على هامش زيارتى الأخيرة للقاهرة، كان لى لقاء مع مجموعة من الأصدقاء حيث تجاذبنا أطراف الحديث حول ما تمر به المنطقة العربية من تحولات بعد إسقاط نظامى البشير فى السودان وبوتفليقة فى الجزائر، والتهديدات الأمنية التى يمكن ان تلاحق المنطقة فى ظل تمدد تنظيمات إرهابية مثل تنظيمى داعش والقاعدة فى منطقة الساحل والصحراء وليبيا والصومال والسودان وغيرها.. وكان التساؤل دائما ما هو السبيل لمواجهة هذه التنظيمات التى نجحت بشكل مقلق فى استقطاب مقاتلين ومتعاطفين مستعدين دائما لخدمة التنظيم من أى مكان ومن أى موقع. وعاد الحديث عن المقاربة الأمنية والعسكرية ومدى نجاعتها فى القضاء على الإرهاب. والحق يقال ان هذه المقاربة على أهميتها لن تستطيع وحدها القضاء على هذه الظاهرة مهما يخول لها من إمكانات مادية وبشرية، اذ يجب ان تقترن بمقاربات أخرى، منها على سبيل المثال وليس الحصر، المقاربة الدينية التى يجب ان تشمل عمليات استباقية تقوم على مجموعة من التدابير، منها: أولا، رعاية الكتاتيب ودور تحفيظ القرآن، باعتبارها الحصن الأول الذى يحمى الأطفال من التطرف، وجعلها تحت وصاية الوزارة المعنية، لمواجهة مشكلة التعليم الدينى الموازى الذى ظهر فى بعض الدول العربية، خاصة تونس، منذ اندلاع ثورة 2011، الذى كان يرمى الى التشكيك فى قيم الدولة المدنية وروح الديمقراطية والحداثة التى يتميز بها المجتمع التونسي. وقد ظهرت فى تونس كتاتيب لتحفيظ القرآن وجمعيات للقراءات والتجويد وأخرى للعلوم الشرعية ورياض أطفال دون أن يكون لها أى إطار قانونى منظم يضبط الهوية الإدارية بشكل دقيق وصارم، أو يراقب البرامج التعليمية التى تقدم للناشئين. ثانيا، غربلة البرامج والمقررات التعليمية، فى كل مراحلها، من آراء التطرف والغلو وفتاوى التكفير وفقه الكراهية والتحريض على القتل، وتضمين المقررات المدرسية قيم التسامح والتنوع وقبول الآخر، وإعطاء الأولوية للنصوص الإسلامية ذات المضمون التسامحى والتعددى والوسطي، وإعداد دورات تدريبية للمدرسين حول الكيفيات التربوية الممكنة فى مواجهة التطرف داخل المدرسة. ثالثا، بناء خطاب دينى يكون أكثر اعتدالا وتسامحا وقبولا للآخر. ومن الأهمية بمكان أن يكون المشرفون على هذا الخطاب مؤهلين نفسيا وعلميا ودينيا وتربويا للانخراط فى عملية البناء هذه، ما يعنى الحاجة الى تكوين الأئمة والمرشدين والوعاظ وكل القائمين على العملية التربوية فى المؤسسات التعليمة الدينية، تكوينا شاملا يجعلهم مؤهلين لنشر إسلام معتدل مبنى على خطاب دينى منفتح على الثقافة الإنسانية ومكتسباتها الحضارية ومتشبع بقيم حقوق الانسان. والملاحظ فى كثير من الدول العربية والإسلامية، ان بعض القائمين على المشهد الدينى من أئمة ومشايخ ودعاة وأساتذة دين يعانون نقصا كبيرا فى إعدادهم العلمي، وفى إمكاناتهم الثقافية والتربوية، وغالبا ما تكون لديهم رؤى ضيقة ترفض التجديد او الاحتكام للعقل، ما يجعلهم يقعون فريسة الجمود الفكري، والانغلاق فى دوائر التعصب والتشدد الذى يتعارض مع قيم التسامح والوسطية. وللأسف، فهؤلاء الائمة والمشايخ يسهمون، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، فى نشر فتاوى التكفير والتحريض على الكراهية والقتل، وهم من يشكل الخطر الاكبر على تشكيل الوعى الدينى لعدد كبير من الشباب الذين يتأثرون بخطابهم المتطرف وبتفسيرهم المتشدد للنص المقدس. ففى دولة، مثل تونس، أيضا، بكل ما عاشته من موجة تطرف وتصدير للمقاتلين الاجانب الى سوريا وليبيا والعراق، تشير بعض الأرقام الرسمية إلى أن عدد أئمة الجمعة فى كامل الجمهورية، يبلغ 4500 إمام، ليس منهم سوى 6٪ ممن تحصل على شهادة جامعية فى العلوم الشرعية، و4٪ منهم فقط متمكنون من فن الخطابة. أما المستوى العمرى للأئمّة الخطباء ف 62٪ منهم من فئة الستين سنة فما أكثر. هذا فضلا عن طبيعة المنهج الذى يستند إليه الإمام فى خطبته لتفهيم النص القرآنى والنبوى وبأى معنى هو نص مرجعى مؤسس وآثار ذلك ضمن جملة من المسائل الحارقة المستجدة، كالجهاد والقتال والإيمان والكفر والإعلاء من مركزيّة الدولة إزاء مشاغل الأفراد وطاقات المجتمع وحاجاته. فى حالة مثل هذه، ويمكن تعميمها أيضا على العديد من الدول العربية والاسلامية، فإن قضية تكوين وتأهيل الائمة والوعاظ والمرشدين تفرض نفسها بقوة الحاجة، وأهميتها فى مواجهة الخطابات المتطرفة، فعندما تجد إماما خطيبا يقول: أنا فى حيرة، أقرأ القرآن فأجد فيه تأكيدا على السّلم والتّراحم وأجد فيه ضربَ الرِّقاب فلا أدرى كيف أُقنع المصلِّين بما لم أتمكّن من فهمه!، فهذا يعنى ضرورة إعداد جيل من الدعاة والأئمة والمرشدين والمرشدات، وتكوينهم تكوينا علميا ودينيا معتدلا، حتى يتمكنوا هم، اولا، من فهم نص الخطاب المقدس وتفسيراته المعتدلة بعيدا عن الغلو او التأويل الخاطئ، قبل ان يطالبوا بإفهام العامة او نصحهم وإرشادهم. ويكون دور هؤلاء الأئمة والمرشدين، داخل المجتمعات، القطع مع كل التفسيرات المتعصبة والمتشددة للنص الديني، ونشر إسلام معتدل ووسطي، قادر على تحقيق الأمن الروحى والفكرى لكل المواطنين والمواطنات. لمزيد من مقالات وفاء صندى