سؤال لم يخطر على البال ولم نفكر فيه مطلقا، طرحه الصديق اللامع محمد على خير على صفحته بالفيسبوك: ماذا لو تنحى عبد الناصر فى 9 يونيو وترك الحكم؟، كيف تكون حال مصر؟ فعلا قد يكون سؤالا لا محل له من الإعراب بعد 52 سنة، وليست أى 52 سنة، فهى بالقطع سنوات تمضى بسرعة الضوء، انقلبت فيها الدنيا نظما وصراعات وتكنولوجيا ونمط حياة وحروبا وأفكارا وتطورا علميا واقتصاديا بصورة لم تحدث عبر التاريخ كله، وبات أى سؤال من عينة لو لا يفتح بابا للشيطان فحسب كما تقول الأمثال، وإنما ينحرف أيضا وبالإكراه إلى كهف الخرافات المستحيلة مثل الغول والعنقاء والخل الوفي. لكن فى عالمنا الشرقى الخاص، أى العالم الذى يدمن أهله الثبات على أوضاعهم القديمة وأفكارهم القديمة وتقاليدهم القديمة، والثبات غير الاستقرار، الثبات حركة راكب على ظهر حمار يتهادى على طريق ترابى بجوار ترعة، الاستقرار حركة راكب فى مقعد طائرة تحلق بسرعة ألف كيلو متر فى الساعة، هنا يبدو السؤال منطقيا لأن حساباتنا مع الماضى لم تنته ولا نسمح لها بذلك، والحساب مع الماضى غير التعلم من الماضي، الحساب تعايش وإحياء وثأر، التعلم خبرة وعبرة وتجاوز. ولأن عبد الناصر نفسه لم يمت، مع أنه دفن رسميا فى سبتمبر 1970، فالسؤال تلزمه إجابه، والإجابات الأقرب إلى الصحة لها طريق وحيد هو التفكير العلمى المنظم ، إذ لا توجد إجابة حاسمة فى أى لو، وبداهة علينا أن نبتعد عن لطم الخدود وشق الجيوب والولولة على هزيمة 1967 كما يفعل ما يمكن أن نسميهم ندابى يونيو، وما أكثرهم فى الإعلام العربي. وبالطبع لا ننكر ثقل تلك الهزيمة ولا تأثيراتها الخطيرة على حياة المجتمعات العربية، أجيالا ونظما وسياسات، لكننا بالقطع تجاوزناها إلى حد كبير، وصارت مجرد جرح حتى لو كان عميقا، مثل عشرات الجراح التى حدثت عبر هزائم وانكسارات وغزاة، لكن الحياة لم تتوقف أبدا، والأمم العظيمة تستعيد إراداتها بقوة ولا تلعق جراحها طول الوقت، ولا توجد أمة انتصرت فى كل معاركها ولم يصبها الخسران مرة ومرات، فلماذا هذا الولع بهزيمة يونيو؟! نعود إلى السؤال، والعودة سببها الدفاع عن عبقرية الشعب المصري، هؤلاء البسطاء الذين يحملون مصير هذا الوطن على أكتافهم بحب وصبر ودأب فى لحظات اليأس المرة، والذين أهانهم (ندابو يونيو) بأنهم خرجوا من أجل عيون الزعيم المهزوم ، بدلا من أن يخرجوا عليه ليحاكموه ويعلقوا له المشانق. حين نرجع إلى تلك الأيام ونتحدث عن موازين القوة فى الدولة المصرية..ماذا نجد؟ قبل هزيمة يونيو، كانت مصر تعانى صراعا على السلطة بين قوتين هائلتين: جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية وراءه شعبه، والمشير عبدالحكيم عامر النائب الأول والقائد العام للقوات المسلحة ووراءه شمس بدران وزير الحربية وصلاح نصر رئيس جهاز المخابرات..معادلة فى غاية القسوة والخطورة، جعلت عبد الناصر يتحرك على حوافها بمنتهى الحذر..خاصة عقب شبه التمرد الذى وقع فى عام 1962.. كان عبد الناصر قد قرر تقليص سلطات المشير عبدالحكيم عامر بعد الانفصال السورى فى سبتمبر من ذلك العام، خاصة أن المشير يتحمل بعض أسبابه المباشرة، واقترح تشكيل مجلس رئاسة، يصبح فيه عبدالحكيم عامر عضوا مثله مثل عبد اللطيف البغدادى ونور الدين طراف وليس نائبا أول لرئيس الجمهورية، المنصب الذى بالتبعية يضعه على رأس الجيش، وفهم عامر أن المقصود من المجلس الجديد تصفية نفوذه، فثار وقدم استقالة مسببة، وسافر إلى قريته أسطال بمحافظة المنيا، ومنها إلى مرسى مطروح. وقبل أن تصل الاستقالة إلى عبد الناصر تسرب أمرها إلى قادة الأفرع الرئيسية للجيش، فاجتمعوا وتضامنوا مع المشير وذهبوا إليه فى مطروح، واحتشد عدد آخر من كبار الضباط فى مبنى القيادة العامة، وأحس عبد الناصر بخطورة الموقف، الذى أحاطه الضباب بغياب عامر وضباطه، فاتصل بالعقيد شمس بدران مدير مكتب المشير وسأله: أين حكيم؟ فتمنع شمس بدران عن الإجابة برهة، ثم نفى علمه بمكانه ووعد عبد الناصر بالبحث عنه، وكان يقصد بإنكاره أن يضغط على أعصاب عبد الناصر ويزيد من توتره.. بعد فترة اتصل شمس بدران بعبد الناصر وقال له: كلهم موجودون فى مرسى مطروح. وأدرك عبد الناصر أنه خسر معركته مع المشير، ولا سبيل أمامه سوى التراجع عن مجلس الرئاسة. وطلب عبد الناصر من شمس بدران أن يلح على حكيم بأن يعود على وجه السرعة ويلتقى به، وعاد حكيم إلى منزل عبدالناصر ومعه عدد من كبار الضباط، وجرى بينهما حوار عاصف، هدد فيه حكيم عبدالناصر وألا يقترب منه. وحين وقعت هزيمة يونيو جلست القاهرة على بركان من الغضب والمرارة..وبدا عبدالحكيم عامر مقتنعا بأن يتخلى عن كل مناصبه ويعود إلى بلدته، لكن ندماءه والمحيطين به اقنعوه بأن الانسحاب من الحياة العامة الآن بمثابة اعتراف غير مكتوب بتحمله مسئولية الانكسار السريع والهزيمة المهينة، ولم يفعل وقد أعلن عبدالناصر مسئوليته عنها، وبالقطع عبدالناصر مسئول عنها، فتراجع عامر عن قراره وتشبث بمنصب القائد العام، ورتب اتصالات برجاله المخلصين للتصدى لأى قرارات تقترب منهم..ولاح انقسام الجيش فى الأفق، فى أقصى ظروف عاشتها مصر خلال قرون. والسؤال: لو غاب عبدالناصر عن المشهد المرتبك فى وقت الهزيمة.ماذا كان يحدث؟ صراع شرس يمكن أن يفت فى عضد الدولة المصرية، ويفقدها كل أسباب الإرادة. هنا تأتى العبقرية الفطرية للشعب المصري، فيتدخل بسرعة فائقة ولا يقف حائلا فقط بين الطرفين، بل ينحاز إلى الرئيس، لم يصطف خلف زعيم مهزوم يبكى ويمرغ نفسه فى التراب، وإنما مد يده ينتشله من القاع، ليفرد طوله ويصلب عوده، ويُبلغ أعداءه، بأنه سيقاتل، ليبدأ هذا الزعيم إعادة البناء فورا. ولا يعرف التاريخ أمة هزمت هزيمة بهذا القدر، ثم عادت للحرب منتصرة بعد ست سنوات فقط، وكانت نقطة البدء فى 9 يونيو. لمزيد من مقالات نبيل عمر