من عاش عمره على الرصيف وبكامل إرادته، وأحب جلسته وصحبته، وتعاطف مع خلق الله، وتعاطفوا معه، وهذا ما لا يعلمه أحد إلا الله، يشعر بالفارق بين الحاضر والأمس. ومن اختار حياته رحلة فى بلاد الله، يقارن بين أرصفة البلاد ورصيف وطنه، يشعر حقا بالفارق بين الحاضر والأمس القريب، وكأنها وجه امرأة يعرضها خبير تجميل بصورتها قبل وبعد التدخل الجراحى. وهذا ما يحدث الآن على رصيف الواقع. كنت أقرأ بحسرة تصريحات حكومات ورجال دولة على مدى أكثر من ثلاثين عاما، واهبط على الرصيف مع الناس الطيبة، الذين استوطنوا المكان بعد أن لفظتهم الحياة والظروف خارج الجدران، أبحث عن أى أثر لإمكانية حدوث معجزة تحقق عناوين الصحف على أرض الواقع، فلا أجد، إلا كلمات كانت مثل الدخان فى الهواء، يزيد من تلوث البيئة، بل ويشارك فى عملية الاحتراق. كانت الناس الطيبة على الرصيف تحاول وتنجح فى التأقلم مع الحياة داخل أكوام القمامة ولا أنسى الست أنيسة عند سور مجرى العيون قبل إزالة «زبالته»، بناء على توصية اليونسكو، فما كان من المسئول أيامها إلا أن قام بحرق القمامة بالكيروسين... بالناس بكله كانت الست أنيسة قد ولدت داخل القمامة المتحجرة فى سور مجرى العيون قبل حرقه ترعرعت و»اتجهزت» لتصبح عروسا، وكان جهازها طقم صينى فاخرا لتنتقل من كوم القمامة فى بيت أبوها إلى كوم قمامة الجيران عند العريس، لم يفكر أحد فى ملجأ لهؤلاء قبل أن يحرق مساكنهم من القمامة، واتونس الرصيف بأمثالهم، ومرت السنين حتى جاء الفرج كطوق نجاة إلهى، وليحمل من يحمل من فوق أرصفة القمامة إلى بيوت الأسمرات وغيرها، بعد أن تحققت الكلمة التى تقال فى التصريحات وصدقتها، وكيف وأهل الرصيف سكنوا وأصبح هو بالنسبة لهم ذكرى. وجلست بالأمس مع الناس الطيبة على أحد الأرصفة فى وجبة سحور فاخرة من الفول بالزيت الحار، ورأيت الرجل ينظر حالما من مكانه إلى مقلب قمامة عتيق يجذبه بعيدا عن أحلامه التى يراها تتنفس دون روائح قمامة الحارة و«خليط البصل وقشره» على الثوم وعيشته مع «قشر الطماطم وسنينه»، وعندما سألته إلى أين وصل فى أحلامه؟ قال: أحلم بالخلاص من هذا الجبل وباليوم الذى أصحو صباحه دون رؤيته!. وقبل ممارسة فن التنظير الذى لا أتقنه، ولماذا لم يشارك شباب المنطقة فى التخلص منه، ولأننى أعرف الإجابة مقدما، فوجئت به يقول: الحكومة حتنجز لأن الريس قال.. خَلَّص. لم أصدق أن جالس الرصيف، الذى لا يصدق صدق، وأنه لخص تصريحات السيسى لتنفيذ المنظومة الجديدة لإدارة المخلفات الصلبة وتحديدا فى الأماكن الأكثر ازدحاما بالسكان، وأن الأمل تحول إلى يقين لدى الجالسين على الرصيف وأنا منهم. لمزيد من مقالات دينا ريان