السينما والثورة تعيش مصر الآن لحظة تاريخية فارقة وهى على مشارف الموجة الثانية الكبرى من الثورة التى يحاول فيها الشعب المصرى بكل طوائفه وأطيافه استردادها من عصابة دولة الاستبداد والقمع والإقصاء المتدثرة -زيفاً- برداء الدين والتى انقضَّت على ثورته، وأجّلَت أحلام المصريين وآمالهم فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، واستبدلت نظاماً فاسداً مستبداً بنظام أكثر استبداداً وفساداً وعنفاً ودموية. من هنا كان من المناسب تماماً أن تنظم لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة حلقة بحثية تحت عنوان «السينما والثورة» تناقش علاقة السينما بالثورة/ الثورات، شارك فيها عدد من الباحثين والنقاد بمجموعة أبحاث تضمنها الكتاب الذى أصدره المجلس بعنوان «السينما والثورة» بمقدمة ضافية للناقد الدكتور ناجى فوزى الذى قدم عرضاً موجزاً ووافياً للأبحاث مع بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين الآراء والرؤى فيما بينها. فى مبحثه الهام عن «الثورة وقادتها على شاشة السينما» ركّز الدكتور حسن عطية على دور السينما فى التأثير على الوعى، فهى «تحمل خلف سطحها المبهر جمالياً أيدولوجية صنّاع أفلامها، ويتخلل عبر صُوَرِها الكثير من الأفكار التى قد تفوق فى أهميتها وخطورتها ما هو معلن على لسان الشخصيات أو ما تكشف عنه وقائع الفيلم».. ثم يحدد مفهوم الثورة بأنه ذلك الفعل الذى «يسعى للتغيير الجذرى فى بنية الدولة ونظام الحكم فيها، بإحداث مجموعة من التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية عقب وصول صنّاعه لسلطة الحكم».. ويردف: «أما نتائجه الفعلية فقد يجنيها الثوار صناع هذا الفعل، أو يجنيها من عرفوا كيفية سرقته والانحراف به» (!!). إلى جانب بحث د. حسن عطية، هناك بحثان عن «السينما المصرية والثورة» للناقدين أحمد عبدالعال وعصام زكريا، وستة أبحاث أخرى تناولت علاقة السينما بالثورات فى العالم للنقاد والباحثين ضياء حسنى (الثورة الفرنسية) ومحسن ويفى (الثورة فى أفريقيا) وأسامة عبدالفتاح (الثورة الأمريكية) ونادر رفاعى (الثورة فى روسيا) وعاطف فتحى (صورة الثورة فى السينما البريطانية) وآخرها بحث د. أريج البدراوى عن (المرأة بين الواقع الثورى والتجسيد السينمائى). والأبحاث التسعة -مع التعقيبات الواعية والذكية للدكاترة شاكر عبدالحميد ومحمد كامل القليوبى ووائل غالى- كلها تحمل جهداً لافتاً واجتهاداً ملحوظاً ومشكوراً من كاتبيها، غير أن الكتاب خلا من دراسة خاصة عن السينما المصرية وثورة يوليو تحديداً، وهو ما اضطر د. ناجى فوزى فى مقدمته أن يرجع، ويُرْجعنا معه، إلى الدراسة القيِّمة للدكتور القليوبى المعنونة «السينما المصرية وثورة يوليو.. صراع الاحتواء بين السينما والثورة»، وهو ما جعل القليوبى -فى تعقيبه- يختلف بالضرورة مع قراءة أحمد عبدالعال «المغايرة» للسينما والثورة فى مصر التى يقرر فيها أن علاقة السينما بالمصريين كانت منذ بداياتها «علاقة حيادية بين طرفين» ويرجع ذلك إلى ما أسماه المزاج الجمعى للمصريين الذى يفضّل الغناء والموسيقى والرقص والفكاهة، ولهذا فإنه يرى أن السينما المصرية لم تكن مؤهلة إلا للاتجار فى أوقات الفراغ.. وللأسف فإن الإسهاب والجهد الزائد والانغماس الكامل فى تحليل الظروف السياسية والاجتماعية فى مصر منذ الثورة العرابية قد حال بين الباحث وتفسير ماهية العلاقة بين السينما والثورة فى مصر بل وتجاهل السينما المصرية بصنّاعها وأفلامها! ربما كان بحث الناقد النابه عصام زكريا عن «السينما وثورة 25 يناير» هو الأكثر جدّة واقتراباً من الواقع الآنى، حيث يتناول رصداً ونقداً وتحليلاً للأفلام (وثائقية وروائية طويلة وقصيرة مصرية وأجنبية) التى تصدت للتعبير عن هذا الحدث التاريخى أو لتوثيق أحداث تلك الأيام المجيدة فى تاريخ الشعب المصرى، مُنطلقاً من وعيه بأن الثورة ما زالت فى طور الاكتمال وأنه من الصعب، حالياً، تناولها فنياً، ويخلُص فى مجال السينما الوثائقية إلى أن قناة الجزيرة بإمكاناتها المادية والفنية كان لها النصيب الأكبر فى إنتاج العديد من الأعمال التى تابعت أحداث الثورة زمانياً ومكانياً، كما يشير البحث إلى إسهامات قناة العربية وقناة BBC والتليفزيون المصرى وصحيفتى الشروق والمصرى اليوم وبأسف لغياب هيئة الاستعلامات والمركز القومى للسينما عن ساحة الثورة، مؤكداً أن هذه الجهات «أثبتت خصومتها للثورة وولاءها المطلق للنظام المخلوع».. ويكمل: «ومن المذهل أن نعرف أن كلتا الهيئتين لم ترسل كاميراتها إلى الميادين لترصد أهم حدث فى تاريخ مصر الحديث». فى مجال الأفلام الروائية المصرية يكشف عصام زكريا عن تلك الأفلام التى كانت جاهزة للعرض، وحين فاجأتها الثورة أضافت بعض مشاهدها فى نهاياتها (صرخة نملة / الفاجومى)، وعن ضعف مستوى «تك تك بوم» لمحمد سعد و«حظ سعيد» لأحمد عيد. ويأخذ الباحث على فيلم «بعد الموقعة» ليسرى نصر الله أن الثورة نفسها ليست فى الفيلم، كما تسود الفيلم حالة من الارتجال بسبب اللهاث وراء الأحداث لم يستطع المخرج معالجتها فى المونتاج، ويقر الباحث بحق أى فنان فى «أن يرى الجانب الذى يستهويه من الحكاية، ويسرى يختار لنا القلق والحيرة والخوف من المستقبل، وهذا حقه، ولكن ينبغى لبناء الفيلم ألا يكون مرتبكاً وسائلاً إلى هذه الدرجة». من بين الأفلام الأجنبية التى تناولت الثورة، يرى عصام زكريا أن فيلم «العودة للميدان» للمخرج بيتر بلوم هو أكثر الأفلام تعبيراً عن الواقع والمزاج المصرى ما بعد ثورة يناير، كما يثنى على بناء الفيلم الدنماركى «نصف ثورة» للمخرجيْن عمر الشرقاوى «فلسطينى دنماركى الجنسية» وكريم حكيم «مصرى أمريكى الجنسية»، فالفيلم «يحقق العضوية بين العناصر: المضمون مع الشكل والخط الرئيسى مع الخطوط الثانوية». حلقة بحثية بالغة الأهمية فى توقيتها، ومجوعة أبحاث تتسم بالثراء والتنوع، وإطلالة تبعث الأمل فى أفئدة كل الطامحين إلى استرداد ثورتهم المختطفَة، فدرس التاريخ علّمنا، ويُعلّمنا أن الشعب حين يريد إسقاط نظام فاسد.. فلا بد لهذا النظام -طَوْعاً.. أو كرْهاً- أن يستجيب.