الربيع العربي وعودة الروح للسينما الوثائقية ثمة ثورة حدثت في مصر .. هذا ما يؤكده مهرجان الإسماعيلية السينمائي في دورته الخامسة عشرة ..فقد خرج المهرجان من القرية الأوليمبية بالاسماعيلية الي براح المدينة حيث الجمهور الذي يبحث عنه المهرجان أي مهرجان ليؤدي رسالته الأهم وهي نشر الثقافة السينمائية وثمة إنجاز حقيقي لاحظه المتابعون من اللحظة الأولي فالبحث عن شادي عبد السلام مرة أخري وترميم فيلمه " الطريق الي الله" وحده إنجاز يصلح ليكون مهرجانا في حد ذاته فالفيلم الذي لم يكن شادي قد استكمل جزأه الثالث ظل مخزنا لخمسة وعشرين عاما حتي قامت ثورة يناير ليبدأ المونتير مجدي عبد الرحمن في استكماله بجزء ثالث ينتمي إليه أكثر مما ينتمي لشادي وعرض الثلاثة بافتتاح المهرجان وقدم المهرجان والمركز القومي للسينما للعالم كله وثيقة فيلمية لا تقدر بثمن اسمها الطريق الي الله لتضاف الي تراث واحد من أعظم المخرجين في تاريخ السينما وليشهد حفل الافتتاح انبهارا من كل السينمائيين والنقاد الذين حضروا بقدرة نملكها لكن لم نستخدمها يوما ما في اكتشاف قدراتنا وذاتنا وبعد حفل الافتتاح مباشرة طلب أكثر من ضيف يمثلون مهرجانات عالمية فيلم شادي الجديد القديم لعرضه في حفلات افتتاح لمهرجانات العالم .. الطريف أن مجدي أحمد علي طلب منهم تحديد مقابل العرض أولا حيث لا تعرف المهرجانات العالمية كلمة العرض المجاني. وكشفت أقسام المهرجان المختلفة عن رغبة حقيقية في استكمال رسالة إبداعية بدأها المركز القومي للسينما منذ ستينات القرن الماضي حيث جاء عرض عشرة أفلام بحضور أغلب مخرجيها وهم من كبار مخرجي السينما المصرية ليشكل ملامح ليلة دافئة وحنين الي مصر التي واجهت صعوبات لكنها كانت تواجهها سواء في التعليم أو الصحة أو غيرهم ومن هذه الأفلام فيلمه " البطيخة " للمخرج محمد خان و"وصية حكيم في شئون القرية والتعليم : للمخرج داود عبدالسيد و " صلاة من وحي مصر العتيقة " للمخرجة نبيهة لطفي " والفيلم التسجيلي الأهم في تاريخ السينما التسجيلية العربية "أرزاق يا نيل " للمخرج هاشم النحاس وغيرهم وقد حضر كل من محمد خان وداود عبد السيد ومدير التصوير محمود عبد السميع ونبيهة لطفي والمونتير أحمد متولي والمخرج محمد قناوي ندوة عرض الأفلام التي بلغ عددها عشرة أعمال خرجت من مخازن المركز القومي للسينما لتصنع لها نسخ جديدة بدلا من نسخها التي كانت علي وشك الهلاك لنفقدها إلي الأبد وفي الندوة التي أدارها مدير المهرجان أمير العمري جاء الحنين سريعا إذ تذكر المخرجون والمصورون الحاضرون لحظات صناعة هذه الأفلام بين صعوبات الواقع وقضاياه وبين تفاؤل بطموح الجيل الذي كان يطمح الي مصر أجمل وأقوي. ومن الحنين لبدايات صعود جيل أصبح من كبار المخرجين الي النظر للمستقبل عبر أفلام الشباب التي جاءت في مجملها مبهرة ومن ثم إلي أفلام الثورة التي أبدعها الأجانب في نظرة إلي الثورة المصرية لحظة قيامها. وجاءت إقامة تعاون بين أكبر قناة وثائقية في الوطن العربي وهي " الجزيرة الوثائقية " مع المهرجان لإقامة ندوة كبري استمرت لأكثر من ثلاث ساعات تحت رعاية القناة وعقدت في اليوم الثاني للمهرجان تحت عنوان " ربيع الوثائقي " وحضرها رئيس المهرجان الدكتور مجدي أحمد علي جالسا بين جمهور غفير بينما أدارها مدير المهرجان الدكتور أمير العمري ومعه السينمائي المغربي أحمد بو غابة وتحدث خلالها العديد من النقاد والمبدعون. ودارت الندوة حول محاور ثلاثة هي نظرة علي الإنتاج الوثائقي وطابعه قبل الثورة وتحدث فيه أسعد طه منتج أفلام وثائقية مستقل. والمخرج التسجيلي المصري عماد أرنست ويدور حول وثائقيات الثورة وتحدث فيه أحمد زين المنتج الوثائقي وأسامه صفار باعتباره متابعا للتجارب الوثائقية المصرية والأفلام المصرية. أما المحور الثالث فجاء تحت عنوان آفاق جديدة وتحدث فيه عصام زكريا وهو ناقد ومتابع للإنتاج الوثائقي والناقد الأردني عدنان مدنات الذي تحدث عن آفاق الوثائقي المحتملة لفترة قادمة والصحفي السوري بشار إبراهيم الذي تحدث عن الأفق العربي الجديد في قراءة وفهم الفيلم الوثائقي. وشهدت الندوة اختلافا حول الضوابط التي يمكن لممول الإنتاج وضعها لتنفيذ العمل وحاز إنتاج الجزيرة الوثائقية والذي بلغ خمساً وخمسين ساعة عن الثورة المصرية علي تقدير المعلقين وقد أصدر المهرجان كتابا للناقد عصام زكريا يرصد فيه وثائقيات الثورة واستعرض زكريا الإنتاج الذي قدمته الوثائقية مقارنة بغيره في العالم كله. وقد أدار المحور الأول للندوة نبيل العثيمي مدير الإنتاج بالجزيرة الوثائقية والذي أكد عدم تدخل الجزيرة بفرض أي شروط علي منتج العمل سوي الجودة وقد طرح عبر محاور الندور الثلاثة الاختلاف حول مصطلح أفلام الثورة وهل هي تلك الأفلام التي انتجت بعد 25 يناير 2011 أو الأفلام التي تحمل طابعا ثوريا تنوعت آراء النقاد إزاء الأفلام التي أنجزها مخرجون عرب وأجانب حول ما اصطلح علي تسميته بثورات الربيع العربي. وأشار مدير المهرجان أمير العمري في الندوة التي شاركت قناة الجزيرة الوثائقية في تنظيمها إلي تلك التأثيرات التي حققتها الثورات العربية علي الفيلم التسجيلي لافتاً إلي تزايد أعداد الأفلام التسجيلية بشكل ملحوظ رغم التباين في مستوياتها الفنية وتنوع ما حاكته من قضايا . ورأي المخرج والمنتج أسعد طه أن الفيلم الوثائقي تعرض ما قبل الربيع العربي إلي تحديات جسيمة سواء من ناحية صعوبة العثورعلي التمويل أو اصطدام صناع هذا النوع من الأفلام إلي أنواع من المضايقات الرقابية والتسويقية. وتحدث المخرج عماد أرنست عن جوانب من الصعوبات التي تواجه المخرج في هذا النوع من الأفلام التي غالباً ما تقوم الجهات والمؤسسات الممولة بفرض أجندتها علي رؤية المخرج الأمر الذي يؤدي بالتالي إلي انسحاب المخرج المستقل من العمل . ودعا الناقد أحمد بوغابة الي تحرير الفيلم الوثائقي من القيود التي كانت تؤطره في الماضي إلي آفاق رحبة من الخطاب المقترن بجماليات الطرح والبناء السردي المبتكر . ركز الناقد والمخرج عدنان مدنات علي ضرورة ألا يتبع الفيلم التسجيلي نهج ماتقوم به تقارير نشرات الأخبار في القنوات التلفزيونية، بل الاهتمام بتداعيات الحدث وجوانبه بشكل مختلف يعي وظيفته التنويرية في المجتمع . وأوضحت المخرجة عرب لطفي إلي ضرورة التفات صناع الفيلم الوثائقي إلي الهامش كونه المحور الأساسي والمحرك الفاعل في الأحداث التي اتسمت بها الحياة السياسية في كثير من البلدان العربية . وقال المصور السينمائي محمود عبدالسميع إن الفيلم التسجيلي هو ذلك الشاهد الأمين علي كثير من الأحداث التي عاشتها المنطقة العربية والمعبر الحقيقي عن تطلعات وآلام الناس مضيفا أنه لابد للسينمائي التسجيلي أن يعايش الواقع بسائر مكوناته . وقال السيناريست فايز غالي إن مشكلات الفيلم التسجيلي سوف تستمر مع الربيع العربي لأن ثمة معاناة مزمنة في فهم وظيفة هذا الحقل الإبداعي في تحولات المجتمع. وأوضح الناقد عصام زكريا صاحب كتاب (أفلام الثورة) الصادر حديثا عن منشورات مهرجان الاسماعيلية السينمائي هذا العام أن الحكم ما زال مبكرا علي مستويات الفيلم التسجيلي الذي تصدي لحقبة الربيع العربي وأنه يجب الانتظار للاطلاع علي سائر تلك الاشتغالات التي بدأ كثير من المخرجين التسجيليين العرب والأجانب في تصويرها بأكثر من زاوية علي خلفية من الطموح ببلوغ أقصي درجات التركيز والانغماس في المشهد بأكمله . وأشار رئيس قسم الفنون في الجامعة الأمريكية الدكتور مالك خوري إلي محطات تاريخية في مسيرة الفيلم التسجيلي في قدرته علي تصوير التحولات الحادة في المجتمعات الإنسانية متوقفا في ظواهر ودلالات تلك الجماليات التي اتسم بها الفيلم الوثائقي في الاتحاد السوفيتي السابق وبلدان أمريكا اللاتينية. ولفتت الناقدة ماجدة موريس إلي سلطة القنوات التلفزيونية علي مضامين وأشكال التعبير في الفيلم التسجيلي داعية إلي البحث لإيجاد منافذ جديدة أمام الفيلم التسجيلي والتوسع في إطلاق عروضه. وعلي العكس تماما مما يري أغلب النقاد والمبدعين الحاضرين رأي الناقد رمضان سليم أن الربيع العربي هو ظاهرة مؤقتة في عمل مخرج الفيلم التسجيلي لافتا إلي أهمية أن يتحرر منها صوب قضايا أكثر اتساقا مع حركة التاريخ والموروث الثقافي . وبين أفلام تسجيلية وروائية قصيرة وجدل سياسي لا ينتهي حول مستقبل الفن في مصر في ظل التحولات الثورية والعميقة في مصر قضي المهرجان أيامه متفائلا بحذر .. ومتشائما بحذر أيضا.