ربما لن ترى من أثر الرسول - فى مكة - غير بقايا من تاريخ، وتحيطك جغرافيا جافة خشنة لجبال حادة تحيط المكان، تندهش كيف خرجت منها نبتة الرسول الحانية، تلك التى تدعو لمحبة اليتيم والرفق بالنساء والعطف على الشجر فنهى عن اجتثاثه ومنح المحبة حتى للحيوان فقد أحنى عليه الصلاة والسلام ظهره واستند لركبتيه كى يواسى طفلا مات عصفوره. لن ترتاح كثيرا فى الحرم المكى، حيث سترهقك الطقوس والمناسك: أشواط سبعة، طواف وسعى، هرولة وتؤدة، إحرام وتحلل، إزار ورداء، هنا فى ظل الزحام والتدافع والإرهاق والإعياء والمكابدة ربما تفقد القدرة على التأمل، وتعانى على الروح كثيرا من أجل أن تنطلق فى سماوات المحبة، ولن يعينك على تجاوز ذلك بناء رفع قواعده إبراهيم عليه السلام، أو حجر قال عنه عمر بن الخطاب: «والله إنى لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك»، أو مآذن شاهقة، أو أرض مكسوة بالرخام.. رخام.. رخام، فقط يمنحك بعض البرودة فى ظل الصهد والعرق. أنهيت الآن حجتك؟.. عمرتك؟، أتممت فرضك؟.. تحللت من إحرامك؟.. خذ هديتك إذن، وانطلق إلى بلد المحبوب.. طيبة.. الطاهرة.. المدينة، تلك التى أرضها غير الأرض، وناسها غير الناس، وجوها غير جو كل المدن، ربما سمعت ذلك من كل عائد من أرض الحجاز، فتندهش وتظن الأمر مبالغة من العاشقين، خصوصا وللرسول وآله شأن آخر فى قلوب المصريين، لكن الحقيقة أنها بالفعل كذلك، بل وتقصر الكلمات كثيرا عن الوصف، فما أن تطأ أرضها حتى تستشعر ذلك الاختلاف وتلك الخصوصية والألفة، وتستشعر ذلك الصفاء والمحبة مستلهما سيرة الرسول، فهنا كان يمشى، وهنا استقبله الأنصار بالغناء، وهنا شمر عن ساقه وهو يحفر الخندق، وهنا تحازى قدمك قدمه حين كان يسير مع صحابته، وهنا كان يدلل عائشة ويسابقها ويحملها على ظهره حتى تشاهد الأحباش يلعبون، ويداعب فاطمة أم أبيها، ويحمل على فخذيه الحسن والحسين، وهنا كان يحلب شاته ويخصف نعله. تظل مغمورا بالسعادة طوال الرحلة، مقبلا، تشق الطريق فى مسجده الشريف مدفوعا بقوة خفية، طاقة هائلة تنبت فى صدرك، تجذبك جذبا نحو الوصول.. حتى تصل، فلا يفصلك عن محل الجسد الطاهر إلا مقصورة من نحاس، لا تحول دون أن تتنسم عطره أو يغمرك نور وجهه.. ثم تلقى السلام. وآآآآه من بعد «السلام عليكم يا رسول الله»، بعدها ستفقد كل قوتك، مهما كانت صلابتك وصلفك، ستنهار أيها المذنب الشقى.. الطائع المقصر.. المؤمن المحب، ستشف روحك وترفرف وتسبح فى الملكوت حتى تكاد تطير، سوف تنتصب الشعيرات فوق ذراعيك المرتجفتين، ويتحبب جلدك، وتسرى فى أوصالك قشعريرة محببة، دفقة من تيار كهربى تشعل أحاسيسك وتوقظ موات القلوب، لا تملك ساعتها أدنى مقاومة للدمع المنهمر الذى يغسل روحك، ويطهر ناظريك وبصيرتك وقلبك - بعد عناء السفر- من الكبر والجبروت.. وسائر الذنوب.. ساعتها ستدور برأسك الخواطر، عشوائية، متلاحقة بغير انتظام: «هل تسمعنى يا رسول الله؟.. هل تسمعنى يا حبيبي؟.. أنا من ألقى عليك السلام، أنا الواقف هنا بين الزحام فى أقصى اليمين.. مرتديا جلبابى الأبيض ونظارتى الطبية، عرفتنى بالتأكيد؟ أعلم أنك سمعتنى، وإلا فكيف سمعت ردك؟، مس أذنى وروحى صوتك الحنون: «وعليك السلام»، لقد حدثتك من على البعد كثيرا يا حبيبى، دعوت لك، صليت عليك، لكننى الآن ألقاك وجها لوجه، لا يفصلنا غير هذا الحاجز المذهب، فأرى وجهك المشوب بالحمرة، وأراك جالسا مع رفيقيك تملأ عيونكم السعادة بالملايين الذين وفدوا لزيارتك، من كل البلاد والأجناس، نعم يا حبيبى، فقد أعز الله دينه الذى حملت، وأصبح تابعوك صفرا وحمرا، سودا وشقرا، من بقاع الأرض كافة جاءوك ليستغفروا الله وتستغفر لهم، يجهرون بالصلاة والدعاء، لا يتخفون فى دار الأرقم بن أبى الأرقم، ولا يخشون كل الذين طاردوك وطردوك وعذبوك، فجميعهم يا حبيبى طواهم النسيان وأكلهم دود الأرض، أبو جهل ذهب.. أمية بن خلف ذهب.. الوليد بن المغيرة ذهب.. أبولهب ذهب.. وغيرهم.. وغيرهم، وبقى نور الله الذى حملته بين يديك ليضيء الأرض كلها، وأتم الله نوره رغم كره الكافرين، فادع لنا يا حبيبى حتى نكون أهلا لذلك النور.. فنحفظه.. ونحافظ عليه».