعوا أن يعبروا عن روح المجتمع والتغيرات التى عاشها المصريون وقتها. ويختتم محمود قاسم حديثه بالتأكيد على أن السينما كانت شريكا حقيقيا للثورة ونقلت أحلامها من الميادين إلى شاشات العرض، فظلت هذه الأفلام شاهدة على فترة من أهم فترات التاريخ المصري الحديث ورسخت قيما إيجابية ما زالت باقية فى وجدان الجمهور حتى اليوم. اقرأ أيضا: خالد محمود يكتب : ثورة على الشاشة : كيف تناولت السينما المصرية 30 يونيو ؟