فى الوقت الذى فيه كان المصريون كلهم يتابعون أخبار قضية اغتيال «أمين باشا عثمان»، تلك القضية التى ملأت الدنيا وشغلت الناس، كان المتهمون فى هذه القضية يمارسون حياتهم بشكل عادى جدا داخل الزنازين، كان الأمر قد استتب تماما لهم، وكان الوقت يطول، فلا هم يقدمون للمحكمة لتفصل فى أمرهم، ولا التحقيقات تريد أن تنتهى، ولما أيقنوا أن قطار الزمن سوف يتوقف بهم طويلا فى هذه المحطة، قرروا أن يملأوا حياتهم بكل ما تُملأ به حيوات الناس . كان اليوزباشى «محمد أنور السادات» أكبرهم سنا، وأكثرهم معرفة بأحوال البلاد والعباد، وأقدرهم على وضع الخطط الاستراتيجية التى من شأنها أن تجعل أيامهم فى المعتقل محتملة، لذلك قرر فى الثالث من يوليو عام 1946، عقد اجتماع للجنة المركزية لفرقة اغتيال «أمين باشا عثمان»، وكان الاجتماع فى بهو العنبر، وخلال هذا الاجتماع، اتفق اللفيف الملتف من السادة النزلاء على بعض النقاط التى تعتبر دستورا يحكم حياتهم طوال فترة الاعتقال، وكان من أبرز بنود هذا الدستور: اولا توزيع جميع المأكولات والحلويات التى تأتى لأى واحد منهم، على الجميع بالتساوى، فمن غير المعقول أن يأكل أحدهم جاتوها، لمجرد أن أهله الأغنياء أتوا له به فى الزيارة، وكون أهله أغنياء، مجرد صدفة اجتماعية غير مبررة على الإطلاق، فى حين أن رفيقا ثانيا أتى له أهله، غير الأغنياء، بساندويتشات فول وطعمية، بينما رفيق ثالث لم يأت له أحد بشيء على الإطلاق، ولما كان الأكل هو المتعة الكبرى للمعتقلين، فقد كان من الضرورى وضع حد لهذه المهزلة المتكررة إثر كل زيارة، الأمر الذى من شأنه أن يخلق نوعا من الحسد والغيرة، ليس وقتهما الآن. ثانيا كتابة مذكرة شديدة اللهجة لإدارة السجن، للسماح لهم باستجلات شطرنج وكوتشينة، فبين المعتقلين حريفة فى هاتين اللعبتين، وانقطاعهم عن ممارستهما، سيجعل منهم، مع مرور الوقت، غير حريفة. ثالثا على كل من يرى امرأة فاتنة فى شباك سجن النساء، أن يخطر بقية الرفاق ليستمتعوا بمشاهدتها، فإن سارعت بترك الشباك، يتعهد الزميل الذى رأى، بوصف ما رآه، ويسترسل فى الوصف استرسالا يجعل المستمع كأنه يرى، مع التنبيه على المسترسل أن يكون مهذبا، ولا يتطرق لذكر ما لا ينبغى ذكره من أشياء قليلة الأدب، وفى الحالات كلها، الغزل ممنوع تماما، وإنما ينبغى الاكتفاء بمصمصة الشفاة. رابعا إصدار مجلتين أسبوعيتين، لمواكبة الأحداث كلها، على أن تكونا ديمقراطيتين، وتسمحان بالانتقاد، لاذعا كان أم غير لاذع، موجها للمعتقلين أم لإدارة السجن، مع التعهد بعدم قصف أى قلم، وفتح الباب على مصراعيه للحرية الكاملة. البنود كلها مرت بسلام، أما البند الرابع فقد أقام الدنيا ولم يقعدها، فقد اتضح أن الجميع صحفيون وكتاب وأصحاب رأى، وبدأ الشجار على منصب رئيس التحرير، واحتاج الأمر لجلسات وجلسات حتى تم اختيار السيد «وسيم خالد» لرئاسة تحرير مجلة (الهنكرة والمنكرة)، والسيد «محجوب الجابرى» لرئاسة تحرير مجلة (ذات التاج)، وبدأ كل منهما يمارس صلاحياته كرئيس تحرير منتخب، وكان من أهم هذه الصلاحيات، هو اختيار الكتاب الذين سيكونون هم عماد المجلة، وسيجعلون القراء يقبلون على قراءتها، وهنا ظهر أول صراع بين رئيسى التحرير على الكاتب الحاذق «عمر حسين أبو على». فى السادس عشر من يوليو، كان «السادات» قد استسلم للنوم بعد إرهاق يوم شديد، عندما أيقظه الرفيق المناضل «نجيب حسين فخرى»، ليفض شجارا دمويا بين رئيسى التحرير المنتخبين، وعندما دخل عليهما وجدهما يكيلان لبعضهما اللكمات والصفعات، وقد استطاع بحكمته المعهودة أن يهدئهما، ويجلسهما متواجهين، وكان الكاتب الحاذق «عمر حسين أبو على» هو سبب هذا الشجار الدموى، فكل منهما يريد استقطابه لجريدته، فأسلوبه خلاب، ولغته جذابة، إلى جانب أن كلماته لها وقع موسيقى، وتوجد بها قواف مؤثرة، نظر «السادات» إلى الكاتب الحاذق، فوجده نائما على ظهره، واضعا ساقه اليسرى على ساقه اليمنى، وغير مهتم بهذا الشجار على الإطلاق، كان يمارس نجوميته وهو يشاهد أكبر رئيسين للتحرير فى المعتقل كله يتشاجران من أجل قلمه المبهر، حينها، أصدر «السادات» حكمه الفصل فى هذه القضية، مقررا أن من يدفع مكافأة أكبر من الآخر، يحق له استكتاب الكاتب ذى القوافى المؤثرة، عندها، أنزل الكاتب الحاذق قدمه اليسرى من على قدمه اليمنى، وجلس على قرافيصه، فى انتظار تحديد الأجر، وقد كاد قلبه ينط من الفرح عندما هوى السيد «وسيم خالد» رئيس تحرير مجلة (الهنكرة والمنكرة) بالضربة القاضية، معلنا أنه سيمنح الكاتب العظيم أعلى أجر يمكن أن يناله كاتب، وهو عدد أربع سجائر للمقالة الواحدة، أسقط فى يد الجميع، فقد كان الأجر المتفق عليه حسب لوائح المجلتين هو سيجارة كاملة، وهو نفس أجر القصيدة الموزونة، والكاريكاتير الفاضح، الأمر الذى فتح شهية «عمر حسين أبو على» للكتابة، فأمسك بالقلم، وراح يفكر فى الأفكار العميقة. الأيام التى استغرقتها هيئتا تحرير المجلتين فى الإعداد لصدور العدد الأول لكل منهما، كانت من أكثر الأيام التى مرت على المعتقلين صعوبة، فقد بلغ الصراع بينهما مداه، واتضح أن ثمة من يتواطأ على الطرفين معا، بل تم اكتشاف جواسيس ينقلون الأخبار الحرّاقة والتى تمثل سبقا صحفيا من (الهنكرة والمنكرة) إلى (ذات التاج)، وبالعكس، الأمر الذى نتج عنه كثير من الصفعات واللكاكيم والبونيات، بل تم تحرير محاضر داخلية فى إدارة السجن، مما جعل المعتقلين أنفسهم يهتمون بهذه القضايا الداخلية أكثر من اهتمامهم بقضيتهم الأساسية، مقتل «أمين باشا عثمان» التى كان من الممكن أن يكون حبل المشنقة هو عقوبتها، وقد وصل الأمر لدرجة أن أصدرت هيئة تحرير (الهنكرة والمنكرة) بيانا سياسيا لاذعا، اتهمت فيه السيد (محجوب الجابري) رئيس تحرير المجلة المنافسة (ذات تاج) بأنه خائن وعميل وانتهازى ووصولى، وقد شوهد أكثر من مرة بصحبة الضابط النوبتجى فى خلوة، ينقل له فيها أدق أسرار الزنازين، بينما السيد «وسيم خالد» رئيس تحرير (الهنكرة والمنكرة) ذو نسب عريق، حيث انه من سلالة «خالد بن الوليد»، أما من حيث الدعاية والإعلان، فقد كانت طوابير هيئة تحرير مجلة (الهنكرة والمنكرة) تدور حول العنابر، معلنة عن قرب صدور العدد الأول، وكان أفراد هيئة التحرير بارعين فى استحداث الآلات الموسيقية التى يعزفون عليها فى طوابيرهم، حيث أمسك «سعد الدين كامل» بطبلة مصنوعة من الورق المقوى الملفوف على كوز الماء الصاج، بينما أمسك «مدحت فخرى» مندولين مصنوعا من أساتك الكلاسين المشدودة على علبة السمن الصفيحية، وكانوا يغنون ويطبلون ويهللون، لكن هيئة تحرير مجلة (ذات التاج) التى كانت تتميز بالهدوء والبعد عن البروباجندا الفارغة، قررت أن ترد ردا هادئا، فاكتفى رئيس تحريرها السيد «محجوب الجابرى» بكتابة قصيدة زجلية لاذعة، أنهاها قائلا: يا عوازل موتوا من ناركم أهى ذات التاج طالعة لكم. وصدر العدد الأول من المجلتين، وعلقتا على الحوائط متقابلتين، وكان القراء يتزاحمون على قراءتهما، وكانت مقالات اليوزباشى «محمد أنور السادات» تحظى بنسبة كبيرة من القراءة، وربما نافست مقالات الكاتب الحاذق «عمر حسين أبو على»، الذى يحصل على أعلى أجر، بينما «السادات» لا يحصل إلا على سيجارة واحدة. بعد قيام ثورة يوليو، كان «جمال عبدالناصر» يتعافى من جراحة الزائدة الدودية التى أجراها فى مستشفى الدكتور «مظهر عاشور»، عندما زاره «السادات» حاملا «بوكيه ورد»، كان ذلك فى الرابع من يوليو عام 1953، وقد كلفه «عبدالناصر» فى هذه الزيارة بالإشراف على إصدار أول جريدة تصدرها الثورة لتكون لسان حالها، فهو صاحب خبرة طويلة فى دار الهلال، بالإضافة إلى إتقانه للغة العربية، فاستأجر «السادات» شقتين متقابلتين فى الطابق الخامس من العقار رقم 36 فى شارع شريف، كمقر مؤقت تصدر منه الجريدة.