عصرية مستقلة ومقهورة تنتظر الخلاص الدولة آمنت بدور القوى الناعمة فاستخدمت الإعلام والسينما لتحقيق أهداف الثورة من أغانى الإذاعة: «يا بنت بلدى زعيمنا قال.. قومى وجاهدى ويا الرجال». فى أى مجتمع لابد أن تكون هناك أحداث مفصلية تنعكس على كل تفاصيل الحياة السياسية والثقافية والإجتماعية، واحدة من هذه الأحداث التى مرت فى حياتنا السياسية هى ثورة 23 يوليو 1952، أو ما يطلق عليها أيضا ثورة «الضباط الأحرار» التى أنهت الحكم الملكى. ................................................................. ثورة يوليو والتى حملت مبادءها إلى الشعب المصرى وسعت إلى تطبيقها كانت تؤمن بأهمية القوى الناعمة، لذلك سعت إلى توظيفها لخدمة أهداف الثورة، والترويج لها، وكانت السينما أحد هذه الوسائل التى استخدمت للتأكيد على الصورة الجديدة التى من المفترض أن يكون عليها المجتمع المصرى، بعض من هذه الأفلام أرخت للثورة، راصدة ايجابياتها، وبعدت تماما عن أى سلبيات، والمرأة فى سينما ثورة يوليو مهدت للثورة لكنها لم تجن مكاسب التحرر الوطنى التى حدثت فى أرض الواقع، كما قدمت صورا مختلفة للمرأة فى المجتمع المصرى، بعيدا عن الصورة النمطية للمرأة المحبة والعاشقة، أو المستكينة، وتلك القصص المعتادة عن بنت الأكابر التى تقع فى غرام الشاب الفقير، والعكس، بل ظهرت صور مغايرة للمرأة المصرية والتى تقف جنبا إلى جنب بجوار الرجل، وتنادى بالتغيير وترفض القيود. خرج الفيلم المصرى فى إطار منظومة قيم مختلفة تدعو بالأساس للتحرر، ففى ستينيات القرن العشرين كانت مصر قد بدأت مشروعا نهضويا أصبحت المرأة فيه شريكا و ليس مجرد تابع للرجل، وكان هذا نتاج نضال طويل للمرأة المصرية بدأته مع بدايات القرن العشرين لكن المميز فى حقبة الستينيات أن مؤسسات الدولة والسلطة السياسية كانت تدفع باتجاه تحقيق مكاسب للحركة النسوية بهدف إنجاح مشروعها السياسى. واستخدمت هنا الدولة كل وسائلها على رأسها الإعلام و السينما لتحقيق هدفها. كان الراديو مثلا يبث أغنيات من نوعية «يا بنت بلدى زعيمنا قال.. قومى وجاهدى ويا الرجال»، و كانت الدولة تنتج أفلاما مثل « للرجال فقط » لتؤكد على مساواة المرأة بالرجل فى كل المجالات. وقدمت السينما المصرية بعد مرور ثلاثة أعوام من الثورة فيلم «الله معانا»، ويحكى الفيلم الذى كتب قصته إحسان عبدالقدوس وأخرجه أحمد بدرخان عن ذهاب ضابط للمشاركة فى حرب فلسطين بعد أن يودع زوجته ويصاب فى الحرب ويعود مبتور الذراع مع عدد من الجرحى والمشوهين، مما يؤدى إلى غضب بين رجال الجيش، ويتكون تنظيم الضباط الأحرار لكى ينتقموا للوطن وتنتهى الأحداث بالإطاحة بملك البلاد وتولى الجيش مقاليد الحكم، ونشاهد من خلال أحداث الفيلم نماذج مختلفة للنساء الداعمات للرجال فى معركتهم ضد الاستعمار. وتعرض قصة الفيلم مأساة الأسلحة الفاسدة التى استشهد بسببها كثيرون من خيرة ضباط الجيش وجنوده، وكانت وصمة لهؤلاء الطغاة المستهترين، وخيانة منهم فى حق مصر. المخرج أحمد بدرخان وضع جميع إمكانات استوديو مصر لصناعة هذا الفيلم، ليجند الفن فى خدمة الثورة المباركة حيث تم تأليفه، وتجهيزه، وتصويره فى فترة قصيرة، ليساند الحدث الذى شهدته مصر، وفقا لما ذكر المؤرخ السينمائى محمود قاسم، كما أن مؤلفه إحسان عبد القدوس بدا كأنه يعبر عن تجربته الخاصة، من خلال شخصية الصحفى الذى جسده شكرى سرحان. شخصيات الفيلم جسدت أدواره بواقعية فإلى جوار فاتن حمامة، بطلة الفيلم، هناك شكرى سرحان ابن التاجر الثرى الذى يتاجر فى السلاح، وزكى طليمات، وحسين رياض الذى قام بدور زكور، أو محمود المليجى الذى قام بدور تاجر الأسلحة الفاسدة التى تم توريدها إلى الجيش فى حرب فلسطين عام 1948، وعماد حمدى «الضابط». و يتجلى التغيير الفعلى فى صورة المرأة المصرية فى عدد من الأفلام التى أنتجت بعد الثورة، والتى كانت تدعم التغيير الحادث فى المجتمع ومن هذه الأفلام «الباب المفتوح»، والذى أنتج فى عام 1963، أى بعد الثورة ب 11 عاما عن رواية للكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات، صدرت قبل عرض الفيلم بثلاث سنوات، وحولها المخرج المتميز هنرى بركات لواحد من أجمل أفلام السينما المصرية، بعينه الذكية ووعيه الإنسانى العالى، حيث وجدنا ليلى تجسدها فاتن حمامة تسير بخطى واثقة نحو حريتها، رافضة كل القيود المجتمعية البالية، بدء من تحديها لحديث مديرة المدرسة التى تؤكد أن «مكان المرأة هو البيت»، لترد ليلى قائلة: «إن حضرة الناظرة تقول إن المرأة للبيت والرجل للكفاح.. وأنا أقول إن الاستعمار حين استعبدنا لم يفرق بين الرجل والمرأة.. وحين سدد الرصاص إلى قلوبنا.. لم يفرق بين الرجل والمرأة.. فدعونا نعبر عن شعورنا.. دعونا نعبر عن مشيئتنا.. وافتحوا لنا الأبواب». وهو ما أصرت عليه ليلى طوال أحداث الفيلم، مهما حاول المجتمع وأسرتها قهرها وإرغامها على أن تعيش حياتها للزواج والرجل فقط، وسرعان ما تتمرد، وصولا إلى لحظة النهاية، عندما قررت الذهاب إلى بورسعيد للمشاركة فى المقاومة، لتقف جنبا إلى جنب مع شقيقها، وحبيبها حسين. المخرج المخضرم «صلاح أبو سيف» يعد من الجيل الذى واكب الثورة وكان لها دور كبير فى توجهاته الفكرية كغيره من المخرجين مثل عز الدين ذو الفقار، وحسن الإمام، وعاطف سالم، وكمال الشيخ، الذين تعاملوا بوعى وحس سياسى مع ثورة يوليو، بمعنى أنهم ابتعدوا عن المباشرة، وقاموا بتقديم أفلام سينمائية تدور أحداثها فى السنوات الأخيرة من حكم الملك فاروق، مؤكدين انغلاق الأفق ومعاناة المجتمع لذلك فإن قيام الثورة كان حتميا. وهو ما قدمه المخرج صلاح أبو سيف من خلال فيلمه الأيقونة «بداية ونهاية» عام 1960 والمأخوذ عن رواية الأديب نجيب محفوظ التى تم نشرها عام 1949، رصد من خلال الفيلم تفاعلات العلاقات الاجتماعية فى ذلك الوقت أى ما قبل الثورة وعلاقة الإنسان الفقير بمجتمعه ودوره المهمش كسائر الطبقة الفقيرة فى العهد الملكى، وركز أبو سيف على الانهيار المجتمعى الواقع بسبب الفقر من خلال شخصية نفيسة التى جسدتها العبقرية سناء جميل، تلك الشخصية النسائية ضحية الفقر، والمجتمع الطبقى، والتى حملها أبو سيف بكل معاناة مصر فى تلك المرحلة التاريخية، بدءا من خضوعها باسم الحب لابن البقال جسده صلاح منصور والذى جردها من شرفها ثم تخلى عنها، وهى المرأة التى لم تشعر يوما بجمالها، ولم تعرف فقط سوى إنها قبيحة، إنه الفقر الذى يقضى على أى إحساس بالجمال، وصولا لاشتغالها بالدعارة وامتهان آدميتها بسبب الفقر أيضا وطموح شقيقها الأصغر، وصولا لانتحارها، بسبب ذلك المجتمع الذى فشل فى تحقيق حياة كريمة، ووصمها بالعار وحملها كل تبعات انهياره، بسبب ذلك الصراع الطبقى ( والذى قضت عليه الثورة). وإذا كانت نفيسة قد باتت ضحية لهذا المجتمع العنيف الذى يرزح تحت حكم الطبقية والفقر، فإن نوال فى فيلم «فى بيتنا رجل»، الذى أخرجه المبدع هنرى بركات، كانت رمزا مغايرا للمعاناة، والرغبة فى المقاومة، نوال ابنة الطبقة المتوسطة، تنتمى لأسرة تحاكى الكثير من البيوت المصرية فى ذلك التوقيت، والد موظف وأم ربة منزل وشقيق جامعى، وهى وشقيقتها يجلسان فى المنزل، فجأة تتحول تلك الحياة الهادئة إلى حياة صاخبة مليئة بالأحداث والمخاوف، عندما يفاجأهم المناضل إبراهيم حمدى، الشاب الجامعى الذى يرغب فى تحرير بلده من طغيان الاستعمار وظلم الملك، وإبراهيم يغير مسار الأسرة، ويجعلهم يتساءلون لماذا يستسلمون؟، وطنهم يستحق، وتتحول نوال أيضا إلى فتاة فاعلة تدعم إبراهيم وتساعده وتنقل له الرسائل السرية بينه وبين زملائه فى المقاومة، نوال التى تتعلم معنى الوطنية، من خلال علاقتها الرومانسية بإبراهيم، والذى يضحى بحياته من أجل أن يتحرر الوطن، ويثور الشعب ليثأر لكرامته. »فى بيتنا رجل» فيلم عن رواية لإحسان عبد القدوس، وبطولة عدد كبير من الفنانين ومنهم عمر الشريف، وزبيدة ثروت، وحسين رياض، ورشدى أباظة، وحسن يوسف وزهرة العلا ومن إخراج هنرى بركات. وقدم أيضا المخرج المخضرم كمال الشيخ فيلمه «غروب وشروق»، وهو الفيلم الذى صاغ له السيناريو والحوار رأفت الميهى وقام ببطولته سعاد حسنى، ورشدى أباظة، وإبراهيم خان، وصلاح ذو الفقار، والنجم محمود المليجى، والذى تبدأ أحداثه مع إخماد حريق القاهرة، فى يناير 1952، ويطمئن عزمى باشا رئيس البوليس السياسى بأن الموقف تم السيطرة عليه وأنه ليس هناك أى خطر، عزمى باشا يعيش فى قصره مع وحيدته مديحة المطلقة، التى تتعرف على طيار مدنى (سمير) ويتزوجان، ويقيمان بداخل القصر، تتصور مديحة أنها يمكنها أن تعيش بعيدًا عن سيطرة والدها، لذا تطلب من زوجها أن يعيشا بمفردهما خارج جدران القصر، إلا أن عزمى باشا يرفض ذلك، والزوج مستسلم تماما، مديحة التى جسدت دورها سعاد حسنى وكأنها معادل لمصر المحكومة بسطوة الباشا زعيم البوليس السياسى، وزوج خانع وخاضع لرغبته، لا يملك من أمره شيئا، وتبدأ مديحة رحلة تمردها. ويعتبر فيلم «القاهرة 30» من أهم الأفلام التى ناقشت الظروف التى مهدت لقيام الثورة، خاصة بعد انتشار الفساد، والفيلم إخراج صلاح أبوسيف، وقصة نجيب محفوظ، ومن بطولة سعاد حسنى، وأحمد مظهر، وعبد المنعم إبراهيم، وحمدى أحمد، وعبد العزيز مكيوى، وتوفيق الدقن، وبرزت فيه شخصية إحسان ضحية الفقر أيضا وحبيبها المثقف والذى يتركها للباشا ومحجوب عبد الدايم، ورغم أن طه الثورى خذل إحسان حبيبته، إلا أنه يستمر فى نضاله الثورى من خلال الناس مبشرا بفجر جديد، ومؤكدا أن هذا الفجر هو الذى يحمل الخلاص لإحسان. ونكتشف أن أهم الأفلام التى قدمت عن الثورة، وناقشت حال المجتمع وتغير صورة المرأة كانت فى الستينيات، وحسبما ذكر الكاتب والسيناريست بشير الديك قائلا إن « ثورة 23 يوليو من أهم الأحداث التى شهدها تاريخ مصر، حيث إنها قضت على الملكية وأعلنت الجمهورية، لكنها للأسف لم تقدم فى السينما بشكل جيد يليق بها، فمجموعة الأفلام السينمائية التى تحدثت عن الثورة ليست كثيرة». وأكد الديك أن قيمة الثورة الحقيقية لم تظهر على شاشة السينما بشكل جيد إلا فى فترة الستينيات، فقد قدمت السينما أعمالا سينمائية جيدة لم تتحدث عن الثورة بشكل مباشر. ويضيف الديك أن فيلم «رد قلبى» يعد من أهم الأفلام التى تناولت معاناة الشعب المصرى قبل ثورة يوليو من خلال قصة حب الأميرة «إنجى» ابنة الباشا لابن الفلاح البسيط «على»، والذى يصبح ضابطا فى الجيش وتمر الأيام حتى تندلع الثورة وبعد ذلك يتمكنان من الزواج، وقد تم تصنيف الفيلم فى المركز الثالث عشر ضمن أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية فى استفتاء النقاد عام 1996 فى احتفالية مئوية السينما المصرية.