البابا تواضروس يتلقى تقريرا عن الخدمة في إيبارشية ديرمواس    البحث عن الفضيلة    التموين: حملات يومية على الأسواق والمخابز    محافظ الغربية يقود حملة لتفقد أعمال النظافة وإزالة الإشغالات بثالث أيام العيد    البورصة المصرية، حركة مؤشر الذهب بالتداولات المحلية    الجزار: 23 مشروعًا لمياه الشرب وصرف صحى الحضر والمناطق الريفية بالوادى الجديد    هوكشتاين: مقترح بايدن للتهدئة قبله الوسطاء وإسرائيل ويجب على حماس قبوله    تحرير 30 ألف مخالفة مرورية متنوعة    مفيش أنا كمان 10 سنين، سر جملة عمرو دياب التي أحزنت جمهوره وعشاقه (صور)    الصحة: فحص 13 مليونا و627 ألف مواطن للكشف المبكر عن الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي    احذر الحبس 10 سنوات.. عقوبة تزوير المستندات للحصول على بطاقة الخدمات المتكاملة لذوي الإعاقة    بوتين يشيد بدعم كوريا الشمالية لحربه في أوكرانيا قبل ساعات من زيارة بيونج يانج    أسوشيتد برس: قرار نتنياهو بحل حكومة الحرب خطوة لتعزيز نفوذه وإطالة الصراع    واشنطن بوست: صفقة أسلحة أمريكية ضخمه في طريقها لإسرائيل    اليابان.. تصاعد الدخان من محطة فوكوشيما النووية    جدول الدوري الإنجليزي 2024-2025.. مواجهة مصرية في الافتتاح    يورو 2024| التشكيل المُتوقع لجورجيا أمام تركيا في بطولة الأمم الأوروبية    الزمالك يستعيد خدمات عمر جابر أمام فاركو    سيتي يبدأ المشوار بمواجهة تشيلسي.. خريطة مباريات القمة في بريميرليج 2024-2025    رد فعل مفاجئ من زوجة زيزو ضد حكم مباراة الزمالك والمصري    تحت مظلة التحالف الوطنى.. صناع الخير تضاعف جهودها في العيد بتوزيع اللحوم    تفاصيل حالة الطقس وأبرز الظواهر الجوية في ثالث أيام العيد    اتفسح وأنت فى البيت.. الحديقة الدولية تستقبل زوارها للاحتفال بثالث أيام عيد الأضحى    مصرع شخص في حادث انقلاب موتوسيكل بالشرقية    مصرع شاب في حريق 4 منازل بقنا    كفر الشيخ: تحرير 8 محاضر لمخالفات تموينية بدسوق    محافظ الجيزة يعتمد المخطط التفصيلى للمنطقة الصناعية بعرب أبو ساعد فى الصف    نهى وسالي ولمياء ونرمين وأسماء .. عيد الأضحى بيت وفتة و« آيس كريم »    المحمل والحج.. مراسلات بين مصر والمملكة العربية السعودية    أمير عيد .. خطوات ثابتة فى التمثيل    دار الإفتاء: ترك مخلفات الذبح في الشوارع حرام شرعًا    أسعار السمك في سوق العبور اليوم الثلاثاء 18-6-2024.. البلطي ب30 جنيها    طريقة تحضير كبسة اللحم بالأرز البسمتي    الدكتور مجدى يعقوب يشيد بمنظومة التأمين الصحى الشامل "ما نراه شئ مشرف"    مفتي الجمهورية: نثمن جهود السعودية لتيسير مناسك الحج على ضيوف الرحمن (صور)    بكين: فقدان 4 أشخاص جراء الفيضانات الجبلية في منطقة شينجيانج بشمال غربي الصين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 18-6-2024    دعاء الأرق وعدم النوم.. لا إله إلّا الله الحليم الكريم    دعاء الانتهاء من الحج.. صيغ مختلفة للتضرع عند اكتمال المناسك    «المهايأة».. كيف تتحول شقة الميراث إلى ملكية خاصة دون قسمة؟    في ذكرى رحيله ال18| الأب "متى المسكين" رمز الكنيسة القبطية.. عاش حياة الرهبنة كما يجب أن تكون    شيخ الأزهر يهنئ خادم الحرمين وولي العهد السعودي بنجاح موسم الحج    بعثة الحج السياحي: إعادة 142 حاجًا تائهًا منذ بداية موسم الحج.. وحالة مفقودة    الصحة: تنفيذ 454 زيارة مفاجئة للمستشفيات ومراكز الرعاية الأولية ب23 محافظة خلال عيد الأضحى    "سويلم" يوجه باتخاذ الإجراءات اللازمة للاطمئنان على حالة الري خلال عيد الأضحى    أخبار الأهلي : الزمالك يتلقي صدمة جديدة بعد التهديد بعدم مواجهة الأهلي    17 شهيدا إثر غارات الاحتلال على وسط وجنوبى قطاع غزة منذ فجر اليوم    مواعيد مباريات الدوري المصري اليوم الثلاثاء والقنوات الناقلة    أخبار مصر: جريمة تهز العراق ضحاياها مصريون، آل الشيخ يحرج عمرو أديب بسب الأهلي، مفاجأة في وفاة طيار مصري وسقوط أسانسير بركابه بالجيزة    بينهم مصريون، مصرع 11 وفقدان أكثر من 60 في غرق قاربي مهاجرين قبالة سواحل إيطاليا    إسعاد يونس: عادل إمام أسطورة خاطب المواطن الكادح.. وأفلامه مميزة    عبدالحليم قنديل: طرحت فكرة البرلمان البديل وكتبت بيان الدعوة ل25 يناير    افتتاح وحدة علاج جلطات ونزيف المخ بمستشفيات جامعة عين شمس.. 25 يونيو    ثبات سعر طن الحديد وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 18 يونيو 2024    السيطرة على حريق محدود في مخيم حجاج مصريين بمنى دون إصابات    ملخص وأهداف جميع مباريات الاثنين في يورو 2024    «حضر اغتيال السادات».. إسماعيل فرغلي يكشف تفاصيل جديدة عن حياته الخاصة    البطريرك يزور كاتدرائية السيّدة العذراء في مدينة ستراسبورغ – فرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موسوعة الاجتماع التي فقدناها
درس عبدالباسط عبدالمعطي
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 06 - 2010

عبدالباسط عبدالمعطى في القلب من المدونة السوسيولوجية العربية المعاصرة، تمثل أعمال الراحل عبدالباسط عبدالمعطي احدي الصروح النظرية الفاعلة، التي تتميز بقوة التأسيس، وغني التجاوز، عبء الالتزام، ومراودة التحرير.
ولعله في المستطاع مقاربة درسه السوسيولوجي بصورة أجلي، من خلال محاولة التماس الجواب عن تساؤلات من قبيل: ماهي منطلقاته في رصد هذا الدرس؟ واستتباعاً: ما ذاعت مسعاه في تطوير فكر سوسيولوجي نقدي، اذ علي مستوي الرؤية النظرية أو الأسس المنهجية أو الفعالية الاجتماعية؟ وهل لذلك صلة بوقوفه في جانب المستضعفين والفقراء؟ وأخيرا، كيف تطورت رؤيته مع تنامي نذر العولمة واستئثاراتها؟
الرحلة
لنخفف، ابتداء، من استعجالنا الاجابة علي هذه التساؤلات، فتسبقها بمتابعة مسيرته الذاتية، كابن لحظة مصرية، شهدت زهاوتها وانكسارها، فيما حمل بعضها وهج القوة، وكابد بعضها تواطؤ الظلال.
ولد الراحل بقرية »الكوم الأحمر« مركز بني سويف عام 3491. وتخرج من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 2691. ليعمل باحثاً بوحدة بحوث الرأي العام والأعلام، ووحدة بحوث الريف في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو مؤسسة علمية متميزة، اعتبرت حال انشائها في الخمسينات نقلة نوعية من الاهتمام بالبحث الاجتماعي، عبر تقديمها مزاوجة ا خلاقة بين عديد التخصصات (القانون، علم الاجتماع، علم السياسة، الاعلام، الاقتصاد، علم النفس، الاحصاء، الانثروبولوجيا...). وخلال اشتغاله بهذا المركز، عاصر عبدالمعطي بعضا من أبناء الجيل الأول العاملين به (سيد عويس، نور فرحات، علي فهمي...). رغم انتقاله بعدها للعمل بالجامعة، لم يقطع صلته به، اذ اشرف وشارك في العديد من بحوثه العلمية، لعل من أهمها بحث (مستقبل القرية المصرية). واستكمل مشروع مصطفي سويف عن المخدرات، واختير عضوا دائما للجان الترقية العلمية به.
وبعد حصوله علي درجة الدكتوراه عام 2791. اصبح عضوا بهيئة تدريس كلية البنات بجامعة عين شمس، وشارك بجهده الأكاديمي في جامعات اخري ببنها وطنطا والمنصورة والاسكندرية، وحاضر في المعهد العالي لتكوين المنشطين الثقافيين بتونس، واعير سنوات لمعهد التخطيط القومي بالكويت، وجامعة قطر.
وفي محاولة لتحقيق الحلم ببحث اجتماعي مغاير، وافتكاكا من »جبهة« علم الاجتماع الرسمي، أسس مع بعض من زملائه (جماعة علم الاجتماع والإنسان)، ممن قاموا بترجمة عملين رائدين: أطروحة حامد عمار حول التنشئة الاجتماعية في قرية سلوا بأسوان، وكتاب عالم الاجتماع الامريكي رايت ميلز عن الخيال السوسيولوجي، لكن هذه الجماعة لم تتواصل، بسبب من تمايز اتجاهات مؤسسيها.
ومع انشاء الجمعية العربية لعلم الاجتماع في تونس مطلع عام 5891، انتخب عبدالمعطي أول رئيس لها، وشارك في جميع فعالياتها وملتقياتها، ورأس لسنوات دوريتها (اضافات)، كان المقصد لدي مؤسسي هذه الجمعية موجها نحو اقامة علم اجتماع قومي، يحل مكان النقل عن الآخر الغربي، انطلاقا من ان العلم وليد نظامه الاجتماعي في الأساس، وكآلية علمية قادرة علي اسناد مشروع النهضة العربي، عبر الاهتمام بقضايا المجتمع العربي، وبأولويات بحوثه، وتوجيه نتائجها لخدمة هذا المجتمع.
وجنب هذه الفعاليات، عمل الراحل مستشاراً لادارة السياسات السكانية والهجرة بجامعة الدول العربية، ومشرفا علي وحدة التنمية الريفية والسكان بجهاز السكان في مدينة القاهرة، ومستشاراًعلميا لوزارة التضامن (الشئون الاجتماعية سابقا)، وعضوا بلجنة الدراسات الاجتماعية في المجلس الأعلي للثقافة، وعضوا بالهيئة الاستشارية لمجلة (أحوال مصرية).
منطلقات
علي أن مقاربة الدرس السوسيولوجي لدي عبدالمعطي، تقتضي، في البدء، الاحاطة بقصدياته المتضافرة التالية.
(1) ان علم الاجتماع ليس، ولا يجب ان يكون مجرد واحد من العلوم الاجتماعية، فيما هو أساس هذه العلوم، علي معني انه الذي يمدها بالأساس النظري، حتي انه لايمكن تصور امكان قيام أي علم منها بمنأي عنه، مايشي انه بمثابة القاسم المشترك الأعظم لهذه العلوم، وخصوصا لدراساتها البينية التي باتت راهنا أمرا واقعا علي مستوي البحث العلمي، وان بدت علي تخومها دون متونها.
(2) يزيد في حيثية مكانة هذا العلم، توجهه الي تحرير الشرط الانساني، عبر التزامه بالطبيعة الخلاقة للبشر، وبديمومة تغير الواقع الاجتماعي، والاعتراف بالصراع داخل المجتمع، ورفض الاشتراك القيمي والاتفاق الجمعي لأعضائه كمعايير في دراسة مجتمعاته، ما يعني بأن عدم الالتزام بهذه القضايا والأبعاد، يجعل هذا العلم بمنأي عن طابعه النوعي بين العلوم الاجتماعية.
(3) من هنا، فأن علم الاجتماع ليس محايدا بازاء قضايا مجتمعه، بل نتاج لها من جهة، ودافع علي الارتقاء بها من جهة اخري، ومن ثم فان عزله عن التكوين الاجتماعي الذي افرزه، يوقع في مثالية مفرطة.
ذلك أن الخيار السوسيولوجي هو تجل معتمد لشرطه الاجتماعي، بما يحويه من تناقضات بنيته التحتية، وصراع فئاته الاجتماعية، أو بما تضطلع به الجماعة المسيطرة، التي تفرض اصطفاء دلالات تداولية بعينها لهذا العلم، وتعطيها قوة رمزية أكبر، علي انها السوسيولوجيا المشروعة وان تحدث لدي بقية الفئات نزوعاً نحو تقبلها، عن طريق فرض نظام تعليمي، يجسد المرتكز الذي تستند إليه هذه الجماعة، انطلاقاً من مبدأ رئيسي في علم اجتماع المعرفة، يذهب الي ان كل نفوذ يتمكن من ان يفرض معان معينة بصفتها معان مشروعة، عن طريق اخفاء علاقات النفوذ التي هي اساس قوته، يكون بذلك قد جمع قوته الرمزية الخاصة إلي علاقات النفوذ المشار اليها.
(4) وما يترجمه هذا العلم، جدير بأن يصوب نحو عملية مجتمعية في الأساس، تعبيرا وعملا ودعيا، وان يتوجه نحو تحقيق الارادة الاجتماعية، ارادة المجتمع، علي معني اولوية المصالح العامة المتجاوزة للمصالح الفئوية والفردية التي تأتي في مراحل تالية، ومتجاوزا الأهداف الآنيةإلي غايات أكثر شمولا واستمرارا، تأخذ بيد البشر الي ان يتملكوا عالمهم، ويدركوا موضعهم، تجاوزا للقهر والظلم ودعاوي التحريم، خاصة إذا كنا لن نغفل ان الوجه الصحيح لهذا العلم لايقتصر علي مجرد مرمي تعليمي أو بحثي مجرد، بل يلحقه بفعالية اجتماعية، تطرح امامها مهمة الاسهام في تنظيم خبرات الجماعة، وتعظيم الوعي بقضايا مجتمعها، كي يضحي استمرارا علميا لأنشطتها.
ونسجل هنا، أن الأمر في هذه المنطلقات، يندرج في سلسلة سياقية متواشجة، ممهورة باسنادات متراكبة، يضعنا عبدالمعطي قبالتها: جذر معرفي، ورؤية نظرية، ومنهج علمي، وفعالية اجتماعية، ويحبدر فتح بشارة وعيها الصحيح علي مصراعيها.
نحو فكر سوسيولوجي نقدي
ان عبدالمعطي يدرك جيدا مهمة الفكر في تحرير الدرس السوسيولجي من التصورات المدرسية والامبيريقية التبسيطية، مع وعيه بحيثية علم الاجتماع كعلم نقدي في جوهرة، يتعين عليه الا يكتفي بوصف وملاحظة الواقع العطي، بل ان يمارس وان نمارس عليه السؤال، لأن وظيفته النقدية ينبغي ان تتموضع داخل استراتيجية عامة، يكون النقد السوسيولوجي واحدا من جبهاتها.
وبهذه الرؤية النقدية، يمكن الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي ولدتها وحددتها، عبر معيارين اساسيين: كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الانتاج، وتتصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي تحاول المصالح الطبقية السائدة ان تلبسها للعقل، وان تؤسس اليقين بها.
وعبدالمعطي، وبهذه الحيثية، يعد سليل منعطف فكري بدأت طلائمة منذ ثلاثينات القرن الماضي مع مدرسة فرانكفورت النقدية، مرورا بعلماء الاجتماع الراديكاليين بالولايات المتحدة في الخمسينات، وفي مقدمتهم رايت ميلز، وانتهاء بظهور علم اجماع المعرفة في السكينات، الذي اسهم في بلورة منطلقات هذه الرؤية النقدية.
وفي هذا الاطار، انتقد عبدالمعطي ازدواجية التوجه في الأعمال السوسيولوجية بالاتحاد السوفيتي، حين اصدر عام 4791 كتابه (مطالعات في الاتجاه السوفيتي في علم الاجتماع)، وحدث فيه عن دور هذه الأعمال في كشف تناقضات المجتمع الرأسمالي وتخلف المجتمعات النامية. غير انه لاحظ ان هذا الدور يزداد تسافناً ووهنا كلما تعلق الأمر بالمواطن السوفيتي، بشكل يجعله اقرب الي المحافظة، بالنظر الي ان تحليلاته تكاد لاتتعدي التكتيك، دون ان تطول الاستراتيجيات العامة، مما
أوقع هذا العلم في ازدواجية واضحة، تتراوح بين الراديكالية بالنسبة لقضايا الانسان خارج الاتحاد السوفيتي، وبين التبرير والمحافظة بالنسبة للانسان داخل الاتحاد السوفيتي، حيث يبدو اكثر التزاما بتوجيهات الحزب وايديولوجيته العامة.
ولم يتوقف حسي عبدالمعطي في بلورة فكر سوسيولوجي نقدي عند هذه الدراسة، بل نراه لابدا في كل أعماله التي تقوم علي استنباط الدلالة والتعميم والتجريد والاستدلال والمنطق والتحليل والبرهنة والحكم، وفي آفته الفكري كتصور فلسفي للانسان لايمكن ان يخلو منه الدرس النقدي، مهما بدا انشغال هذا الدرس بالتقنيات اللازمة للنص السوسيولوجي، باعتباره اقدر بوسائله وصيغه علي الكشف عن تناقضات الواقع الطبقي.
رؤية نظرية
علي أننا سوف نشفع الخلفية المعرفية النقدية التي اتخذها عبدالمعطي، بمزيد ايضاح لرؤيته النظرية البادية في اطار هذه الخلفية، طالما تعد هذه الرؤية نقطة البدء الأولي والمهمة في التجليل، من كونها تمد الباحث باطار تصوري يساعده علي تحديد الأبعاد والعلاقات التي عليه ان يدرسها، وتمهد له الطريق لجمع معطياته وتنظيمها وتصنيفها، وتحديد ما بينها من ارتباطات وتداخلات.
وهكذا، فانه، وفي محاولته تقديم سوسيولوجيا نقدية حافزة لاتساع ابداعيتها، بدأ عبدالمعطي علي منأي من التوجهات التقليدية والتطبيقية والتأملية، تلك التي همشت مكانة الدرس السوسيولوجي العربي، وزادته رهقا: فقد افتك، ابتداء من السيوسيولوجيا التقليدية، التي توقفت عند الوضعية او التطورية او العضوية أو البنائية الوظيفية. وافتك كذلك من السوسيولوجيا التطبيقية، التي تقتصر علي دراسة المعطيات الظاهرة والمباشرة. وتأملها السطحي، دون هذا العلم كهندسة اجتماعية، تقدم »وصفات« ناجزة، وتحصر ترويج »بضاعتها« علي التعامل مع الوقائع والمعطيات العينية، دون اطار نظري يفسرها ويفصح عن دلالتها، عبر دراسات ميدانية يتم اجراؤها في اطار المجتمع المحلي، ماحدا بتحول علم الاجتماع الي دروس محلية ان جاز التعبير، اعتمادا علي استبيانات وبيانات احصائية، يمكن لنتائجها ان تأتي متضاربة في كل مرة يعاد فيها البحث، ما حول العديد من المشتغلين بهذه السوسيولوجيا الي »تجار تجزئة« لها. وثالث التوجهات التي رفضها عبدالمعطي هي السوسيولوجيا التأهلية، التي تقتصر علي النظر العقلي التأملي، ومن ثم فان قصاراها رسم حدود مجتمع تجريدي، لم يستوح دلالات مجتمع فعلي يسير وفق علاقاته التاريخية والاجتماعية، انطلاقا من مرجعية تيارات غربية بعينها، لا تمثل أكثر من استجابة اصحابها للتعاطف معها.
بعيدا، علي اية حال، عن هذه التوجهات، تتسع السوسيولوجيا النقدية لدي عبدلمعطي، لتشمل في اهابها موقفا من الواقع القائم ورغبة في تغييره.
وتصوراً ديمقراطياً وإنسانياً يغلِّب العام علي الخاص، والاجتماعي علي الفردي، ومع ذلك ورغمه يجوز القول إنه عبَّر عن هذه السوسيولوجيا بلغة عوّلت علي العرض التعليمي، ومن خلال محاولاته في تبسيط المصطلح، والاستدلال بالمقارنة والأمثلة المعاشة، وإيثار الوضوح والتحديد، ما جعل هذه اللغة تبدو بعيدة عن التأويل الذي يفتحها علي ثراء الدلالة، وما يتفجر فيها من طاقات إيحائية.
المنبج العلمي
ولا يكتمل حديث عبدالمعطي عن البحث الاجتماعي بالنظرية وحدها دون المنهج، باعتبار كليهما النظرية والمنهج، بمثابة المكوِّنين الأساسيين لهذا البحث، ولديه، فالمنهج العلمي يعد أساساً واحداً لكل العلوم، وأن تراوح بين منهج محافظ يعتمد في تحليلاته علي أساليب بحث تستند إلي البيانات والأرقام، ومنهج راديكالي يطلق العنان لخيال الباحث وقدرته الحدسية والإبداعية.
واختيار عبدالمعطي للمنهج الراديكالي حدا به إلي تجاوز كل ثنائية حدّية معطلة لاتساع إبداعية: المدخل الموضوعي مقابل المدخل الذاتي، المدخل الجزئي مقابل المدخل الكلي، المدخل الكمي مقابل المدخل الكيفي، والمدخل الاستكشافي مقابل المدخل المعياري، ومعها رفض ما يطلق عليه »تكامل« المداخل المنهجية، لما تشي به من توفيق وتسوية والتباس ربما قد ينتج عنه زحزحة دلالة البحث الاجتماعي وتلوينه بألوان متعددة، إن لم تكن متناقضة.
وينبه عبدالمعطي إلي أنه وبرغم اعتبار المنهج أساساً واحداً لكل العلوم، فاق أدواته وتقنياته تختلف تفصيلاتها طبقاً للظاهرة المدروسة، ويضرب مثالاً علي ذلك في إشارته إلي الملاحظة، فهي من ناحية تمثل خطوة أساسية في كل بحث علمي، طبيعي أو إنساني، لكن الاختلاف قائم بين العلوم في أدواتها، التي قد تكون »المنظار« في علم الفلك، أو »الاختبار النفسي« في الدرس السيكولوجي، أو »دليل الملاحظة« كما في علم الاجتماع.
المهم لدي عبدالمعطي، أن يتم التعامل مع البيانات، وصوغ أدوات جمعها، وسحب عيناتها، ومعالجة معطياتها الإحصائية، عبر تحليل بحث حر، لا مجال فيه لحدود مسيّجة بمعلومات متوفرة لمن يمتلك وسائل توظيفها لمقتضيات مصالح ضيقة، ولا لارتباطات سطحية بين ظواهر قد يتراءي أنها متماثلة في خلق ارتباط وهمي من المتغيرات.
علم اجتماع المستضعفين
ولهذا الفهم الذي استقر عليه عبدالمعطي لعلم الاجتماع، وترجمه في أعماله، وتراود معه تلامذته، لا يتردد غير باحث عن التوقف مباشرة قبالة صبوتين عاشهما وأحبّهما: القرية المصرية، والفقراء.. لماذا؟ لأنهما لديهما الكتلة الأساسية في مصر التي كابدت البؤس والفقر، حيث اتفق لهما ما
لم يتفق لغيرهما بنفس الدرجة، من امتداد تاريخي طويل، حكم توجهه ممارسة القمع والتعسف بازائهما.
لنعاين ذلك وهو يتحدث عن الفئات الفقيرة في ،القرية المصرية، حيث يراهم:
»المنتجون المباشرون الذين يعملون ساعات أكثر من غيرهم في ظروف القيظ وبرد الشتاء، ويغتنمون أي فرصة عمل تتاح لهم في الليل للري، وفي الفجر للحصاد، مفضلين العمل علي أي فرصة راحة خشية ألا يجدون من القوت ما يسدون به رمقهم، هم الذين لا يملكون إلا قوة عملهم التي تستنزف مع الأيام، ويبذلون فيها طاقة عضلية وذهنية ونفسية. هم نتاج أوضاع البنية الاجتماعية، التي تجبرهم علي التصرف بلا اختيارات حقيقية، ليلتقطوا ما هو متاح من فرص، لأنهم يفتقدون الشروط التي توسع دائرة اختياراتهم.. إنهم أصحاب القطع القزمية من الأرض، والعمال الأجراء ذكوراً وإناثاً وأطفالاً، ومنتجو بعض أدوات العمل وغيرها من السلع، ورغم
أنهم يعملون أكثر من غيرهم في الحقوق وفي الدور وفي الطرقات، فهم الذين يعيشون من أيديهم لأفواههم، مضطرون لقبول ما يسمح به الآخرون.. هم: العامل الأجير، والمرأة المعدمة العاملة التي تعمل داخل الدار وخارجها، والطفل الذي يعمل لدي ذويه أو لدي الآخرين..«.
علي أن معاينة عبدالمعطي لفقراء الفلاحين، لم تنسه مقاربة فقراء العمال، فقدم تشريحاً سوسيولوجياً للطبقة العاملة، ودرس التحولات التي طرأت عليها، واستوضح الصعوبات التي تواجهها، سواء علي مستوي بنيتها المفتتة بين المجالات الصناعية أو الحرفية أو الخدمية، أو فاعليتها المفتقدة بسبب من التشريعات المقيدة لحركتها، أو الظروف القاسية لواقعها اليومي.
سكة جديدة
وجاء زمن مصري مختلف مع صخب الثمانينات وماتلاها، حين ازداد فوران وتشابك القضايا والمشكلات (تصاعد التيارات السلفية، تدني مستويات العيش لدي الأغلبية مقابل مظاهر للاستهلاك الترفي ماهيأ للاحتقان والسلوك العنيف، هدر الموارد، تلوث البيئة رشح الابداعية، ضعف المشاركة السياسية وتمكين المرأة والتطوير التكنولوجي، تزايد العشوائيات، تنامي احياء البنية التقليدية في الحياة الاجتماعية، تسطيح العملية التعليمية، استفحال البطالة، تقييد فعاليات المجتمع المدني...).
وزاد في الوطأة، تزايد التشكيك في قدرة علم الاجتماع، والتهوين من قيمة منجزاته، لدرجة أضحي فيها إلي »المتخصص المشوش« وفق التعبير الذي أطلق عليه الفيلسوف الألماني ماكس هوركايمر في ثلاثينات القرن الماضي، وتزامن هذا التشكيك، مع تصاعد وتيرات تشكيل عالم جديد، وتزايد فتح رأس المال لبقية أجزاء العالم، وارتباط العولمة وطفرتها التكنولوجية بظهور مساحات جديدة للمعرفة المفتوحة والمتدفقة، ما أدي إلي تآكل المعايير العلمية لنشاط هذا العلم الأكاديمي، وأصطباغها علي نحو متزايد بالبيروقراطية والسوق، وتزايد الانقسام في فروعه، مع اتساع النطاق المهني للمشتغلين به، لدرجة أضحت فيه هذه الفروع أشبه »بالطوائف« العلمية، اضافة إلي التباين الذي تزايد وضوحه لدي مشتغليه بين دور الخبير ودور الباحث، برغم ماتشي به النظرة السطحية من توسع نظاقه، وخروجه من الساحة الأكاديمية إلي عالم الجماهير الأوسع، عبر بحوث الاتسطلاع ودراسة الاتجاهات، الموجهة لأغراض دعائية أو اعلانية أو سياسية.
وبدا حصار الواقع العربي وانظمته مواربا ومتواصلا لتهميش الدرس الوسيولوجي العربي، مع تشوه البني الاجتماعية، وتراجع المد الثوري والقومي، وفشل السياسات القطرية، وهيمنة المتروبول والفتوي المحلية المرتبطة به - وكان طبيعيا أن يترك هذا الوهن بصماته علي فعاليات مؤسساته الأكاديمية، ومعها الجمعية العربية لعلم الاجتماع، حيث بدا حلم مؤسسيها يشحب علي المدي، مع عجز المشروع العربي سياسيا عن تجاوز الدولة القطرية، وعدم قطعه اجتماعيا مع اجتماع الأدب في مجلة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بتوقيع (عبدالباسط محمد).
وقيمة هذه الدراسة أنها ظهرت في وقت كثرت فيه التحفظات حول صلاحية علم الاجتماع، بمناهجه وأدواته التصورية وأطره الفكرية، لدراسة الإبداع التخييلي، من منطلق أن هذا العلم موجه، فحسب، لدراسة الواقع العياني.
وقد أكد »عبدالباسط محمد« في هذه الدراسة علي دور الأدب كفعالية إنسانية في تطوير الواقع، ومساعدة مبحث علم اجتماع الأدب علي اكتشاف علاقة صيغ التعبير الأدبي بالمتغيرات الاجتماعية، وتوسيع مفهوم الواقعة الأدبية لتشمل المتلقين، وإضاءة ميادينها النقدية والتاريخية والمقارنة، واستيضاح المشكلة »الزمنة« حول العلاقة بين شكل العمل الأدبي ومضمونه، ومضاعفة راقات الأدب ليشمل الأدب الشعبي بدلالاته الثقافية والاجتماعية والسياسية.
وقادته دراسة الإبداع الأدبي، إلي مجال آخر من الإبداع، هو الإبداع المجتمعي أو الإبداع اليومي إبداع البسطاء والفقراء والمستضعفين في تحايلهم علي »المعايش«. ويلاحظ عبدالمعطي أن هذا النمط من الابداع لم يألفه كثيرون، لأنهم يقصرون مفهوم الابداع علي الأعمال المبتكرة التي تتميز بتفردها، ويرون فيها نشاطا أدبيا أو فنيا لفرد واحد لا يتجاوز سواه. أما ابداع الجماعة ذو الصلة بالواقع المادي وبالحياة اليومية، فغالبا ما تم اغفاله تحت تأثير هذا الفهم القاصر، برغم توافر كافة سمات الابداعية فيه من جده واردة ومغزي، كنشاط اجتماعي موجه ومقصود، يعبر عن الخبرة التاريخية لجماعة الفقراء، بما يجعلها ترشد أوضاعها المعيشية عبر مواجهتها المستمرة لمشكلات الحياة اليومية، بواسطة ايجاد حلول جديدة ومبتكرة لها، قصد تحسين فرص حياتها.
وفي هذا الصدد، قدم عبدالمعطي دراسة فاتنة عن ابداع النخلة. ويواجهنا هنا سؤال ماثل: وهل لهذه الشجرة ابداع؟ ان كل ما تحويه وتتضمنه يوحي بالابداع. هكذا يجيب عبدالمعطي، ويدلل علي ذلك بأن ثمرها يؤكل رطبا ويابسا، وهو غذاء ودواء وقوت وحلوي وشراب وفاكهة، ناهينا عن أن جذوعها تستخدم للبناء والآلات والأواني، ويتخذ من خوصها الحصر، ومن ليفها الحبال والحشايا، ومن نواها علفا للابل، ومادة للأدوية والزينة. ثم انها في المعتقد الشعبي الريفي يشبه بها الرجل المؤمن، وهي الشجرة التي حن جذعها الي الرسول حين فارقه شوقا الي قربه، وهي التي نزلت تحتها العذراء مريم حين ولدت عيسي، ويتماثل معها الشاب حين يزهو كالنخلة، وأن الله سبحانه خلق آدم وجواره نخلة، ناهينا عن معتقدات أخري حول فائدتها في الانجاب، وتأخر الحمل، والمشاهرة، والمرأة المرضعة، والرجل العنين، والنفساء، وعلاج الخضة والشفاء من السموم.
وقاده ابداع النخلة الي ابداع من نوع آخر، يشير اليه التدين الشعبي في القرية المصرية، كحالة ابداعية تحوي منظومة متنوعة الأًول ما بين الديني والاعتقادي والبراجماتي، شكلتها معتقدات ومعارف شعبية، وجسدتها عادات وتقاليد، و عبرت عنها آداب وفنون سرت في حياة جماعة الفلاحين، ومثلت مستودعا لمشاعرها وإدراكاتها واحتياجاتها، وركزت علي الاعتقاد في الأولياء والإيمان بتوهج الدلالات فوق الطبيعية، وهذه المنظومة تستهدف تحقيق توازن جماعتها، واكتشاف معني ما لعالمها الرمزي، وتأكيد هويتها، وقدرتها علي التلاؤم مع متغيرات العصر، وتوارث شحنة اعتقادية تقيها من الضربات النافذة المحتملة.
وعلي ما يضمره درس عبدالمعطي السوسيولوجي من دلالات، فإنه يظل قابلاً لمداومة قراءته، كحصيلة مسار خصب امتد إلي قرابة عقود أربعة، ما يجيز القول إن هذا الدرس يمتلك القدرة علي توليد مناوبات من الاجتهاد حوله، وإضفاء طابع مضاعفة وتوسيع حقل الاشتغال علي إنجازه، باعتباره إحدي علامات الكتابة التي لا تساوم، وسلام عليك يا »أبوشريف«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.