الوعي الحقيقي يعرف القوي المحرِّكة له، وماذا يريد، وكيف يصل إلي ما يريد، بينما الوعي الزائف يجهلها ويتصرف كالقطيع الذي ينساق بقوي كاذبة دون أن يدري، متخيلا أنه حر الإرادة!. وأيا كانت درجة وعينا كبيرة، فإن الوعي يظل وعيا نسبيا غير محيط بالحقيقة المطلقة, لكن هذه النسبية لا تبطل الوعي الذي ينمو عبر الزمان، ولا تقلل هذه النسبية من قيمة الوعي، بل يجب أن تدفعنا لزيادة الوعي يوما بعد يوم. ولا تجعل هذه النسبية الشعوب الواعية في منزلة واحدة مع الشعوب غير الواعية؛ والفيصل بينهما والمعيار الذي يمكن أن نميز به بين الوعي الحقيقي والوعي الزائف هو النتائج علي الأرض؛ فلا شك أن الشعوب المتقدمة في العلوم والفنون ونمط الحياة والالتزام الاجتماعي أفضل من الشعوب المتخلفة؛ حتي وإن زعمت تلك الأخيرة أنها تملك الحقيقة المطلقة!. وكل حالات السلوك ترجع إلي الوعي واللاوعي (بالمعني النفسي)، وإن شئت العقل الظاهر والعقل الباطن، الأمر الذي يحيلنا إلي القول إن إعادة تشكيل عمليات الوعي تستلزم أن نعرج إلي ضرورة إعادة تشكيل اللاوعي أو العقل الباطن؛ ولا يمكن إعادة تشكيل الوعي واللاوعي إلا بالوعي الذاتي النقدي، ومن هنا فإن الوعي الذاتي النقدي هو فريضة حضارية في ارتقاء الإنسان. أعود فأقول إن أهمية الوعي أنه يسبق السلوك، وهو الذي يضع الخواص العليا أو خواص النظام الحاكم للسلوك، والتمييز بين الصواب والخطأ، وإدراك الجمال والقبح. وبعبارة أخري يضع أنظمة الوعي بالحق والخير والجمال. ويمكن لك إذا أردت تغيير أنظمة الوعي والتمييز عند فرد أو شعب، أن تسلك معهم مسلكين، هما: المسلك الأول: الإجبار. المسلك الثاني: تغيير الوعي. والمشكلة في المسلك الأول أن الأخلاق تكون صورية جوفاء قائمة علي الإلزام وليس الالتزام، وهذه الطريقة أنتجت مع بعض الشعوب نتائج إيجابية، ولا أريد أن أذكرها بالاسم منعا للوقوع في حرج، ولعدم إعطاء فرصة للذين يتصيدون الكلام ويخرجون به عن سياقه. وفي كل الأحوال - وقول واحد- إن الشعب المصري لا تصلح معه هذه الطريقة، فلديه من الإباء ما يحول بينه وبين قبول هذه الطريقة، وقد استطاع عبر العصور أن ينمي (آليات وحيل) يتغلب بها علي أي إجبار، سواء من المستعمر أو قوي الإقطاع أو غيرها. ولذا فالمسلك الثاني هو الذي يطرح نفسه، حيث من الضروري العمل علي تطوير الوعي المصري وإعادة تشكيله, وهذا غير ممكن بدوره دون فك أكواد الوعي المصري التي لاتزال عصية حتي الآن وكأنها شفرة سرية، حتي علي علوم المستعمرين عبر العصور! ففي كل مرة يتغير المستعمر ولا يتغير المصري. وهذه ميزة فريدة لنا في تحدينا لأي مستعمر. لكن المشكلة هي استنتاج نتيجة عامة من هذه الحالة الجزئية، يصبح معها عدم التأثر بالحضارات الأخري ميزة! حتي إن البعض يفتخر كثيرا بكونه يغيِّر في الآخرين ولا يتأثر بهم في كل مراحل الاحتكاك الحضاري! وهذا في ظني عيب وليس ميزة، فليس من العيب أن أتأثر بالحضارات الأخري في مميزاتها وأن أستفيد منها. فهذا شيء آخر غير عدم تأثرنا بالمستعمر، فإذا كان مَن يتفاخرون بعدم تغير المصريين واستعصائهم علي التأثر، يقصدون أنهم يؤثرون في الاستعمار ولا يتأثرون به، فهذا ولاشك ميزة كبري وفريدة، لكنها ليست مطلقة في حالات الاحتكاك الحضاري, لأن الحكمة والعلم والفنون والحضارة ضالة الحكيم، يجب أن يسعي إليها ويأخذ بها حتي لو عند الأعداء، دون انبطاح أو رضوخ. فالتأثر المطلق مرفوض، وعدم التأثر المطلق مرفوض أيضا, الوعي هو أن أعرف ماذا آخذ وماذا أدع. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الوعي المصري متقدم؟ وهل يمكن أن نقول إنه وعي علمي وتقدمي وليس وعيا مزيفا؟ إذا كانت الأمور تقاس بنتائجها علي أرض الواقع، فيمكن أن أقول إن الوعي العام به مشكلة حقيقية، مقارنة بالأمم والشعوب الأخري التي تحتل قمة التقدم علي خريطة العالم المعاصر. فلسنا شعوبا متقدمة مثل شعوب أوروبا الغربية، ولسنا متقدمين مثل دول جنوب شرق آسيا. ربما نملك تاريخا لا يملكونه، لكن نحن نسأل عن (الآن) وليس عن ما (كان)، نسأل عن حاضرنا وليس عن ماضي الأجداد. وإذا كان منا أناس غير مصدقين لهذه الحقيقة، حقيقة أن هناك أمما تسبقنا سبقا كبيرا علي سلم التقدم، وأنها تملك وعيا يفوق وعينا بكثير، وإذا كان منا طائفة أو طوائف لا تزال تعتقد أننا الأفضل وأننا نملك الحقيقة المطلقة وأننا صالحون وهم فاسدون، فاعلم أن التغييب وصل منتهاه وأن الوعي الزائف يعمل بقوة، وأن هذه الطوائف منا لا تعرف الحساب الدقيق لحدود قدراتنا. وإذا كانت من بيننا طائفة تنظر لأمتنا في المقابل نظرة عدمية تنكر أية ميزة وأية فضيلة، فاعلم أن التطرف بلغ منتهاه، وحال هؤلاء نراه ماثلا في كل من يعتقدون أننا في جاهلية مطلقة! فالذين يمجدون الذات تمجيدا مطلقا مغيبون، والذين يبخسون الذات بخسا مطلقا متطرفون، وبين هؤلاء وأولئك يضيع الوعي الحقيقي. لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت