في القلب من الحركة الفكرية العربية المعاصرة, مثلث أعمال نصر حامد أبوزيد أحد الصروح النظرية الفاعلة التي تتميز بقوة التأسيس وتجاوز القيود, في محاولتها احداث وعي علمي بالتراث الديني وتأكيد تاريخية النص المقدس من خلال نقده لتراث علوم القرآن, وتقديمه التأويل كوسيلة مثلي للمحافظة علي انفتاح النص من جهة, ودرء تعارضه مع البرهان من جهة أخري, وكلها أطروحات ساهمت في بناء كفاءة التعقل والتنظير في مجال الفكر العربي الإسلامي المعاصر. قراءة جديدة وفي كتابه الخطاب والتأويل يطمح أبوزيد الي قراءة علاقة المثقف مع السلطة في بعدها الخطابي, أي ابراز مدي علاقة خطاب المثقف المتكئ الي تراثه التنويري مع السلطة المركزة علي التراث نفسه, وهو مابدأه قبلا في كتابه مفهوم النص, والذي اثار عليه اشكالات فكرية كبيرة انتهت لتكفيره, حين طرح فيه رؤيته للنص المقدس كمنتج ثقافي, تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد علي العشرين عاما ورؤيته للتطور الفكري خلال التاريخ العربي, معتمدا بشكل رئيسي علي ثنائية العقل والنقد, اذ يري ان العقل العربي المعاصر هو سليل الارث الذي رسخه الغزالي في رفضه لمفهوم السببية, وفي تهميشه للعقل علي حساب النقل, أما ابن رشد, فإن حضوره خلال هذا التاريخ فبقي هامشيا ومعزولا, بعد أن احتل الغزالي في القرن الخامس الهجري مركز هذه الثقافة.. وبين المركز والهامش, دار صراع انتهي بطرد الهامش خارج الحدود الي الغرب, وينتقل أبوزيد بعد ذلك للبحث في أسباب فشل خطاب التنوير منذ الطهطاوي ويرجع ذلك الي عجز هذا الخطاب, والهزال الذي أصاب المشروع النهضوي تدريجيا بحكم تطور العلاقات السياسية العربية الأوروبية من جهة وتطور علاقة المثقف العربي بمشروعات التحديث التي تبنتها السلطات السياسية من جهة أخري, ومن خلال ذلك درس أبوزيد عمليات المحاكمة الفكرية التي خضع لها كل من علي عبد الرازق وطه حسين وزكي نجيب محمود, والتي تنعكس ارتدادا واضحا باتجاه المواقع الخلفية, من خلال تراجع علي عبد الرازق وخوفه من اعادة طبع كتابه, وتغيير زكي نجيب محمود لعنوان كتابه من خرافة الميتافيزقيا الي موقف من الميتافيزيقيا. نحو منظور تأويل وقد آثار خطاب أبوزيد في تأوليه سجالا حادا وصل الي ادانة صاحبه واتهامه بالمروق والردة, ربما لأن التأويل كفعل منطقي لم يكتسب شرعيته الي الآن في فكرنا المعاصر, حيث يوصف عادة من قبل خصومه علي أنه جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية, ودخول في اثبات عقائد وضلالات, أو علي الأقل حينما يزاول بين المقبول والمذموم في التأويل, واشترطوا عدم الخروج عن أصول الشرعية والعقيدة, عبر ضوابط ومعايير أوردها علماء أصول الفقه, ولدي أبوزيد, يعني التأويل تمثل الدلالات الكاشفة والمشتركة بين أسئلة الحاضر ومعطيات النص, عن طريق تجاوز منطوقه الظاهري, والالتفات الي كثافة معناه, والمفاضلة بين وجوه احتمالاته, ويضيف أبوزيد ان الطبيعة الشمولية للنص من جهة تعددية آفاق المخاطبين, هي التي تجعل التأويل المجازي ضرورة.. من هنا ينطلق المنظور التأويلي لدي أبوزيد من أساسيات بعينها, يقف علي رأسها جمعه بين المذهبيات الحديثة والمكتسبات التراثية للاجتهاد لدي الزركشي والسيوطي والزمخشري وعبد القاهر الجرجاني, اضافة الي عدم تصنعه التأويل كسبيل يفر به من غايات بعينها, بل رفض ضبط بنائه المعرفي, امتدادا لاجتهادات سبقته عن جيل الرواد( طه حسين, علي عبد الرازق, أمين الخولي, محمد أحمد خلف الله..), والجيل اللاحق( محمد الركون, أدونيس, الطيب تيزين محمود إسماعيل, خليل عبد الكريم..), والتي استهدفت تفحص بدايات تكون الفكر العربي والاسلامي, وما أنتجها من علوم ومن فقه. وقد مهد أبوزيد لذلك بدراسات حول اشكاليات القراءة وآليات التأويل, بهدف الكشف عن الجذور المعرفية الأساسية لآليات الفهم والتأويل في التراث. ويقوم المنظور التأويلي عند أبوزيد علي قاعدة تحرك النص من الداخل الي الخارج, اي التعامل مع النص, ليس باعتباره أحادي المعني والدلالة والوجه بل بوصفه متعدد الاوجه, بما يعني بابتعاده عن الحصر والتقييد واستعصت علي محاولات القولية والاحتواء.. ويتحدد هذا المنظور لديه في خطوتين متلازمتين ومتداخلتين: أولاهما, الكشف عن معاني النص بتحليله من الداخل, ورصد طاقاته الرمزية وتركيبته المجازية, بواسطة التعرف علي قواعد اشتغاله وآليات تشكيله وطريقته في انتاج الدلالة, وثانيها, الانتقال منها الي دلالتها المجازية أو مغزاها الاجتماعي السياسي في الواقع, ومدي تفاعلها سلبا أو إيجابيا, ذلك أن الكشف عن دلالة النص لايمكن ان يتأتي من دون السياق الاجتماعي والثقافي, وليس من خلال الملفوظ المنطوق وحده. ونقطة البداية في قراءة أبوزيد التأويلة للخطاب الديني, هي تفرقته بين الدين والفكر الديني, فالدين لديه هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا, في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات لفهم هذه النصوص واستخراج دلالاتها. ومنطلق أبوزيد في قراراته وتحليله للنص الديني يحتاج من هذا المنظور, بما هو خطاب الذي تجسد في اللغة الانسانية بكل اشكاليات, سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي, الي مقاربة أسباب النزول وتشكيل البنية اللغوية. وتأسيسا علي هذا المنهج في تحليل القرآن, ينتقل أبوزيد الي تحليل نصوص الفكر الديني القديم والحديث, مستنتجا ان الشافعي أسس الوسطية في مجال الفقه والشريعة, وأسس الاشعري الوسطية في مجال العقيدة, امل الغزالي فقد أسسها في مجال الفكر والفلسفة, استنادا الي تأسيس كل من الشافعي والأشعري, فيما حركت الفكر الحديث تدور حول التوثيق بين الاسلام والحضارة الغربية, وهو ما يتضح لديه عند الطهطاوي أو جمال الدين الأفغاني أو محمد عبده أو طه حسين أو زكي نجيب محمود أو خالد محمد خالد أو حسن حنفي, علي فروق بينهم في الدرجة. وبهذا التوجه, رفض أبوزيد الخطاب الوصلي المعاصر, لتوقفه عند الملفوظ المنطوق للنص, وعجزه عن فهم سياقه الاجتماعي الثقافي, وكذلك رفض القرارات الأيديولوجية, مصطفي محمود, محمد عيتاني, أحمد شحرور, وتلك التي تحوله الي اطار فكري جامد, أو منظومة عقائدية كسرية ومغفلة, حين تكتفي غالبا بالقراءات المباشرة, دون التوسط بتحليل مركز يتبع التفاصيل. ما أشبه الليلة بالبارحة ومنذ قرابة القرن, قدم كاتب أزهري أسمه محمد أبوزيد مجموعة من الكتب, بينها كتاب في التفسير بعنوان( الهداية والعرفان), تمت مصادرته وقت صدوره وقدم صاحبه الي المحاكمة سنة1917 لأنه ذكر فيه أن آدم ليس نبيا ولا رسولا بنص قطعي وانما نبوته ورسالته ظنية, فكان هذا مبررا ليرفع البعض شأنه للقضاء, طالبين التفرقة بينه وبين زوجته بتهمة الردة.. واستجابت المحكمة الابتدائية للأحوال الشخصية بمدينة دمنهور, وحكمت بالتفريق بين المدعي عليه وزوجته, ولكن محكمة الاستئناف بالاسكندرية حكمت برفض الدعوي ونقض الحكم ضد محمد أبوزيد يوم أول ديسمبر1918 وهكذا استطاع ان يواصل عمله, فاصدر تفسيره المشار اليه بعنوان( الهداية والعرفان في تفسير القرآن) سنة1930 مما أثار عليه غضب القصر الملكي واعترض محمد رشيد رضا, الذي أتهمه بالكفر والمروق عن الدين, فتشكلت لجنة من الأزهر قررت مصادرة الكتاب, لكن اللافت للانتباه أن رشيد رضا في اتهامه لصاحب الكتاب بالكفر زعم أنه سرق أفكاره المتضمنة في الكتاب من محمد عبده. وبين محمد أبوزيد القرن الماضي, ونصر أبوزيد القرن الحالي, ظلت خارطة المشهد الثقافي العربي المعاصر في المجمل, ممهورة بالاسباغ المقتن لطبائع الاستبداد ودعوي السلفية الظلامية.. من أجل هذا كله, تظل الحاجة موصولة الي اعادة تأمل المتن الحي الذي خلفه نصر حامد أبوزيد, ووضعه علي محك كشف علاماته وإيحاءاته.