p style=\"text-align: justify;\"توقف القطار أخيرا في محطة مدينتي .. هذه ثالث مرة أعود فيها إلي بلدتي خلال شهر واحد لكنني أحسست أن المسافة بين القاهرة وبين مدينتي الواقعة في محافظة سوهاج قد طالت فجأة أكثر من المرات السابقة كلها .. أكان هذا تخيلا أم هلوسة بسبب شدة النعاس الذي داهمني طوال الطريق .. كنت أشعر بأن رأسي معلقة في الفضاء بدون شيء يمسكها وتسقط عيناي مغلقتان وأذهب في نوم عميق لمدة خمس أو ست دقائق حتى يلكزني صديقي الجالس بجواري : \" فوق يا عم .. أنت كده مش هتعرف تروح بيتكم ! \" صديقي وزميلي \" هشام \" كان قادما معي علي نفس القطار لكنه سينزل في مرحلة تالية لي لأنه من مدينة أبو تشت : الواحد نعسان علي الآخر والله يا أبو الهشاشيم ! ضحك وقال لي وهو يوقف بائع حمص وترمس ولب ويبتاع لنا قليلا منه للمرة الثانية : \" خد قزقز وأتسلى يمكن تفوق حبتين ! \" ويبدو أن حظي سيئا فلم أكد أضع أول حبة ترمس في فمي حتى وجدت أن القطار توقف : \" هو إحنا عدينا جرجا ؟! \" رد علي وهو يقزقز الترمس بنهم : \" من بدري يا عم الحاج ! \" \" يا لهوي ! \" قمت واقفا وأنا أسحب حقيبتي من فوق رأسي وهرولت ناحية أحد أبواب القطار المفتوحة .. وبسبب النعاس والصداع وقلة الضوء لم أستطع أن أميز المحطة في البداية .. صادفت رجلا بدينا يحمل حقيبة وسبت في يديه يهم بركوب القطار فسألته فورا : \" مش دي محطة .. \" ذكرت له اسم مدينتي فقال وهو يتجاوزني ويدخل إلي العربة : \" أيوه يا ولدي .. هي ! \" سارعت بالنزول قبل أن يتحرك القطار ثانية ثم جريت علي الرصيف حتى وصلت إلي النافذة التي يجلس \" هشام \" بجوارها ووجدته يمد رقبته مستطلعا في كل مكان باحثا عني كما يبدو : أنت وصلت حمدا لله علي السلامة ! أيوه يا عم الحاج .. المحطة كانت هتفوتني من تحت راسك ! ضحك وقال لي وهو يناولني كيس الترمس الذي نسيته معه : وأيه يعني ! كنت كمل معايا علي أبو تشت وإحنا كنا نضيفك هناك ونقريك أحسن من ناسك يا واكلهم ! \" \" يا عم روح.. أنتوا لاقيين تاكلوا ! أجبت عليه وأنا أبتعد ملوحا له بيدي مبتسما وأنا أسمعه يضحك من خلفي ! ... كانت المسافة بين المحطة وبين بيتنا الواقع في طرف المدينة الآخر طويلة جدا يبلغ طولها ثلاثة كيلومترات أو ربما أكثر .. غادرت مبني محطة القطارات نفسها ثم انحرفت يمينا لأمر من شارع صغير يسيطر عليه الظلام في تلك الساعة المبكرة جدا من الصباح عدا بعض أعمدة الإنارة القليلة التي تعمل وتنير المنطقة حولها بشكل ما ومحل ( سوبر ماركت ) هو الوحيد الذي وجدته مفتوحا في طول هذا الشارع وعرضه .. ذهبت إليه وشربت زجاجة كوكاكولا علي الواقف لأنني كنت عطشان جدا بسبب الترمس واللب .. نقدته ثمن المشروب ثم دخلت وسط الشوارع الطويلة المتفرعة من شارع المحطة حتى وجدت نفسي إزاء السور المنخفض الذي يحجب الترعة والذي قام معه الأهالي بالواجب تماما .. فهو ملطخ تماما بكل أنواع القاذورات والخدوش والحفر كما أن المتسولين اتخذوا منه ، حتى قبل أن يتم بنائه ، موئلا لهم .. تجدهم هناك فرادي وجماعات جالسون بجواره يتسولون ويمدون أيديهم سائلين وأغلبهم يحضرون معهم أطفالا ، يعلم الله من أين يأتوا به ، ليشحذوا عليهم ، وكان هذا شيئا تحترفه النساء .. لكن غالبا كان كل أولئك يذهبون لمكان ما مساء ونادرا ما تجد أحدهم راقدا نائما في الشارع .. لكنني عندما مررت بجوار سور الترعة في هذه الساعة وجدت جسدا ملتحفا ملاءة سرير مخططة بالأبيض والأزرق ومكوما عنده مطلقا شخيرا عاليا غريبا .. الأغرب أن الجسد يدل علي أنه لامرأة ! لم أري امرأة نائمة في الشارع في مدينتي من قبل أبدا تصور ! مررت بقربها وأنا أخطو برفق وبصوت منخفض جدا لحذائي علي الإسفلت المتشقق ، الذي لم تألوا البلدية جهدا في نبشه كل شهر وإعادة رصفه ، لكنها أحست بمروري فيما يبدو لأنها نهضت وأزاحت الملاءة عن رأسها وحولت وجهها إلي : حاجة لله يا ولدي إن شاء الله يسعدك ! مدت لي يدها فنظرت إلي وجهها للحظة .. وعلي الرغم من الضوء الخافت المنتشر إلا أنني رأيت شعيرات طويلة نابتة بوضوح في ذقنها .. إن لها لحية ! شعرت بالرعب وقبضت يدي التي كانت ممدودة إليها بجنيه فضة : شالله يسعدك ! لم أستطع أن أقرب يدي منها .. ارتعشت فسقط الجنيه مني علي الأرض .. تحولت بعيدا عنها وأخذت أجري وأنا لا أدرك ما أفعل بالضبط .. لكن ما أخافني حقا هو أنني سمعت صوتها في إثري .. سمعتها بوضوح وهي تضحك ! ... عندما وصلت إلي البيت دققت الباب بسرعة ولهفة .. سمعت صوت خطوات تتجه صوب الباب من الداخل ثم صوت الباب يسحب بقوة .. أخيرا ظهر لي وجه أخي مظهر \" علي الباب .. احتضنني وأخذ يقبلني ويسألني عن حالي .. صحا البيت كله علي أصواتنا وأتت أمي ، التي كانت تتوضأ ، لتلثمني وكذلك أخوتي .. سألت عن أبي فقالت لي أمي علي الفور : طلع نقلة يا ولدي ربنا يرجعه بالسلامة ! كان أبي سائقا علي عربة نقل كبيرة يشارك فيها أحد أعمامي وشخص آخر : ربنا معاه يا رب ! دعوت له وأنا لا يزال قلبي يرتجف فرقا .. أحضرت لي أمي إفطارا فولا بالسمن وبصلا وعيش مصري* بايت : معلهش يا ولدي .. أصل لسه الطابونة مخبزوش .. وعيشنا خلص وهخبز النهاردة إن شاء الله ! أصلا أنا لم يكن لي شهية للأكل وكانت مسألة العيش البايت هذه أفضل حجة لي تبرر عدم رغبتي في الإفطار .. تناولت لقمة واحدة إرضاء للجماعة ثم تركتهم وذهبت إلي غرفتي وأنا أرد علي كلام أمي : ولا يهمك يا حاجة .. العيش أهو زي الفل ! أغلقت الباب علي وارتميت في الفراش بكامل ثيابي بعد أن وضعت حقيبتي ، التي أفرغتها أمي من الثياب المحتاجة للغسل ، بجوار السرير .. حاولت النوم لكنني ظللت مستيقظا رغم تعبي حتى التاسعة صباحا وأنا أتقلب في الفراش قلقا متوترا .. فقد كنت أشعر أن هناك شيء سيحدث ! ... سمعت آذان يرطب الأنحاء من حولي ففتحت عيني .. كان الضوء قويا للغاية في الغرفة فأحسست بالنور يقضم شبكية عيني حينما فتحتهما .. كانت الغرفة خالية من حولي وبابها نصف مفتوح .. نهضت متثاقلا وخرجت إلي الصالة .. كانت شقيقتي \" منة الله \" تنزل السلم وفوق رأسها طبق كبير تراصت فوقه أرغفة الخبز الساخنة الطازجة : صباح الخير يا منة ! ردت علي باسمة وهي تطلب مساعدتي لإنزال الطبق الثقيل : قول مساء الخير الضهر بيأدن يا عم .. الله يسهلك إحنا مزروعين فوق السطوح بنخبز ! عاونتها في وضع الطبق علي الكنبة ثم تناولت رغيفا مستديرا كبيرا وقضمته بلهفة وجوع : \" الله ! أدي العيش ولا بلاش .. مش تقوليلي بتاع الطابونة البايت ! \" ذهبت إلي الحمام .. اغتسلت وتوضأت ثم ذهبت إلي غرفتي .. صليت الصبح الذي فاتني وبعده الظهر ثم قررت الخروج من البيت .. ولسبب ما تذكرت فجأة المرأة ذات اللحية التي رأيتها وأنا قادم في الفجر ! قررت أن أذهب لأراها مرة أخري .. لسبب ما أثارني جدا رؤية كائن غريب كهذا يجمع بين صفات الذكر والأنثى في وقت واحد .. امرأة بلحية هذا شيء مثير للخيال فعلا ! تمشيت حتى وصلت إلي الشوارع القريبة من محطة القطار وهناك عند السور وجدت تجمع هائل للناس منهم عدد من رجال الشرطة .. كانت الضجة والأصوات هائلة والارتباك كبيرا لدرجة تمنعك من فهم ما الذي حدث بالضبط .. رأيت عربة إسعاف واقفة وبجوارها أعداد من الناس تحيط بها وملاءة قماشية كبيرة يدفعها بعضهم ويجذبها البعض الأخر .. لم أفهم شيئا مما يحدث ! أخيرا ظهر ضابط تبدو علي نظراته القوة فشخط في المواطنين المحتشدين فتفرق بعضهم بينما قلت الضجة الصادرة عن بعضهم الآخر : في أيه يا ولد عمي ؟! حادثت شابا طويلا سقيما يبدو كطالب جامعي مثلي كان يقف تماما بقرب السور وينظر بلهفة إلي الترعة شبه الجافة خلفه : p style=\"text-align: justify;\"ده عيل أعوذ بالله لقيوه في الترعة ! \" غرقان ؟! \" سألته وأنا أعرف الجواب جيدا فلا يخلو عام واحد في مدينتنا من غريق أو أكثر بسبب الكرة واللعب والعوم في الترعة وفي النيل أحيانا : لا غرقان أيه .. الترعة ناشفة سلامة النظر .. ده مقتول بعيد عنك ! شعرت بالرعب وسألته خائفا : مقتول إزاي يعني ؟! رد علي وهو يشير إشارة قاطعة نحو رقبته : مدبوح بعيد عن السامعين يا رب ! حد دبحه ورماه في الترعة ورا السور ! أصابني الاضطراب وأخذت أغذ الخطي مبتعدا عن مكان التجمع البشري .. ناسيا تماما أمر السيدة ذات اللحية ! ... علي الغداء لم يكن لأسرتي موضوع سوي شيئين اثنين : الأول هو موضوع السوس الذي يملأ دقيق التموين الذي تسلموه هذا الشهر .. والثاني هو موضوع الطفل الذي وجدوه في الترعة .. بدأنا بموضوع الخبز لكن الآخر سرعان ما طغى عليه تماما : \" تلاقيه بس عيل أهله عليهم تار وحد غدر به ودبحه ورماه في الترعة ! \" كان ذلك رأي أختي \" منة \" التي أنهال عليها الجميع تسخيفا وتقريعا : \" بس يا بت يا هبلة أنت ! التار مش بيتاخد من العيال والحريم يا ماما ! \" حازت أمي في الصف بجوار ابنتها لتدافع عنها وأجابت قائلة : والله يا ولدي الدنيا حالها أتقلب ! ما يمكن صح زي ما بتقول أختك .. ده حتى العيال الصغيرة بيخطفوهم ولو ناسهم مدفعوش الفلوس اللي عايزينها بيدبحوهم .. ربنا يعافينا ويطلعنا منها علي خير يا رب ! التقطت أنا طرف الخيط لأنني أحسست أن التبرير المناسب قريب جدا : هو فعلا ممكن عيل مخطوف صح ومدفعوش فديته .. كلام معقول والله ! لكن الكلام المعقول سرعان ما تبين أنه غير معقول حينما توصلوا لمعرفة اسم الغلام القتيل بعد قليل .. كان من نجع من النجوع القريبة ، صغيرا في السابعة ، ابنا لمزارع ثري ولم يكن مخطوفا ولا علي أهله ثأر من أي نوع .. الغريب حقا هو ما الذي أتي به إلي المدينة التي لم يأتي إليها بمفرده من قبل أبدا ؟! ... أشتعل المركز نارا عندنا بعد حادثة الطفل المذبوح .. أما أنا فقد اهتممت بالموضوع يوما واحدا ثم نسيت كل شيء وعدت أتذكر المرأة ذات اللحية .. بحثت علي الإنترنت طويلا حتى عرفت في النهاية ، من بين كل العك المتداخل الذي قرأته هنا وهناك ، أنها لابد تعاني من حالة خنوثة أو شيء من هذا القبيل .. مر اليوم عاديا حتى موعد العشاء .. تعشينا وبعدها عرض علي أخي أن نخرج لنتمشى ونجلس في أي مكان لنشم الهواء ..طبعا كنا ننتوي الذهاب إلي القهوة وهكذا لكننا لم نجرؤ علي قول ذلك أمام أمي .. وبمجرد أن غادرنا البيت حتى قلت لأخي ضاحكا : تعالي هوريك حاجة عمرك ما شوفتها ! سألني وهو يغمز بعينه : هتوريني أيه يا نمس ؟! \" واحدة ست .. طالع لها دقن ! ضحك عاليا ولم يصدق .. لكننا عندما وصلنا لم نجد شيئا غير المتسولين العاديين ، ومعظمهم من النساء ، أما المرأة ذات اللحية فلا أثر لها هناك ! ... في الفجر حدث هذا .. في الثالثة فجرا تقريبا .. سمعت صراخا خافتا يتردد في أذني ! فتحت عيني المثقلتان بالنعاس وتلفت حولي .. كانت غرفتي مظلمة وساكنة تماما .. قلت لنفسي : باينه كابوس يا واد .. أتخمد نام ! وفعلا أغمضت عيني ثانية .. لكنني سرعان ما فتحتهما علي صوت الصرخة القوية يتردد في إذني مرة أخري : ما بدهاش بقي ! أزحت الغطاء عني وخرجت من الغرفة أتحسس طريقي في الظلام خارجا .. لم أجد أحدا في الخارج مطلقا .. اتجهت ناحية باب البيت وفتحته فتحة صغيرة وأخرجت منها وجهي لأطل علي الشارع الأسود الساكن في الخارج .. لا شيء للحظة .. وفجأة صرخة مروعة هائلة تتردد في جو الصباح المبكر الخامد مصحوبة ببكاء .. بكاء طفل متوسل غارق في الدموع ! ارتجفت .. ارتجفت بعنف .. وخطر ببالي .. نعم .. إنه صوت الطفل الذي وجوده ميتا بالأمس .. لابد أنه عفريته خرج يستنجد بالناس ! شعرت ببرودة شديدة وشيء يعتصر صدري بقوة .. أغلقت الباب ودخلت البيت وحسبت الأمر أنتهي ! لكن لا إنه لم ينتهي بعد .. ففي اليومين التاليين صرت أسمع صوت الصرخات المفزوعة عند الفجر .. بل صرت أصحو عليها حتى بدأت أعصابي تتحطم تماما .. وزاد من رعبي أن لا أحد غيري كان يسمعها أو يصدق بوجودها ! لكن وفي صبيحة اليوم الثالث عثروا علي الطفل الثاني مذبوحا في نفس المكان من الترعة الجافة ! ... انقلبت البلد رأسا علي عقب بعد اكتشاف الجريمة الثانية .. تجللت الشوارع بالفزع والرعب وتناثرت الشائعات والتفسيرات من كل اتجاه .. البعض كان يظن أنها عصابة تخطف الأطفال وتقتلهم .. ولكن لأي غرض ؟! كلا الطفلين لم يتم خطفهما ولا طلب فدية عليهما .. ليس علي عائلتيهما ثأر .. ولا تم انتزاع أي من أعضائهما ليقال أنها عصابة للتجارة في الأعضاء .. فلأي غرض قتلا وذبحا إذن ؟! لم يتبقي سوي تفسير واحد صدقته الأغلبية العظمي : ده مارد بسم الله الرحمن الرحيم بيقتل العيال ! أصابني سهم الله حين سمعت هذا الكلام لكنني لم أصدقه.. قبل أن آوي إلي فراشي في الليلة الثالثة كنت قد قررت أمرا وعزمت عليه ! ... في الليلة الثالثة بقيت مستيقظا أدخن خفية في غرفتي .. أغلقت بابي بالمفتاح متظاهرا بأنني نائم ولا أريد أن يزعجني أحد من أولاد أخي الأشقياء العابثين وانغمست في التدخين والعبث علي هاتفي محاولا البقاء مستيقظا حتى الفجر .. ظننت أنني سأنجح في ذلك لكن بعد مرور ساعتين تقريبا بدأت أشعر بالنعاس يداهمني وبألم ورفة في عيني لا أعرف لهما سبب .. انزلقت لأسفل ووضعت رأسي علي الوسادة محاولا البقاء رغم ذلك مستيقظا مستعينا علي ذلك بوضع سماعات الهاتف في أذني وتشغيل أغنية محببة لي بصوت مرتفع .. لكن تلك الحيل كلها لم تنجح وغرقت في نوم عميق والهاتف مفتوح علي مشغل الأغاني بجواري دون أن يوقظني الصوت المرتفع المتدافع في أذني .. لكنني وبتدبير بيولوجي حكيم من ساعتي الطبيعية فتحت عيني تماما في الساعة الثالثة صباحا .. فقط لأسمع الصرخة الهائلة تنبعث من جديد من مكان بدا لي شديد القرب .. والتي كانت أكثر ارتفاعا وإثارة للذعر هذه المرة ! ... هرولت ناحية المشجب التقطت بنطالا وقميصا وأرتديتهما علي عجل .. خرجت علي أطراف أصابعي ومررت عبر الصالة المظلمة فقط لأجد أمي هناك في الركن تتوضأ وبيدها سطل كبير من الماء الساخن : \" كفا الله الشر .. رايح فين يا ولدي دلوقتي ! \" أدرت عقلي الغافي سريعا سريعا حتى عثرت علي الحل السليم : رايح أصلي الفجر في الفجر يا أما ! أيوه بس مش بعادة يعني ! لم تكن أمي تسأل لذلك لم أتوقف للرد عليها .. وسمعتها وأنا أسحب الباب الثقيل وأخرج إلي الشارع تدعوا لي قائلة بخشوع وتضرع : روح ربنا يفتحها في وشك يا ولدي ويهديك ويسعدك يا رب ! بعفوية أطلقت أمي الدعوة ولكنها لم تكن تعرف مدي حاجتي إليها في تلك اللحظة ! ... الشوارع المظلمة .. الشوارع الساكنة .. الشوارع الخاوية التي جعلت المسافة تبدو أقصر كثيرا وأسهل في قطعها من ساعات النهار المتقدمة المزدحمة المليئة بالناس والعربات والحيوانات وكل ما يسير علي اثنين أو يمشي علي أربع .. كانت الشوارع ترقد في دعة منتظرة الضياء وأنا أسرع نحو السور المحيط بالترعة .. ما الذي كنت أفكر فيه وأنا أفعل شيئا جنونيا كهذا ؟! لا تسألني .. فلا علم لي بذلك ! فقط حينما صرت قريبا بما يكفي رأيت الملاءة المخططة ، ملاءة السرير القديمة ، مطوية عند السور وموضوعة علي الأرض .. هرولت نحوها مسرعا محاولا ألا تصدر عن قدمي أية أصوات لافتة للنظر أو مسموعة .. وجدت زجاجة ماء قديمة مفتوحة وحولها ماء مسكوب علي الأرض وقطعة خبز فينو جافة يبدو أنها كانت محشوة بجبن أو طعام أبيض اللون وإيشارب حريمي مضلع باهت صغير .. تلك حاجياتها فأين ذهبت هي ؟! تلفت حولي بقلق .. كانت المنطقة بأكملها خالية تماما .. فجأة سمعت صوتا من مكان قريب .. صوت شيء يغرغر .. يغرغر مختنقا فأسرعت أدور حول السور حتى وصلت إلي المنطقة التي ينتهي عندها وتبدأ أكوام القمامة العظيمة التي أعتاد المارين علي قضاء حاجاتهم فوقها كثيرا .. تلفت حولي جيدا حتى وجدت ما يشبه رأسا منحنيا .. اعتقدت أنها تقضي حاجتها وأصابني الخجل من نفسي لكنني عندما ألتفت جانبا وجدتها بنفسها جالسة بقربي ! شعرت بالذعر الشديد خاصة وأنا قد تصورت أنها تحت .. فكيف جاءت من خلفي دون أن أشعر بها ! جلست علي الأرض وأمسكت الملاءة وألتفت بها ثم نظرت إلي طويلا .. تخيلت أنها ستمد يدها إلي طالبة صدقة فعبثت في جيبي حتى وجدت نقودا معدنية وأخرجت بعضا منها في قبضة يدي : روح يا ولدي .. الله يسهلك ! فجأة سمعت صرخة هائلة .. صرخة من مكان قريب جدا .. من خلف السور تماما ! تحركت بسرعة لكنها مدت يدها تقبض علي ساقي أسرع : روح يا ولدي .. خليك في حالك ! أزحت يدها بقوة لكنها تشبثت بي بقوة أكبر كانت يدها فائقة القسوة والصلابة : أمشي يا ولدي من هنا ! حاولت مدافعتها لكنها كانت أقوي مني .. أقوي مني بمراحل : في أيه .. اللي بيحصل هنا ؟! ملكش دعوة يا ولد الناس .. أمك عايزاك يا ولدي ! أبعدي عني ! دفعتها فجأة فلم تجد فرصة لتقاومني .. قفزت قفزا حتى وصلت إلي أكوام القمامة في الخلفية .. هناك رأيت رأسا صغير مرتاحا علي كوم قمامة متصلا بجسد صغير ممدد بلا حراك .. ومما بين الرأس والجسد ينساب سائل كثيف ما لبث أن تبين لي لونه الحقيقي والشمس تتقدم في الأفق .. إنه دم ! ... لم أفعل شيء مما تخيلته .. فلم أجري ولم أصرخ ولم أقبض عليها ولا أي شيء مما كان يجب أن أفعله .. فقد أصابني رعب لم أعرفه من قبل .. رعب جعل ركبي تخبط في بعضها وأسناني تصطك وجسدي كله يرتعش .. أمرتني بالرجوع إلي بيتنا ففعلت .. ولا أعرف كيف حدث ذلك لكنني مشيت بخطي ثابتة حتى وصلت إلي بيتنا لأجد أمي قلقة علي جدا .. ذهبت إلي فراشي وسحبت الغطاء علي رأسي ثم نمت حتى العصر بدون أن يوقظني أحد ! صحوت أخيرا غارقا في العرق وإحساس بالكآبة والموات يملأني .. لعل المنظر الذي رأيته فجرا هو سبب همي ورعبي .. منظر أى منظر ؟! لقد كان حلما مزعجا فقط .. ولقد أكدت لي ساعات النهار التالية إنه كان مجرد حلم ليس إلا ! فعندما خرجت من غرفتي وجدت البيت غارقا في الصمت التام .. ويبدو حتى خاليا من الحياة .. لكن سرعان ما وجدت أمي وأختي جالستين في غرفة الخبيز فوق السطح تنظفان دجاجا وبطا كثيرا .. ألقيت عليهن تحية المساء وسألتهن لماذا تركوني نائما حتى الساعة : \" لقيناك تعبان فصعبت علينا قلنا نسيبك تنام براحتك !\" جميل .. لكن ما أخبار البلد يا تري ؟! لا شيء ؟! لا شيء ! كل الأمور في نصابها ولا حوادث قتل جديدة .. لكنني رأيته بعيني مذبوحا وممددا فوق كوم القمامة ؟! كنت أحلم إذن .. لا تتعب نفسك بالبحث عن تفسيرات ! ... ونحن جالسون للعشاء حدث أمر غريب .. دق شخص ما بابنا دون انتظار وحينما قامت أمي بفتح الباب وجدت سيدة عجوزا ترتدي ثيابا بالية وتطلب صدقة وإحسانا ! كان هذا عجيب فالمتسولون نادرا ما يدقون الأبواب إلا في شهر رمضان والأعياد .. ذهبت أمي لتحضر لها رغيفا وأعطاها أخي ثلاثة جنيهات فضية لتعطيها للمتسولة .. سمعت صوتها تدعوا لأمي ولنا حين ناولتها هذه الأشياء .. تجمد الدم في عروقي فجأة فقد ميزت بوضوح صوت المتسولة ذات اللحية ! نهضت من مكاني بسرعة وذهبت إلي حيث تقف أمي عند الباب المفتوح نصف فتحة .. أبعدت أمي برفق جانبا وتصدرت للمرأة وأريتها نفسي بوضوح .. ودون أن أخطط لذلك وجدت نفسي أصرخ فيها بغضب : غوري يا ولية من هنا ! همست لي أمي بوجه مذهول : ليه بس كده يا ولدي ؟! ملكيش دعوة يا أما .. دي قتالة قتلة ومجنونة ! لم تجادل المتسولة أخذت الرغيف والنقود واستدارت مبتعدة بصمت ! ما الذي دفعني لفعل ذلك ؟! لا أدري حقا .. لكنه كان أسوأ شيء فعلته في حياتي ! ... في تلك الليلة استيقظت مرة أخري علي صوت الصراخ المروع .. لم أتحكم في أعصابي تلك المرة .. سأذهب وأمسكها وأقتلها .. لا لا سأسلمها للشرطة ليعدموها ! هرولت مرتديا ثيابي .. لم يراني أحد تلك المرة فالجميع نائمون .. فتحت الباب وخرجت عازما علي ألا أرجع حتى أفهم ماذا يحدث هنا بالضبط ! عند السور كان الظلام منتشرا ومعه شيء ثقيل جاثم علي أنفاس المدينة النائمة .. شر .. هناك شر كبير طليق هنا ! بحثت في المنطقة حولي فلم أجد شيئا .. ترددت الصرخة مرة أخري .. لكنها بدت مختلفة تلك المرة .. كانت هذه صرخة أنثوية مبحوحة غامضة ومختلفة تماما عن نوعية الصرخات التي تعودت علي سماعها .. دورت حول السور مخفضا رأسي ثم أخذت أتلصص من موضع آمن هناك .. كانت أكوام القمامة مكومة كما هي والظلام يخفي أغلب معالمها .. فجأة وجدت شيئا يتحرك في المياه القليلة الملوثة الراكدة في الترعة .. هل هناك أحد مختل عقليا يسبح في الماء في تلك الساعة ؟! لا .. كان شيء طويل يتحرك شاقا المياه كسكين حامية تشق رغيف خبز .. سمعت شقشقة المياه وهي تنزاح مفسحة طريقا لذلك الوجود ليخرج .. خرج علي الضفة ثم تسلل وسط كوم قمامة هائل .. حتى الآن لم أميز فيه سوي عينان براقتان تلمعان كقمر من نار .. ارتجفت لكنني بقيت مكاني .. بقوة الجبن والعجز عن الحركة تلك المرة وليس بقوة الشجاعة ! أنساب وسط القمامة حتى وصل إلي قدمي امرأة جالسة هناك .. المتسولة ذات اللحية ! كانت جالسة القرفصاء فوق القمامة .. ماذا تفعل هناك ؟! لا أعرف .. تسلل الشيء الذي كان يسبح في الماء حتى أصبح فجأة خارج الظلام تماما .. ظهرت لي هيئة كهيئة الإنسان لكن بعينان متقدتان تومضان في الظلام .. أقترب منها فلم تفزع .. بقيت جالسة تنظر إليه وظهرها ناحيتي .. سحب نفسه حتى كاد يجلس تحت قدميها تماما ثم مد يدا عادية طويلة الأظفار ورأيته يجذب شيئا في وجهها .. جذب جذبة قوية فرأيتها ترتجف .. جذب جذبة أخري ثم توقف : \" أنت لا تخافين منا ؟! \" هسهس قائلا ذلك لكنها لم ترد : \" ستكونين جميلة حين يأتي موعدك ! \" خرج صوتها الآن للمرة الأولي : متي ؟! قالتها بلهجة عادية فسمعته يضحك ويضم يده التي تمددت فجأة : اثنان وتكونين الثالثة .. ثلاثة وتكونين الرابعة .. أربعة وتكونين الخامسة .. اختاري ! سمعتها تبكي ، تبكي بكاء حقيقيا ، فتمزقت نياط قلبي .. ما الذي يحدث هنا بالضبط ؟! التالتة ! الآن فهمت .. فهمت كل شيء أنه سيقتلها .. سيذبحها ! لمعت يده فكدت أصرخ .. كتمت فمي بيدي بينما يده تمتد إلي عنقها .. مجرد عشر ثانية ووجدتها تهوي ساقطة علي كوم القمامة ! كتمت صرخة في أعماقي .. وتراجعت وأنا لا أزال منحنيا مخفيا رأسي .. تراجعت بظهري وأنا أنظر أمامي غير عالم بما يختفي خلفي .. تراجعت بظهري وتراجعت حتى ارتطمت بشيء قوي خلفي .. سقطت علي ظهري لكنني اعتدلت بسرعة .. نهضت أخيرا متلصصا مرعوبا فوجدت أن هذا الشيء قد أختفي .. ذهب ذهب الحمد لله ! نظرت خلفي فوجدت ملاءة السرير المخططة بالأزرق والأبيض .. الملاءة الرثة الممزقة كما هي لكنها الآن ملطخة بالدم .. ابتعدت عنها وأنا أشعر بذعر هائل ثم عدت إليها مدفوعا برغبة في معرفة ما حدث لها .. مددت يدا مرتعشة ورفعت طرف الملاءة .. كان الجسد ساكنا تحت الملاءة .. اللحية النابتة مخضبة بدم والثوب البالي كذلك .. وبينهما رقبة مقطوعة تماما وكادت تنفصل عن الجسد .. أخرسني جبني فلم أجد حتى قدرة علي الصياح والصراخ .. ألقيت طرف الملاءة من يدي .. تعالي صوت قطار يمرق في المحطة الآن .. سمعت صوت شيء يزحف متجها نحوي .. نظرت فوجدت الشيء المجلل بالظلام ذو العينان البراقتان يزحف علي الأرض كعلقة متجها نحوي .. أخذ يردد كصلاة شريرة : \" ثلاثة وتكون الرابع .. ستكون الرابع ! \" صرخت الآن وكان يجب أن أصرخ .. حملتني قدماي المذعورتان فلم أدري إن كنت أجري للأمام أو للخلف .. جريت بسرعة خارقة وأنا لا أستطيع تمييز معالم الشارع حولي .. كل شيء تحول لخط متصل من الضباب الملون فلم أعرف إلي أين أتجه بالضبط .. فقط حين تعالي صراخ القطار في أذني عرفت أنني أتجه إلي الأمام وليس إلي الخلف كما كان يجب أن أفعل .. تعالي صراخ القطار في أذني .. تأكدت أنه ينزلق فوق القضبان بأقصى سرعته وأنه سيدهسني خلال لحظة .. توقفت أنفاسي تماما وشعرت بأن ضلوعي قد تورمت وتحطمت .. ألتهب صدري وسرت برودة في جوفي .. زعق القطار منذرا إياي مطلقا الشرر للمرة الأخيرة .. لم أشعر إلا وأنا أقذف بنفسي علي الناحية الأخرى من الشريط الحديدي لأرتطم بالقضبان السميكة وأفقد كل إحساس لي بما يدور حولي .. لا أعرف ما إذا كنت قد نجوت أو دهسني القطار .. لكنني أفضل الأخيرة عن أن أقع بين يدي الشيء الزاحف الخارج من الترعة الجافة ! تمت * الخبز البلدي الذي تنتجه المخابز يسمي في الصعيد ( مصري ) تمييزا له عن الخبز الصعيدي الشمسي .