السيد رشاد العديد من الأسرار الساخنة، وخفايا المشهد السياسى فى واحدة من أهم الحقب المصرية، هى الحقبة الناصرية، بشخصياتها ورموزها ونجاحاتها وأخطائها، يكشفها شمس بدران، وزير الحربية فى عهد عبدالناصر، وأحد أبرز أركان نظامه السياسي، حيث يحكى فيها تفاصيل دقيقة، ومواقف عصيبة، كان بدران طرفاً فيها، ومعظمها مواقف خطيرة ومفصلية فى علاقته برأس النظام جمال عبدالناصر وبالمشير عامر والسادات، أو كان شاهد عيان عليها، وعلى الرغم من الطبيعة الحذرة والشخصية الغامضة التى اتسم بها شمس بدران، فإنه من خلال سطور هذا الكتاب "مذكرات شمس بدران" للكاتب الصحفى حمدى الحسينى باح بالكثير من الأدوار الخطيرة التى لعبها فى تلك الفترة. لعل أهمية هذه المذكرات تقبع، كما يقول كاتبها حمدى الحسيني، من كونها تخص أكثر رجال عبدالناصر جسارة وحباً للمغامرة واستعداداً للتضحية، ربما لهذا السبب قربه عبدالناصر واختاره مديراً لمكتبه عندما كان رئيساً للوزراء فى فترة حكم الرئيس محمد نجيب، أيضاً لكونها لمسئول كبير هو وزير حربية ارتبط اسمه بالحقبة الناصرية، وكان عين ناصر فى القوات المسلحة التى ترصد ما يجرى داخلها، حيث أطلق عليها بحق "صائد الانقلابات" لأنه نجح بالفعل فى إحباط أكثر من محاولة فى مهدها. عبدالناصر لم يكتف بذلك بل اختاره لخلافته فى منصب رئيس الجمهورية عندما قرر التنحى عقب هزيمة يونيو 1967، كما كان أقرب مستشاريه فكلفه بمهام إستراتيجية وأمنية وسياسية خطيرة فى لحظات حاسمة من تاريخ مصر، منها زيارته الشهيرة إلى روسيا قبل أيام من العدوان الإسرائيلى على مصر عام 1967. مؤامرة فى صيف عام 1965، وبالتحديد فى منتصف شهر يوليو، استدعى الرئيس جمال عبدالناصر، عبر مكالمة هاتفية، شمس بدران على وجه السرعة، وفى لقائهما طلب منه الرئيس تحمل مسئولية رئاسة جهاز البحث الجنائى العسكري، الذى تم إنشاؤه خصيصاً للتحقيق فى مؤامرة اغتيال عبدالناصر التى خططت ودبرت لها خلية سرية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، إلى جانب تنظيم مسلح آخر كان غاية فى التعقيد أشرف عليه الداعية الإخوانى الشهير "سيد قطب". يقول بدران فى مذكراته: المصادفة وحدها كشفت المخطط الإخوانى الذى لو لم يتم إحباطه، لكانت مصر كلها مرشحة للسقوط فى دوامة العنف والفوضي، بخاصة أن التنظيم كان قد نجح فى تجنيد إسماعيل الفيومي، وهو رقيب بالحرس الجمهوري، حيث كان مدرباً على عملية الاغتيال، ووافق على القيام بمهمة تصفية عبدالناصر، إلا أنه قد خانته شجاعته فى اللحظات الأخيرة، وفى يوليو 1965، تلقت التحريات العسكرية بالإسكندرية بلاغاً من سائق لورى يدعى الشيشينى يكشف مؤامرة اغتيال عبدالناصر، تبين صدق البلاغ، وتم ضبط صناديق القنابل والسلاح وطلب عبدالناصر مقابلة السائق المبلغ الشيشيني، وشكره وأمر بتعيينه فى هيئة قناة السويس، كما أهداه سيارة لورى من إنتاج شركة النصر الشهيرة..أما خلية سيد قطب، فقد جند لها عشرات الشباب من المهندسين والأطباء والعمال، وغيرهم من الفئات الإخوانية على مستوى عشر محافظات، وضعوا مخططاً لتفجير عشرات المنشآت والكبارى والهيئات واغتيال عدد من الشخصيات السياسية فى مقدمتهم جمال عبدالناصر، ثم بعدها تستولى على الحكم، وتعلن تطبيق الشريعة الإسلامية. ويواصل شمس بدران قائلاً: كنت فى ذلك الوقت أعمل نائباً لرئيس جهاز الأمن القومي، وكان عبدالناصر لا يثق فى الأجهزة المدنية من شرطة إلى نيابة، ويتشكك فى طريقة عملها، هنا قفزت إلى ذهن عبدالناصر فكرة أن يتم إنشاء وحدة تحقيق جنائية تابعة للشرطة العسكرية تحت رئاستى للقيام بالتحقيق فى القضية، نظراً لخطورتها على الأمن القومى المصري. وبالفعل استطعنا التوصل إلى العنصر النشط فى الخلية، وكان مهندساً زراعياً بمنطقة إمبابة، ومن خلال مراقبته، علمنا أنهم يجتمعون كل يوم جمعة بمنزله بعد صلاة العشاء، وبالفعل دخلت الفرقة المكلفة بعملية القبض على المجتمعين من باب خلفى للمنزل، بعد التنسيق مع الجهات الأخرى لقطع الكهرباء عن الحى الموجود به المنزل، وفى هدوء كامل ألقينا القبض على كل المشاركين فى الاجتماع والذين كانوا مقدمة الخيط للإيقاع بباقى أطراف المؤامرة، ومن خلال اعترافات المجموعة التى تم القبض عليها تبين أن الخلية الصغيرة ليست سوى رأس مخطط لجيش كبير من التابعين منتشرين فى الدقهلية والشرقية، وأن هناك تقسيم أدوار بين أصحاب الفكر والمخططين ثم المنفذين، والأخطر تبين أن صاحب الفكرة الرئيسية هو سيد قطب الذى سبق اتهامه فى حادث المنشية بالإسكندرية التى استهدفت اغتيال جمال عبدالناصر عام 1954، ثم أفرج عنه عبدالناصر نفسه لأسباب صحية. وبالفعل تم القبض على أطراف المؤامرة وإيداعهم السجن الحربي، ولأن سيد قطب كن يعانى أمراضاً خطيرة، لذلك حرصت على أن يتم التحقيق معه من خلالى شخصياً، وكنت أتعامل مع هذا الرجل بكل احترام وتقدير، ولم يحدث له أى تعذيب أو إكراه أو حتى مجرد تخويف من جانبى أو من ناحية فريق المحققين، بل إن جلسات التحقيق كان تتوقف حسب مواعيد تعاطيه الدواء أو ظروفه الصحية. وبعد نقاش طويل مع سيد قطب اعترف بكل شيء بدون أية ضغوط، وطلب أن يكتب بنفسه القصة الكاملة للقضية من وجهة نظره، ملتمساً فى نهايتها العفو من رئيس الجمهورية، ووفقاً للمستندات فإن إجمالى عدد المتهمين وصل إلى 5 آلاف متهم، أما الذين ثبتت مشاركتهم فى التخطيط والتنفيذ وإخفاء الأسلحة فلم يزد عددهم على 500 متهم، وبعد الانتهاء من التحقيقات تم الإفراج عن جميع المتهمين باستثناء المتورطين، وفى هذا السياق لا أنكر أننا اضطررنا إلى استخدام القسوة مع بعض المتهمين، حتى ننتزع منهم الاعترافات بأدوارهم فى المؤامرة، وخصوصاً أن أغلبهم كانوا من المتشددين، بل إننى عندما سألت أحدهم إن تدمير السدود سوف يغرق مصر وشعبها بمن فيهم أقاربك، قال لي: إن من لا يؤمن بتطبيق شرع الله، فإن الموت يجب أن يكون من نصيبه، وبرغم ثقتى بتورط سيد قطب ودوره المحورى فى المؤامرة فإننى رفضت طلب عبدالناصر بإعدامه نظراً لظروفه الصحية ومكانته الدينية، والحقيقة أن هذا لم يكن رأيى وحدي، بل شاركنى فيه زوجة الرئيس عبدالناصر وعدد من المقربين منه، وكذلك عدد كبير من زعماء العالمين العربى والإسلامي، حيث تلقى عبدالناصر اتصالات ونداءات من أغلب القادة العرب والمسلمين، طالبوا خلالها بإبعاده عن مصر، أو تخفيف حكم الإعدام، لكن جمال عبدالناصر ضرب بكل هذه النداءات عرض الحائط، وتمسك بقرار إعدامه، والسبب فى ذلك يرجع إلى أن الرئيس سبق أن أفرج عنه فى قضية المنشية بالإسكندرية، مما اعتبره قد استنفد ما لديه من رصيد التسامح والعفو، وخصوصاً أن المؤامرة كانت تستهدف حياته، وأمن مصر كلها. انحياز للمشير وفى اعتراف جارح يعلن شمس بدران انحيازه إلى المشير عبدالحكيم عامر فى معركته الأخيرة مع جمال عبدالناصر، وفى هذا يقول شمس بدران: انحيازى للمشير عامر يرجع إلى شعورى العميق بمدى الظلم الذى تعرض له الرجل، ففى أعقاب هزيمة يونيو 1967، عاد المشير عبدالحكيم عامر من مطار شرق القاهرة مباشرة إلى مقر القيادة مذهولاً ومصاباً بالانكسار من هول الصدمة، مما دفعه للتفكير فى الانتحار فعلاً، فى المقابل اختار عبدالناصر البقاء فى منزله إلى أن اتصلت به وطلبت منه الحضور لإنقاذ المشير من الإقدام على الانتحار هنا يواصل شمس بدران تكشفت لى جوانب جديدة من شخصية عبدالناصر كان أبرزها الخوف فقد كان يخشى من انتقام المشير وبعض القادة العسكريين الذين اعترضوا على فكرة تلقى الضربة الأولى من العدو، عرفت ذلك من خلال تغير نبرات صوته عندما أشعرته بالأمان، وأبلغته بأن سيارة ومدرعة سوف تصحبانه من منزله فى منشية البكرى حتى مقر القيادة، بعدها طلب الحديث مع المشير، وسمعتهما يبكيان، ويقول المشير: اطمئن يا جمال سوف أعيد لك أولادك كلهم، فى ذلك اليوم المشهود اتفق الاثنان على سحب القوات. الحقيقة التى لا يعرفها أغب الناس أن المشير بالفعل كان ينوى اعتزال العمل السياسى تماماً والابتعاد عن كل شيء، لكن المشكلة أنه اتفق مع عبدالناصر على شكل معين لخروجهما، لكن عبدالناصر أخل بالاتفاق بدون الرجوع إليه، أو إبلاغه بالأسباب، خصوصاً أن إعلان تنحيه وحده، وتراجعه أعطى إشارة ضمنية للجيش والرأى العام فى مصر بأن المشير هو سبب الهزيمة، كما تعمق لديه الإحساس بأن عبدالناصر اتخذ منه كبش فداء أمام المجتمع وخرج هو منها بلا مسئولية. أما أنا يضيف شمس بدران فلم أكن سعيداً بفكرة اختيارى رئيساً لمصر فى تلك الظروف، وبهذه الطريقة، وأبلغت المشير والرئيس برغبتى فى الاستقالة والابتعاد عن أى عمل سياسى أو رسمي، لكن بعد ذلك اكتشفت أن عبدالناصر كان يرغب فى استمالتى بأية وسيلة، لأنه كان يدرك أننى قادر على الإطاحة به فوراً وبمنتهى السهولة، وربما يكون أكبرخطأ وقعت فيه وأعترف الآن به هو أنه كان ينبغى على يوم 6 يونيو إلقاء القبض على عبدالناصر، وتقديمه للمحاكمة على جريمة توريطه لمصر وجيشها فى حرب عبثية كان يمكن تجنبها، لو كانت لدينا قيادة سياسية أكثر حكمة من عبدالناصر. ألغاز ويشير شمس بدران، إلى أنه لا أحد عليك فك ألغاز شخصية عبدالناصر بمن فى ذلك عبدالحكيم عامر أقرب إنسان إلى قلبه وعقله، ربما يكون السادات هو الوحيد الذى نجح فى هذه المهمة بشكل منقطع النظير، لذلك كسب ثقته من خلال إستراتيجية محددة لاحتوائه والإيماء له بأنه ينوى اعتزال السياسة والانتقال للعيش بصفة دائمة فى قريته ميت أبوالكوم بالمنوفية، وبهذا يكون الوحيد فى مجلس قيادة الثورة الذى أفلت بأعجوبة من التصفية أو التشويه، وأن عبدالناصر تحول من ثورى تقى إلى ديكتاتور، فقد حمل المسئولية العسكرية للمشير عبدالحكيم عامر، عن هزيمة 67، وقام بتصفيته بطريقة تتعارض مع أبسط قواعد الأخلاق والإنسانية، والشق السياسى للهزيمة حمله إلى صلاح نصر فيما أطلقوا عليه انحرافات جهاز المخابرات، بينما خرج هو من الهزيمة دون مسئولية برغم أن الحقيقة أن عبدالناصر كان صاحب قرار دخول الحرب، ولا أعرف من أقنعه بأنه يمكن أن يلوح بالحرب فتوجه إسرائيل ضربة عسكرية لمصر، يستطيع الجيش المصرى تحملها، ثم يقلب عبدالناصر العالم سياسياً ضدهم، ويخرج من المعركة منتصراً، تلك الفكرة سيطرت على عقله ووجدانه طوال الأيام التى سبقت العدوان، لقد أبلغنى عبدالناصر شخصياً أنه لا يرغب فى دخول حرب حقيقية ضد إسرائيل، فقط نريد "التهويش" وكانت الكارثة. وفى سطوره يصف شمس بدران الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، بأنه ارتبط بعلاقات واسعة مع العديد من قادة الجيش المصرى وخصوصاً اللواء محمد نجيب، كما حرص على التواصل مع الضباط الأصغر رتبة خصوصاً عبدالناصر حتى إن لقب "الأسطورة" الذى أطلق على عبدالناصر عقب معركة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، نحته وأطلقه هيكل ليصبح لقب عبدالناصر الجديد، ومنذ هذه المحطة تعمقت علاقة هيكل بعبدالناصر الذى تحول إلى شريك رئيسى فى صنع القرار السياسى المصرى طوال فترة حكم عبدالناصر..وفى الأخير يمكن الإشارة إلى بعض الأسرار شديدة السخونة التى كشفها شمس بدران فى مذكراته، ومنها الحياة الجنسية للرئيس عبدالناصر الذى كان يعانى من تأثيرات مرض السكر عليها مثل أى مريض ذكر، وكان فى سنواته الأخيرة يستعين بشرائط بها مشاهد جنسية لعدد من الفنانات الشهيرات مثل سعاد حسني، كان يزوده بها صلاح نصر، رئيس جهاز المخابرات. أما المثير للدهشة ، كما يروى صاحب المذكرات، فهو أن عبدالناصر وليس السادات هو من كان معجباً بالمذيعة همت مصطفى وكان يطلبها بالاسم لتغطية زياراته برغم صغر سنها، لكن يعود شمس بدران ويؤكد للزميل الكاتب حمدى الحسينى فى مذكراته أنه لا يقصد الإساءة إلى شخص عبدالناصر ولا غيره، وأنه يشهد لعبدالناصر بأنه كان أكثر الناس التزاماً من الناحية الأخلاقية، وكان حريصاً على المال العام ولا يتهاون مع الفاسدين، ولم تمتد يده إلى أموال الدولة، بل كان يتقاضى راتبه المحدد إلى جانب مخصصات الرئاسة، والمصاريف السرية، وأنه فقط يدلى بشهادته للتاريخ.