درجت الأدبيات في الدراسات الإنسانية علي التفرقة الحادة بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية، وتعتمد هذه الرؤية علي الملاحظة المباشرة بين من أتاحت لهم الظروف درجة من التدريب علي المنهج العلمي في التفكير، وبين هؤلاء الذين توارثوا المعارف من خلال محيطهم الاجتماعي المتنوع في مسلماته وبديهياته. وكذلك اعتبار أن هناك فنونا للنخبة وفنونا شعبية، وتنتمي الأولي إلي ما أتيح للفرد أن يتذوقه من الثقافات الأخري، خاصة الثقافة الغربية وكلاسيكياتها، أو تلك الفنون التي تأثرت بها وامتزجت مع شخصية الشعب الذي نشأت فيه، وبين ثقافات محلية اختلقها الوعي المحلي وأصبح تذوقها خاصاً به. وما أريد أن الفت النظر إليه هنا هو أن هذه التفرقة الحادة بين ثقافة نخبة وثقافة شعب، هي تفرقة وإن كان لها ما يبررها، ولكنها تتغاضي عن رؤية الثقافة في مستوياتها المتعددة وتركيبها المعقد. والثقافة بمعناها الواسع لا تقتصر علي الفنون والمعارف وحدها، ولكنها تدخل في نسيح تكوين اللاوعي الجمعي والذي يؤثر بدوره علي الوعي علي المستوي العام وعلي المستوي الفردي. ولذا فإننا عندما نتحدث عن ثقافة شعب، فإننا في الواقع نتحدث عن شخصية حضارية، ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ ينتمي إليها النخبة والعامة معا، مع درجات متفاوتة في مناطق الفكر والسلوك. لا أقصد بهذا القول أن هناك ثباتاً في السلوكيات والقيم ، أو تأكيد أي رؤية استاتيكية تجاهلا للواقع المعاش ولكنني فقط أريد أن أثير الانتباه إلي منطقة مفقودة ولا توضع في الاعتبار عند الحديث عن تشكيل الوعي. وأريد أن أنبه في نفس الوقت إلي أن هذا الوعاء الذي يمكن أن نطلق عليه المنطقة الغامضة داخل اللاوعي مليء بالمتناقضات التي تمتزج بسلوكيات مختلفة، تستخرجها الشعوب والأفراد تبعا للمواقف التي تواجهها. وعلي سبيل المثال لا يوجد مبرر أن تفشل كل الجهود المبذولة لتنظيم النسل خاصة بين الفقراء، مع هذه الكثافة الإعلامية وانتشار الخدمات الصحية في كل أنحاء الجمهورية، وأحد الأسباب الرئيسية لهذا الفشل _ بالإضافة إلي العوامل الاقتصادية وعلي رأسها استغلال الصغير من أجل زيادة دخل الأسرة _ هو رسوخ بعض المفاهيم المغلوطة والتي انتقلت من حالة الوعي إلي اللاوعي، والتي تجعل أي محاولة لتنظيم النسل وكأنها وقوف أمام إرادة الله. وينتقد بعض ممن يحملون ما نطلق عليه ثقافة نخبة هذه الرؤية، باعتبارها تمثل انحرافا عن فهم التدين الرشيد الذي يربط بين الفعل والمسئولية أمام الله، فمن الواضح لديهم أن انجاب أطفال دون الالتزام برعايتهم هو تفريط في مسئولية الإنسان أمام ربه. ولكن علي مستوي آخر، نجد أن هؤلاء قد يتصرفون انطلاقا من هذا المبدأ في مواقف أخري، فيقبلون الواقع السياسي أو الاجتماعي السيئ دون أي محاولة لتغييره، تحت نفس الادعاء، وهو أنهم لن يستطيعوا أن يغيروا الكون، وأن جزءا من الإيمان هو الرضاء بقضاء الله، والاستسلام له، بل وقد يذهبون إلي أبعد من ذلك عندما يتصورون أن مخالفة ولي الأمر هو السبيل إلي الفتنة التي نهي الله عنها، ومخالفة لإرادة الله، فيرضخون للواقع غير مدركين أن خضوعهم هو في حد ذاتهم إضعاف للنظام الذي ينتمون إليه، وأنه تفريط في مسئوليتهم أمام الله. إن هذا السلوكيات تظهر في كل الوحدات الإدارية، حيث يأتمر العاملون أيا كان موقعهم بملاحظات رئيس العمل، حتي إذا خالفت ما درسوه أن تدربوا عليه، وتمتد لتشكل الوعي في المؤسسات النيابية التي من واجباتها الأساسية مراقبة السلطة التنفيذية من أجل مصلحة الشعب، ولكنها لا تقوم بهذه الوظيفة علي الوجه الأكمل، وتقف عند خطوط حمراء لا تتعداها في اتفاق غير مكتوب، درءا للفتنة، وقد يعبر عليها المراقبون السياسيون أيضا بوصف هذا السكوت أنه انتهازية سياسية. وأيا ما كان الأمر فإن الخضوع يصبح سمة سلوكية لها تبريراتها الأيديولوجية، ولكنها في نفس الوقت لها أيضا رصيد متراكم داخل اللاشعور الجمعي. إن هذا الإتجاه السلبي المنسحب الذي يضعف من مسئولية الإنسان نحو نفسه ونحو مجتمعه يتغلغل بشكل قوي عند موجات الأفول الحضاري، وقد أطلق عليه كارل ماركس "تزييف الوعي"، وعلي الرغم من أنني أعتبره وعيا زائفا بالفعل، ولكن مقاومته أو إعادة تشكيل وعي إيجابي، لا يتم بالوعظ أو التصحيح الفلسفي المباشر، لأننا سنجد نفس الاتجاه يظهر في مواقف أخري. وإذا افترضنا مثلا أن المجتمع قد أتاح لمواطنيه المشاركة السياسية وتبنت هذه السياسة رؤية التمكين بدلا من السيطرة، فإن هذا الانسحاب السلبي سيظهر في مناطق أخري، فقد يبادر البعض بالمشاركة في مشروع من أجل الوصول إلي هدف، ولكن سرعان ما يعزي أي فشل في هذا المشروع إلي قوي خارجية قدرية، ولا يدرس مواطن الضعف التي أدت بهذا المشروع أو ذاك إلي الفشل. وأما الوجه الآخر المتناقض تماما في السلوك والمشترك في مسلمات اللاوعي، فهو المخاطرة غير المحسوبة والتهور والاندفاع في اتجاهات يخيل لأصحابها أنهم يقومون بمسئولياتهم نحو تغيير واقعهم الاجتماعي، ولكنهم في حقيقة الأمر يحطمون ما تم بناؤه لأنهم يتبنون رؤية أحادية في التصحيح، ويفرضونها علي هذا الواقع، معتبرين أنهم يعبرون عن "الإرادة الإلهية". وتتراوح سلوكيات هؤلاء الأفراد ما بين اختيارات لمشاريع دون دراسة حقيقية، إلي استخدام العنف ضد مجتمعاتهم، أو ضد العالم أجمع. ولا أظن أن أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري يشكان للحظة واحدة في أنهم يجاهدون في سبيل الله. هذا التصديق المطلق للوهم الصراح نابع من تكوين لا واع يجعل الإنسان غير قادر علي التفرقة بين مسئوليته النابعة من رؤية الواقع، وبين الإيمان بالإرادة الإلهية. لقد تغير مسار التاريخ نتيجة لهذه الحفنة القليلة التي خلقت وهما لدورها في تغيير العالم، دون تقدير لمتغيرات الواقع وحدود المسئولية والقدرة عليها. والمثير للدهشة حقا هو اشتراك من نظن أنهم ينتمون إلي التفكير العلمي في نفس الاتجاه من الرعونة، يحكمهم نفس التكوين النفسي، فلقد وجدنا جورج دبليو بوش يتصرف بنفس الطريقة، ومتحركا بنفس الدوافع، ومتصورا أنه يمثل مباديء الخير المطلق في محاربة الشر، ومدفوعا لهذا بالإرادة الإلهية أيضا. ولكن هل يعني تأكيد هذا البعد لهذه القوي الدفينة المتمركزة في اللاوعي أنه لا سبيل إلي تغييرها؟ أعتقد أن قضية التغيير لا بد أن تبدأ بمرحلة الفهم، فإذا اتفقنا أن هذا المخزون اللاوعي، يحمل أيضا توجهات مختلفة، فإن علينا أن نؤكد من خلال الذاكرة الشعبية التي يحملها التراث المصري والعالمي بكل تنوعاته تلك القيم الإيجابية، فلنعيد تكوين اللاوعي بتذكر قصة إيزيس التي ذهبت إلي آخر الأرض لتجمع شتات أوزريس، وكيف أنها نجحت في ذلك وأعادته إلي الحياة. لقد جعلت المستحيل ممكنا. يمكن أن نعيد قصص الفروسية والنبل التي لا تتوقف عن السعي من أجل احقاق الحق. ويذخر تراثنا الديني بقصص الانبياء الذين كانو يعملون ويأكلون مما يصنعون، والذين وقفوا متسلحين بقوة المنطق والرؤية أمام جحافل الجهل والتعصب مثل سيدنا إبراهيم (عليه السلام) الذي لم يخش قول الحق في مجتمع يحمل رؤية وعقيدة مخالفة لما رآه، وسيدنا موسي (عليه السلام) الذي قاوم ظلم فرعون بالكلمة الطيبة والنصح، وسيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) في عدم المساومة فيما أدرك أنه الحق، وعدم استخدام القوة للدفاع عن رسالته. ويمكن استخدام اللحظات المنيرة في تاريخنا لبيان قيمة الإخلاص والدرس والاجتهاد في الوصول إلي الهدف. فلنتذكر كيف انتصرنا في أكتوبر 1973، ذلك أن فكرة هدم الساتر الترابي بالماء كانت فكرة عبقرية، والتعاون بين سلاح المهندسين والجيش لبناء جسر تسير عليها الدبابات لم يكن عملا عشوائيا، وإنما استغرق بحثا ودراسة وتدرييا شاقا للغاية. حتي الانتصار الكروي فإنه من الممكن استخدامه في تأكيد قيم الدراسة والتدريب والاجتهاد. إن تناول القصص البطولي الذي يعبر عن التفاعل مع الواقع والتسلح بالإرادة والعلم، قد يعيد تشكيل الوعي، عندما يصبح جزءا كامنا في الشخصية المصرية. ولننتبه إلي أن تأخرنا عن التقدم المنشود ليس إرادة إلهية، وإنما تهاون في الدراسات الشاملة والرؤية الكلية. إن اختزال أسباب الفشل وأسباب النجاح إلي القدرية لا يمت إلي الإيمان، بل هو عودة إلي عصور الظلام والجهل، ذلك أن الإيمان يبدأ بإيمان الإنسان بمسئولياته أمام الله، لأنه قد وهب قدرة العقل والتفكير والإبداع، ولأن تطوره التاريخي عبر الزمان هو نتاج لجهاد في استخدام هذه القدرات، ونحن في حاجة إلي أن تتحول هذه الرؤية إلي المنطقة الكامنة الداخلية التي تتحول إلي دوافع جمعية تؤثر علي سلوكيات إيجابية إبداعية للدفع بمجتمعنا إلي الأمام.