نقابة الصحفيين المصرية تصدر قرارا بمنع بلوجر من دخول النقابة.    حزب مصر أكتوبر: تأسيس تحالف اتحاد القبائل العربية يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في سيناء    محافظ مطروح يناقش استعدادات الاشتراك في المبادرة الرئاسية للمشروعات الخضراء الذكية    تراجع جديد لسعر الدولار في البنوك خلال التعاملات المسائية    عاجل| الحكومة تزف بشرى سارة للمصريين بشأن أسعار السلع    مصر للمقاصة تفوز بجائزة أفضل شركة للمقاصة في الوطن العربي    البيت الأبيض: احتمال تغيير سياستنا في حال اقتحام رفح الفلسطينية دون تأمين المدنيين    «بلومبرج»: «تركيا تعلّق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل»    كوريا الجنوبية ترفع حالة التأهب القصوى في السفارات.. هجوم محتمل من جارتها الشمالية    تردد قناة توم وجيري الجديد 2024 Tom and Jerry لمشاهدة حلقات توم وجيري الكوميدية    "برنامج علاجي لتجهيزه".. الأهلي يكشف حجم إصابة أحمد عبدالقادر    «أكثر لاعب أناني».. مدرب ليفربول السابق يهاجم محمد صلاح    ظاهرة جوية تضرب البلاد خلال ال72 ساعة المقبلة.. 10 نصائح للتعامل معها    6 مصابين جراء مشاجرة عنيفة على ري أرض زراعية بسوهاج    مواعيد قطارات مطروح وفق جداول التشغيل.. الروسي المكيف    أحمد السقا عن مشهد الرمال بفيلم السرب لفاطمة مصطفى: كنت تحت الأرض 4 ساعات    ارسم حلمك ب«الكارتون».. عروض وورش مجانية للأطفال برعاية «نادي سينما الطفل»    ندوة توعوية بمستشفى العجمي ضمن الحملة القومية لأمراض القلب    «مايلستون» تنطلق بأول مشروعاتها في السوق المصري باستثمارات 6 مليارات جنيه    الصلاة والقراءات الدينية والتأمل في معاني القيامة والخلاص أبرز أحداث خميس العهد    بالصور.. كواليس حلقة "مانشيت" من داخل معرض أبوظبي الدولي للكتاب غدًا    "بسبب الصرف الصحي".. غلق شارع 79 عند تقاطعه مع شارعي 9 و10 بالمعادى    الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة فرضت عقوبات ضد 280 كيانا روسيا    تجديد حبس عنصر إجرامي بحوزته 30 قنبلة يدوية بأسوان 15 يوما    تراجع مشاهد التدخين والمخدرات بدراما رمضان    وزيرة البيئة تنعى رئيس لجنة الطاقة والبيئة والقوى العاملة بمجلس الشيوخ    برلماني سوري: بلادنا فقدت الكثير من مواردها وهي بحاجة لدعم المنظمات الدولية    نادي الأسير الفلسطيني يعلن استشهاد معتقلين اثنين من غزة بسجون الاحتلال    رسائل تهنئة عيد القيامة المجيد 2024 للأحباب والأصدقاء    النجمة آمال ماهر في حفل فني كبير "غدًا" من مدينة جدة على "MBC مصر"    الفائزون بجائزة الشيخ زايد للكتاب يهدون الجمهور بعض من إبداعاتهم الأدبية    توقعات برج الميزان في مايو 2024: يجيد العمل تحت ضغط ويحصل على ترقية    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية في الطور    ما هو حكم قراءة الفاتحة خلف الإمام وكيفية القراءة؟    إمام الحسين: كبار السن يلاقون معاملة تليق بهم في مصر    بينها إجازة عيد العمال 2024 وشم النسيم.. قائمة الإجازات الرسمية لشهر مايو    الخطيب يُطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة أفشة    لحظة انهيار سقف مسجد بالسعودية بسبب الأمطار الغزيرة (فيديو)    الأمم المتحدة: أكثر من 230 ألف شخص تضرروا من فيضانات بوروندي    القناطر الخيرية تستعد لاستقبال المواطنين في شم النسيم    أذكار بعد الصلاة.. 1500 حسنه في ميزان المسلم بعد كل فريضة    الفندق المسكون يكشف عن أول ألغازه في «البيت بيتي 2»    رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع ممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية تعمل في مصر    انتبه.. 5 أشخاص لا يجوز إعطاؤهم من زكاة المال| تعرف عليهم    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي الثاني للطب الطبيعي والتأهيلي وعلاج الروماتيزم    فقدت ابنها بسبب لقاح أسترازينيكا.. أم ملكوم تروي تجربتها مع اللقاح    الرعاية الصحية تطلق حملة توعوية حول ضعف عضلة القلب فى 13 محافظة    جرثومة المعدة.. إليك أفضل الطرق الطبيعية والفعالة للعلاج    شراكة استراتيجية بين "كونتكت وأوراكل" لتعزيز نجاح الأعمال وتقديم خدمات متميزة للعملاء    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    الأهلي يجهز ياسر إبراهيم لتعويض غياب ربيعة أمام الجونة    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    تحديد أول الراحلين عن صفوف برشلونة    كريم بنزيما يغادر إلى ريال مدريد لهذا السبب (تفاصيل)    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثون شهرا فى السجن
نشر في محيط يوم 10 - 05 - 2014

خلف القضبان وفي ساحة محكمة الجنايات وبعد عامين وستة أشهر وتسعة عشر يوما علي حادث اغتيال أمين عثمان باشا كان من بين المتهمين الذين قدموا لسماع الحكم عليهم المتهم محمد أنور السادات متميزا في الصور التاريخية بأناقته البالغة داخل الجاكتة الشاركسكين البيضاء والكرافتة السادة اللامعة والشارب المشذب بعناية بعرض ابتسامته الناصعة البياض..
ومثل تلك الأناقة تبدت طوال فترة نظر القضية في لقطات المشاوير ما بين السجن ومحكمة الجنايات حيث كان موكب المتهمين يمر بطول شارع محمد علي داخل عربة لوري مفتوحة وفي المقدمة الشاب الأسمر الأنيق بالبدلة الكاملة والكرافتة الرفيعة بربطة غاية في الدقة موضة سنة1948.. وكان حادث الاغتيال قد وقع في مساء الخامس من يناير1946 وبلغ فيه عدد شهود الإثبات12 شاهدا بينهم مصطفي النحاس باشا والنائب العام عبدالرحمن الطويل باشا وأربعة من ضباط البوليس، ووكيل نيابة وسيدتان.. أما شهود النفي فبلغ عددهم10 من بينهم من رئيسا الوزراء علي ماهر وحسين سري مع حسين هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ ووزيران سابقان ووكيل وزارة ومستشار سابق بمحكمة النقض والإبرام، وصحفي وضابط بوليس.. وقد استغرق نظر القضية84 جلسة، وبلغت صفحات التحقيق1580 صفحة، وترافع عن المتهمين35 محاميا من مختلف الأحزاب، وصدر الحكم بإدانة14 متهما من الستة والعشرين وتبرئة أحد عشر من بينهم اليوزباشي الأنيق محمد أنور السادات أكبر المتهمين عمرا وأكثرهم ثقافة وتجربة.
أناقة السادات سمعت عنها بالتفصيل من سويلم الترزي الخصوصي له صاحب المحل الشهير في أول شارع عبدالخالق ثروت المتفرع من سليمان باشا.. من أنه كان يقوم بشكل دوري بتفصيل جميع ملابس السادات للمناسبات العامة والخاصة من أول الأطقم الكاجوال والسفاري والبليزرات وبدل الاستقبالات الرسمية التي يفضلها مع الكرافتة المنقطة، وكثيرا ما اختارها من القماش الكاروهات الاسكوتش الإنجليزي، أو المقلم بأقلام فاتحة وكان يفصل له البيجامات والأرواب المنزلية، إلي جانب العباءات الحريرية والصوفية المطرزة والجلاليب البلدية المطورة في حردة الرقبة لجلسات المصطبة المسترخية التي يدلي فيها بأحاديث ذات شجون مستعرضا الأماني والإنجازات والهموم للمذيعة همت مصطفي في بلدته بالمنوفية ميت أبوالكوم..
ولقد كان أكثر ما شعر به السادات من مرارة وإحباط في سجن مصر عام1946 تركه لمدة ثلاثة أيام ببذلته دون غيار أو صابونة اغتسال.. وبعد خروجه من السجن في عام1948 ذهب يتواري في بنسيون رخيص في حلوان حيث نفدت نقوده ليفاجأ بزيارة الصديق القديم زميل معتقل الزيتون حسن عزت الذي لاحظ هبوط معدل أناقته إلي الحضيض بعد أن بلي نسيج البنطلون الرمادي الوحيد من الخلف، وغدا بياض الجاكيت الشاركسكين اليتيم مكللا بسواد الزمان والمكان، فذهب يفصل له بذلتين ويشتري له عدة قمصان، وعندما أعجب السادات باختراع الجوارب السوكيت التي ترتدي بسهولة وبدون حمالات، أي أستيك منه فيه، وكانت قد انتشرت في الأسواق في فترة سجنه قام الصديق حسن بشراء أربعة أزواج له اختارها السادات زوجين كحلي وزوجين من ا للون الأسود الذي يفضله مع الأبيض ليصنع جمال التضاد..
ولأنه أنور السادات كان ما قرأته عنه سجينا وبخط يده من يوميات كتبها علي مدي30 شهرا داخل سجن الأجانب وسجن مصر بمثابة تاريخ وإعادة اكتشاف.. تاريخا وليس تأريخا لمن عبر وأعاد الأرض وقام بالزيارة الصدمة التي استغرقتها الطائرة في أقل من أربعين دقيقة من مطار أبوصير في القناة إلي مطار اللد ليستقل السيارة مع كارتزير رئيس إسرائيل الأستاذ الجامعي ويصل للقدس ضيفا علي فندق الملك داوود ويردد مع خيوط الفجر في صلاة العيد بالمسجد الأقصي: «صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده»، ونادي بحقوق الفلسطينيين داخل الكنيست في خطاب أعده له موسي صبري... من فتح القناة بعد إغلاقها ثماني سنوات، والتي قال إنها بعد افتتاحها قد أثبتت أنها LuckyStrike، وانفتح بسياسة نقضها البعض لينقدها البعض، وتوسع يغزو الصحراء بمدن كفراوية جديدة، وأذن بدفن الملك فاروق في وطنه بمسجد الرفاعي تلبية لرغبة الأميرة فريال ليكون مع رفات أجداده من بعد أن دفن أولا في مسجد الشافعي، وأراد أن يواري سوأة عشرات المومياوات الفرعونية في موكب جنائزي مهيب يليق بأجدادنا الملوك تقديسا وأخلاقا ودعاية وزفة سياحية عالمية ليس لعرضها مثيل، وانبري يرد علي أسئلة بربارا والتز المذيعة التليفزيونية العالمية بإجابات أحسن منها.. من اختار نائبا له منذ بداية حكمه، واتخذ من عثمان صديقا ومن كيسنجر صديقا ومن كارتر صديقا ومن الشاه صديقا ومن العتال الذي شاركه العمل علي عربة النقل أيام الهروب صديقا، ومن المستشار الألماني هيلموت شميت صديقا وصدوقا، حتي أن شميت كتب في مذكراته عن صديقه السادات فصلا كاملا يقرظه فيه، واعتكف العشر الأواخر من رمضان في استراحة سانت كاترين مخططا لمجمع الأديان، وسن لكل مناسبة زيها ولكل مقام مقال ولكل مجال مغناطيسيته، وضرب مراكز القوي في مقتل من بعد اكتشافه التسجيل تحت السرير، ومكثنا نظن أن الديمقراطية تترفق بالناس فإذا بها عنده لديها المخالب والأنياب، ووضع قانونا للعيب، وطور في مشية الإوزة الهتلرية، وتسلح بعصا المرشالية، والتزم في خطبه لعدة دقائق بما كتب له ليزيح من بعدها الأوراق وينبري يقول ما عنده ويختم بآياته المنزلات من سورة البقرة: «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين».. من داوم علي يدي النبوي إسماعيل النجاح في الانتخابات بنسبة 99.9%.. واغتيل يوم عرسه.. من عشق الانطلاقة من أسوار التزمت في السجن أو الحرس الجمهوري، فهرب من الأول وتفنن في صنع المشكلات للثاني عندما كان ينطلق وحده بالعربة الفولكس ليقسم البعض أنهم شاهدوا مثيلا له الخالق الناطق علي الكوبري وفي زحام الإشارة وعلي الطريق السريع.. من كانت نقطة ضعفه وقوته في حبه للإعمار والتعمير حتي أخذ عليه قوله: «نفسي كل حتة أرض في مصر تغلي»، وكان مقصده البرئ أن يبني كل جزء من الصحراء ليجد الشباب والفقراء بيوتا تظللهم ولم يكن يدري أن أمنيته ستتحقق علي يد سماسرة العقارات والعمولات وتسقيع الأراضي وتشفيرها وطرحها بالمليارات.
ليس تأريخا للرجل فليست مهمتي ولا صناعتي ولا أنا المؤهلة أكاديميا أو سياسيا أو حزبيا لها، ولا أنا من خريجات مدرسة الدكتور يونان لبيب رزق الراصدة لتاريخ صفحات جريدة الأهرام المئوية، وإنما مجرد هاوية بحث عن مفاتيح الشخصية للقيام برسمها فقط لا غير، وشخصية السادات علي مدي أيامه وأحداثه أنه لم يكن دمويا في صراعاته أو خلافاته مما جعله متهما في بعض الأحيان بالتراخي الأمني.. شخصية رجل منعم بطاقة فن التشخيص التي صنعت مجده وصنعت مأساته، والتي شعر بوطأتها في شرخ الشباب فأرسل صورته للمنتجة آسيا في عام1939 عندما طلبت وجوها جديدة لغزو الشاشة، ونشرت مجلة الهلال صورته كوجه مرشح للتمثيل، وأراد السادات وهو علي رأس المؤتمر الإسلامي جمع أعداد الهلال القديم الذي نشر الصورة فكان من غير المستطاع، وربما من هذا المنطلق كتب بيجن في مذكراته عنه قوله: السادات مثَّل علي الدور، وشخصية الممثل المقنع المقتنع بجوانبه السلبية والإيجابية تلك جعلته في عام1932 يخلع ملابسه ويغطي نصفه الأسفل بإزار ويصنع نولا للغزل ويعتكف فوق سطح بيتهم في كوبري القبة لعدة أيام تشبها وانبهارا بالزعيم مهاتما غاندي إلي أن تمكن والده من إقناعه بالعدول عن دوره الذي لن يفيده أو يفيد مصر في شيء، بل علي العكس من المؤكد أنه سيصيبه بمرض صدري، وعندما زحف هتلر من ميونخ علي برلين ليخلص بلاده من آثار هزيمتها في الحرب العالمية الأولي قام بطلنا بجمع أقرانه وهو في الثانية عشرة ليتزعمهم مثل هتلر الذي يجيد طريقة أدائه للزحف علي القاهرة من ميت أبوالكوم.. وأبدا لم يمثل لون بشرته الداكنة لديه أية عقبة لتخطي السدود إلي قمم الأناقة والوجاهة والجاذبية، فقد نشرت مجلة «لايف» صورته إلي جانب النجم جريجوري بيك وأمير موناكو كواحد من أكثر رجالات العالم أناقة، تلك الأناقة التي قد تكون من أسباب اغتياله عندما رفض ارتداء الجاكت الواقي من الرصاص تحت البدلة العسكرية المحبكة في حضور العرض العسكري ليظل محتفظا بوزنه المثالي ومظهر رشاقته التي داوم من أجلهما علي الريجيم والجبن القريش، وبقي قوامه حتي النهاية بدون كرش أو سنتيمترا زائدا من الشحم... إن يوميات الشهور الثلاثين التي قضاها محمد أنور السادات في السجن ما بين عامي1946 و1948 تعد نافذة تاريخية علي ما قد جري، أما ما خرجت منها بإعادة الاكتشاف فقد كان اكتشافي لنفسي من أنني عندما أحببته.. السادات.. كان عندي حق.
من بين أيامه المسجونة كتب في20 يناير1946 في سجن الأجانب: «مضي علي الآن ثلاثة أيام وأنا أنام ببدلتي، فقد نقلوني إلي هنا مساء الخميس السابق دون أن يحضروا ملابسي وحاجاتي من سجن مصر حيث كنت، لذلك كتبت خطابا شديد اللهجة إلي النائب العام في شأن هذا الإهمال، وتركي بدون ملابس أو حتي صابونة لأغتسل.. وقد سبب لي النوم بالبدلة التهابا شديدا في فخذي جعلني أهرش كما لو كنت (أجرب)»!
4فبراير1946: طلعت علينا جريدة المقطم وفيها خبر نقل كيلرن من مصر، ولما كنت أبغض هذا المخلوق الذي أدمي كرامة مصر كلها، فقد صممت علي أن أحتفل، وأرسلت في شراء دستة جاتوه باسم المسجونة ليلي الهندية في سجن النساء ووزعتها علي ليلي والسجانات واستبقيت لنفسي ثلاث قطع احتفل بأكلها علي فنجان شاي المساء، وقد استمتعت بأكلها أيما استمتاع، خاصة أن المعازيم تركوها لي من النوع الدسم المملوء بالكريمة، وفي نحو الساعة الثانية صباحا استيقظت علي مغص وإسهال مروع، واتضح أن الجاتوه كان تالفا، وقد جئ به من دكان في شارع محمد علي.. إنني أقرر لوجه الحقيقة أن بغضي لكيلرن قد تحول إلي حقد دفين منذ هذه الليلة!
14فبراير1946: ليلي الهندية تحب السجين رقم19 هذه هي العبارة التي يرددها السجن كله، قالتها لي سنية السجانة، بل أكثر من هذا تقدمت ليلي للمأمور بطلب إعطاء المسجون رقم19 فسحة أطول لكي تتمتع بالتحدث إليه ومناجاته، وقد دفعني الفضول لرؤية هذا الحبوب وبكل عناء تمكنت من أن أراه لمدة نصف دقيقة فوجدته يستحق إعجاب ليلي فعلا، إذ كان شابا أشقر ذا أنف روماني، وشعر أصفر، وتقاطيع متناسقة في رجولة.. وقد علمت فيما بعد أنه يدعي محمد إبراهيم كامل.
أول يوليو1946: اجتمعنا نحن المتهمين في قضية أمين عثمان نفكر في كيفية جعل حياتنا هنا شيئا محتملا بقدر الإمكان وانتهينا إلي القرارات الآتية:
1- يصير توزيع جميع الأطايب الحلويات وما شابهها التي تأتي لأحد المتهمين علي الجميع.
2- علي كل من يري امرأة جميلة في شباك سجن النساء أن يخطر الباقين لمشاهدتها أثناء الطابور والغزل ممنوع ويكتفي بالمشاهدة، أو الصفارة فقط.
3- إصدار مجلتين أسبوعيتين تتضمنان الحوادث العامة والتعليق عليها، ونقد المتهمين أنفسهم، والتعليق علي ما يدور من حوادث السجن بخلاف أي مواد أخري يراها رئيسا التحرير.
10يوليو1946: المكان كخلية النحل، فبينما أخذ المتهمون في استحضار الكتب والمؤلفات، نجد رئيسي تحرير المجلتين المزمع إصدارهما وسيم خالد و محجوب الجابري يتفنن كل منهما في اختيار الأقلام الملونة والورق.. وقد سرت إشاعة أن المقالة الجيدة أو القصيدة الموزونة ثمنها سيجارة ولاشك أن ضخامة التمويل هذه تبشر بإنتاج صحفي رائع فالسيجارة هنا أندر من الذهب.
بداية أغسطس1946: استيقظنا لنري في غرفة كل منا إعلانا من هيئة تحرير «الهنكرة والمنكرة» وهو الاسم الذي اختاره وسيم لمجلته يحوي أقذع الشتائم لهيئة التحرير الأخري ويتهم محرريها بأنهم مأجورون، وأن محجوب شوهد مع الضابط النوبتجي في خلوة أمنية.
نهاية أغسطس1946: قاتل الله البروباجندا.. اليوم نظمت هيئة تحرير الهنكرة والمنكرة موكبا في طرقة السجن يتقدمه محجوب، ومن خلفه مدحت يعزف علي مندولين مصنوع من أستيك الكالسونات ومشدود علي علبة فواكه فارغة، وسعيد يحمل طبلة مصنوعة من كرتون مشدود علي صحن المياه المنصرف لنا، وسار الموكب والمسجونون يصفقون ويهللون إلي أن وقعت الطامة وجاء ضابط السجن علي هذا الضجيج.. وكان من نصيبنا أن أقفلت علينا الزنازين طيلة اليوم وهددونا بقفلها طيلة الأسبوع إن عدنا.. ألا قاتل الله البروباجندا!
26أكتوبر1946: دام الإعداد للمجلة شهورا وفي العدد الأول لم يفت أصحابها العناية بباب الأخبار ومنها هذه الانفرادات: دخل أحد اللصوص حجرة عمر حسين أبو علي لتأدية واجبه كالمعتاد، ولكنه لم يعثر في الحجرة علي آثار المأكولات، فرق قلبه لما تبين حالة الفقر المدقع التي كانت تظهر علي الحجرة وخرج تاركا فيها موزة وثلاث بلحات.. لله.. قال لنا فريق سابق إن السيجارة في السجن أثمن من فردة كاوتش بره.. تتناقل الألسنة هذه الأيام أن أنور السادات وقع في غرام سجن النساء.. والحب أعمي كما يقولون..
20فبراير1948: استخف بنا الفرح بعد الحكم الابتدائي بالبراءة فنظمنا مهرجانا لسهرة في قصر هارون الرشيد واشتركنا جميعا في التمثيل والإخراج والغناء والاستمتاع في آن واحد، وكان توزيع الأدوار كالآتي: أنور السادات: الخليفة هارون الرشيد، وحسين توفيق: السياف عبدالله، والسيد عبدالعزيز خميس: الكهرمانة وكبيرة القيان، وسعيد توفيق: كبير الحجاب، ومدحت فخري: شهرزاد الراقصة المغرية، وعمر أبو علي: اسحق الموصلي، وأحمد وسيم ومحمد كريم ومحجوب: فتيات الكورس، والجوهري: بائع اللب، ومراد: الخواجة ورئيس وفد الفرنجة، وتبدأ السهرة بصوت الكهرمانة ومن خلفها ترديدات الكورس، ويطرب الخليفة فيستعيد النغم مثني وثلاثا ولا يتمالك عندما يأخذ الطرب بمجامع نفسه من أن يندفع ويرد علي الكهرمانة والقيان: أنا جيت لكم والله يا ولاد.. أنا أحبكم أوي أوي يا ولاد.. أنا جيت لكم أنا جيت.. دا الاتهام لخبيط!!
ويطلب الخليفة من الكهرمانة أحدث مواويل الموصلي في الصبر والسلوان فتنشد مع القيان: نامت عيونك وعين الله ما نامت.. ما في ولا شدة علي مخلوقها دامت.. وإن دامت الشدة ما يدوم صاحبها.. راحت ليالي الهنا ياليتها دامت..
وتندفع الراقصة المغرية شهرزاد علي نغمات الموال، ويصيح الخليفة في حبور: هدهدوني هدهدوني اطربوني اطربوني، وينتهز بياع الترمس الفرصة فينادي علي بضاعته بصوت نشاز فيأمر الخليفة بإخراجه من المكان، ويحل وقت العودة إلي الزنزانات فينتهي الحفل بين رنين الضحكات، وباسم الثغور، وبالغ البهجة والحبور.. وغضب السجانين وصك الأقفال!
يونيو1948: فجأة.. ودون أن يعلم أحد هرب حسين توفيق، لقد وصلنا الخبر أول ما وصل، علي وجه السجانين والضباط، ثم انهالت علينا القيود والتشديدات، وعدنا إلي سالف العصر والأوان.. لقد كان حسين شرا في وجوده، وشرا في هروبه، ففي وجوده كان خير من يثير عنف المناقشات وزعيره يكهرب الجو بالتكهنات والخرافات.. ثم هرب فكان سببا فيما نزل بنا من كبت وإرهاق، اللهم سامحه وألطف به وبنا.
7يوليو1948: انتهي اليوم الدفاع وتأجلت القضية إلي جلسة24 يوليو للحكم، ورأي محمد كريم في المنام أنه قد نبت له ذيل وأنه كان يبكي خجلا من أن يعرف زملاؤه ذلك..
24يوليو1948: قال القضاء كلمته ليقرر أني برئ، وها أنذا أكتب هذه الكلمات من بنسيون في حلوان جالسا وفي رأسي زحام كبرج بابل.. لكني أردد: «اللهم لك الحمد حتي ترضي».
ويستمر السادات في كتابة مذكراته بعد محنة الثلاثين شهراً ليقول في 10 أغسطس 1949: تزوجت وأقيم في بيت زوجتي أشتغل بالأعمال الحرة لكن شيئا في داخلي ينكر عليّ العمل بالتجارة، فهدفي وأملي وحياتي ومماتي من أجل السياسة ولا أعرف ما الذي أفعله، فقد كان أثاث بيتي عند النجار الذي يهددني بأنني إذا لم أحمل الأثاث إلي البيت فسوف أدفع ايجارا له أو أنه سوف يبيعه.. واكتشفت فجأة وبصورة مروعة أن كل ما في جيبي هو مائة وعشرون قرشا ومطالبا بالبحث عن عمل، وكل ما أقدر عليه في ذلك الوقت هو أن أرتدي ملابسي بسرعة، وأخرج من البيت بسرعة، والذي يراني هكذا يُخيّل إليه أنني أريد أن ألحق بمواعيد العمل أو اللحاق بالأوتوبيس، والحقيقة أنه لا شيء من ذلك وإنما أوهم نفسي وغيري، وقد أنجح في إيهام الغير لكني أواجه الحقيقة مع نفسي.. وكنت استمراراً لهذا الإيهام المزدوج أذهب إلي كازينو بجوار كوبري الجيزة وأجلس، ثم أنهض بنشاط لأتحدث في التليفون وأدفع القرش ثمن المكالمة، وبعد المكالمة أقول لقد أصبح ما في جيبي الآن 119 قرشاً ثم 118 قرشا.. إلي نهاية العد التنازلي.. وكلما نقص المبلغ في جيبي، أحسست بأن قلبي هو الآخر ينزل في قدمي.. ولكن شيئا في داخلي يقول: اصبر.. سوف تفرج.. وخطر ليّ أن أشتغل بالصحافة وهي صناعة التعبير عن الناس والتأثير فيهم، ثم إن عندي ما أقوله، فقد كنت معروفا في ذلك الوقت، بعد أن شاركت في قضية أمين عثمان وكتبت الصحف عني الكثير، وعندي مذكرات وذكريات، ثم إن صناعتي الكتابة والخطابة أي الكلام.. وذهبت إلي صديقي إحسان عبدالقدوس في روزاليوسف، وكان الكاتب السياسي الأول في مصر في ذلك الوقت وقلت له: يا إحسان أريد أن أعمل في روزاليوسف، فجاء رده أن المجلة لا تتسع لنا نحن الاثنين.. وسألته فيما إذا كان من الممكن أن أعمل في الأهرام، وطلبت منه أن يتصل بكامل الشناوي وكان نجم الصالونات السياسية في ذلك الوقت.. واتصل إحسان واعتذر الشناوي بأنه لا مكان لي في جريدة الأهرام، وذهبت إلي دار الهلال أسأل فيما إذا كان لي عمل فيها، وقابلت شكري زيدان أحد صاحبي الدار ورئيس تحرير المصور، فأخبرني أنه في دار الهلال كلها لا يوجد سوي كاتب كبير هو فكري أباظة باشا، ويرجح لي أن أكون إلي جواره، وطلب مني أن أكتب مذكراتي فكتبتها وقدمتها له، فطلب مني تفصيلا لبعض النقاط التي جاءت بالمذكرات، فأبديت الاستعداد لكنه طلب مني أن أجلس وأن أكتب ما أراده فوراً قبل مثول المصور للطبع، وكان ذلك يوم الاثنين، ومن عادتهم أن يطبعوا المجلة بعد ظهر ذلك اليوم، وبعث بمن يجلس معي لمراقبتي وأنا أكتب، وبعد انتهائي سألت عن شكري زيدان فقيل لي إنه في انتظاري.. ولم أدرك أنه كان يختبرني ليعرف فيما إذا كنت أنا كاتب المذكرات، وإن كنت أستطيع أن أكتب بالسرعة المطلوبة دون أن يراجع سطوري أحد من الناس، ولما تأكد لديه ما كان يريد معرفته، بدأ يتحدث معي عن المكافأة، حيث إن دار الهلال وقتها كانت تتعامل بالقطعة، وفهمت أنهم يربطون ميزانيتهم في ديسمبر، وبعد هذا الشهر لا يعينون أحداً وقد جئت بعد الموعد.. ولم يعجبني ما عرضوه عليّ.. وعددت الفلوس التي في جيبي فوجدتها خمسين قرشا.. إذن لم يبق أمامي إلا محاولة دخول الجيش»..
السادات.. فلاح ميت أبوالكوم الذي هرع طفلا حافيا بالقميص البفتة في ذيل جدته أم الأفندي فوق الجسر للحاق بمركب البلاليص الراسية في كفر زرقان، لأن العسل وصل.. المطارد الذي كان عاملا باليومية يقطع الرخام في محجر جنوب بني سويف ليقوم بنقله بنفسه إلي الأهرامات ليبني استراحة الملك فاروق.. اليوزباشي خريج السجون الذي عمل لفترة مراجعا في دسك دار الهلال خلفا لإحسان عبدالقدوس.. السادات الغارق في السياسة منذ عام 1939 عضوا في أول تنظيم سري للضباط كان اغتياله في 6 أكتوبر 1981 بيد الإخوان بسبب قوله المأثور المطبوع بختم السادات: «لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين».. السادات الذي كان يقول إن الفرق بينه وبين عبدالناصر: «عبدالناصر كان يضع تليفونات كثيرة علي مكتبه إلي جانب الراديو ولذلك كان متوترا دائما منتظرا علي أحر من الجمر الأخبار المحلية والدولية.. يصحو وينام عليها.. أما أنا فليس لي مكتب.. أجلس هناك في الحديقة تحت أغصان الشجر بعيدا عن الرنين وشدة الأعصاب!!»..
من فوق ظهر الحصان
ويتهادي الخيّالة برونق ملابسهم الميري فوق أفراسهم المطهمة كمثيلهم أمام قصر برنجهام إلا في مسألة البرانيط العالية بطول شارع المعز لدين الله الفاطمي الأثري الذي استرد عافيته ونظافته وسياحته وتجارته وأمنه، ليعرب أهالي الحسين والأزهر والجمالية للواء محمد إبراهيم وزير الداخلية عن امتنانهم البالغ لجهود وزارته.. وتلمع العدسات وتتهافت الميكروفونات وتتباري المحطات وتتسع الصفحات لتسجيل الضجّة الكبري والحدث الجمالي والزيارة الرسمية.. ويغيب عن المشهد الحضاري صانعه.. الفنان الفارس فاروق حسني وزير الثقافة الذي أضاء بطول الوادي شموع الثقافة والحضارة في متاحف وشوارع ومزارات الخلود..
المال والبنون
نغمة مش حلوة ترتفع الآن في كلام مرشحا الرئاسة وأعضاء الحكومة تجاه "لا مؤاخذة" الناس الأغنياء رغم قوله تعالي «المال والبنون زينة الحياة الدنيا».. الآن الأبناء الأعزاء متسلطين علي المال، ومن ناحيتي في هذا المجال فقد قام رئيس مجلس الإدارة السيد النجار بقرقضة مرتبي وتأجيله لحين ميسرة مع شفط أرباح آخر العام بالتمام والكمال تبعاً لمفهومه في تجفيف المنابع.. ولما ذهبت أبحث عن مكافأة يتيمة كنواة تسند الزير مقابل جهد فني خرافي أقدمه لوزارة الثقافة بقي لها فوق العشر سنوات لقيتها هبطت للخُمس واتعلقت أمانات.. ويدق لي الباشمهندس محلب رئيس الوزراء بكلوة يده في المؤتمر معلنا بحزم: «لا دعم للأغنياء بعد اليوم»!!.. هذا مع إن الآية الكريمة بشأن زينة الدنيا أصبحت حَصراً علي القرافات..
نقلا عن " الاهرام" المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.