ضياء داوود: التمديد للحكومة الحالية يتجاوز حدود المنطق واستقرار البلاد    وزير العمل يلتقي مُمثلي شركات إلحاق عِمالة موسم حج 2024    إطلاق اسم الشيخ محمد رفعت على المسابقة العالمية الحادية والثلاثين للقرآن الكريم    مؤتمر "العلم والإيمان" يجمع المجمع العلمى والأزهر والإفتاء والكنيسة الأسقفية على مائدة واحدة    «بنك مصر» شريكًا استراتيجيًا ومستثمرًا رئيسيًا في مشروع بالمزاد أول منصة رقمية للمزادات العلنية في مصر    «المركزى»: 92.1 تريليون جنيه قيمة التسويات اللحظية بالبنوك منذ بداية عام 2024    البورصة المصرية.. «EGX30» يتراجع وحيدًا في منتصف التعاملات    وزير الري يتابع موقف المشروعات المائية وتدبير الأراضي لتنفيذ مشروعات خدمية بمراكز المبادرة الرئاسية "حياة كريمة"    رئيسا البورصة المصرية والرقابة المالية يشهدان بدء تطبيق نظام رقمنة أعمال شهادات الإيداع    كارثة إنسانية جديدة ضد شعب فلسطين.. هجوم قوات الاحتلال على رفح الفلسطينية تحد صارخ لإرادة المجتمع الدولي.. سياسيون: مصر لن تتراجع عن جهودها في تفعيل الهدنة ولإرساء السلام    بيان مشترك..الصين وفرنسا تدعمان إنشاء دولة فلسطين المستقلة    تين هاج بعد رباعية كريستال بالاس: هذا فقط ما أفكر فيه    ضبط 4 أطنان أسماك ودواجن منتهية الصلاحية بالشرقية    ضبط متهم بالاستيلاء على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بأهالي المنيا    دم المصريين خط أحمر| «السرب» ملحمة وطنية تليق بالفن المصري    أمين الفتوى يحذر من فوبيا جديدة منتشرة (فيديو)    محافظ قنا يفتتح عددا من الوحدات الطبية بالقرى    الكبد الدهني.. احذر هذه الأعراض المبكرة    برلماني: الاستجابة للمقترح المصري طوق النجاة لوقف نزيف الدم    العراق تقدم مشروع قانون لحماية النازحين داخلياً فى الدول العربية    الأردن.. الخصاونة يستقبل رئيس بعثة صندوق النقد الدولي للمملكة    بعد الإنجاز الأخير.. سام مرسي يتحدث عن مستقبله مع منتخب مصر    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    الضرائب: تخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية ل25 ألف جنيه بدءًا من أغسطس المقبل    75 رغبة لطلاب الثانوية العامة.. هل يتغير عدد الرغبات بتنسيق الجامعات 2024؟    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    نصائح مهمة لطلاب ثانوي قبل دخول الامتحان.. «التابلت مش هيفصل أبدا»    بحضور مجلس النقابة.. محمود بدر يعلن تخوفه من أي تعديلات بقانون الصحفيين    هل يشبه حورية البحر أم الطاووس؟.. جدل بسبب فستان هذه النجمة في حفل met gala 2024    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    بأمريكا.. وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلاً غنائيًا    أوكرانيا تعلن القبض على "عملاء" لروسيا خططوا لاغتيال زيلينسكي ومسؤولين كبار    مسؤول إسرائيلي: اجتياح رفح يهدف للضغط على حماس    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    وزير الصحة يتفقد مستشفى حروق أهل مصر.. ويؤكد: صرح طبي متميز يٌضاف للمنظومة الصحية في مصر    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    جمهور السينما ينفق رقم ضخم لمشاهدة فيلم السرب في 6 أيام فقط.. (تفاصيل)    انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض المسرحية الطويلة بجامعة القاهرة    ضبط نصف طن أسماك مملحة ولحوم ودواجن فاسدة بالمنيا    تريلا دخلت في الموتوسيكل.. إصابة شقيقين في حادث بالشرقية    «تعليم القاهرة»: انتهاء طباعة امتحانات نهاية العام الدراسي لصفوف النقل.. وتبدأ غدًا    سعر الأرز اليوم الثلاثاء 7-5-2024 في الأسواق    عاجل:- التعليم تعلن موعد تسليم أرقام جلوس امتحانات الثانوية العامة 2024    اقوى رد من محمود الهواري على منكرين وجود الله    "تم عرضه".. ميدو يفجر مفاجأة بشأن رفض الزمالك التعاقد مع معلول    المتحف القومي للحضارة يحتفل بعيد شم النسيم ضمن مبادرة «طبلية مصر»    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-5-2024    لاعب نهضة بركان السابق: نريد تعويض خسارة لقب الكونفدرالية أمام الزمالك    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    شكر خاص.. حسين لبيب يوجه رسالة للاعبات الطائرة بعد حصد بطولة أفريقيا    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهد حيّة من رحلة العذاب والمغفرة!
نشر في المصريون يوم 04 - 10 - 2017

ها هى أجمل أمنياتي تتحقق ويتجسد الحلم واقعا والخيال حقيقة تلمس وترى سأؤدي فريضة الحج متمتعة بعمرة.. هكذا قلت لنفسي حينما طالعت رسالة نقابة الصحفيين على هاتفي.. ولم أصدق حتى وطأت قدماي الطائرة التي ستقلني من القاهرة إلى المدينة المنورة يثرب .. ثم من بعدها إلى مكة المكرمة أحب بقاع الله إلى قلب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.. وقلبي!
"المشهد الأول".. جناحان من الريش!
طوال الطريق ظللت أتلمس جسدي كمن يريد أن يتأكد أنه متيقظ.. فأبتسم لنفسي بين اللحظة واللحظة.. من يراني الآن بابتساماتي المتتابعة للفراغ.. ربما يظن أن بي مسا من الجنون.. أتساءل في صمتي المدوّي: هل بالفعل نبت لي جناحان من الريش حينما وصلتني رسالة من نقابة الصحفيين بالقاهرة تخبرني بأنه قد تم اختياري ضمن قرعة نقابة الصحفيين لأكون من حجاج بيت الله الحرام هذا العام؟
نعم لقد نبت لروحي جناحان كادا يملآن ما بين السموات والأرض.. فعلا صوتي بالتهليل والتكبير.. واسرعت كفراشة هائمة لأعرف الأوراق المطلوب تجهيزها.. أسير بخفة.. تحملني قدماي اللتان ما عادتا تؤلماني برشاقة.. وفي الطريق إلى النقابة.. تتزاحم الصور أمام مخيلتي ونبضات قلبي تكاد تقفز من بين ضلوعي.. لتتراقص فرحا.. تتصارع ما بين شهيق وزفير مشبوبيْن باللهفة يحملان أنفاسا تواقة لاستنشاق نسمات الفجر الندية من داخل الحرمين الشريفين.. مما زادني نشاطا وهمة في إتمام الاستعدادت المطلوبة للبدء في أولى خطوات خير رحلة.
"المشهد الثاني" يا رايحين للنبي الغالي!
ها هو الشوق يحط طيوره في جنباتي.. يا رايحين للنبي الغالي هنيالكم وعقبالي.. على مرمى البصر تتراءى مآذن المسجد النبوي الشريف.. اتفقنا أن نضع الحقائب ونبيت ليلتنا ونذهب مع الصباح إلى المسجد النبوي.. جافاني النوم.. كيف أكون ها هنا بجوارك .. خطوات تفصلني عنك ولا آتيك.. يا ربي ليولد الصباح لأذهب إليه.. قلبي يتقافز كطفل . اشتقت نعم اشتقت إليك يا حبيبي يا رسول الله..
والشفاه ترتعش وهى تبتسم ابتسامة الحب والشوق مبللة بدموع الوجد والشوق.. وأمام روضته الشريفة وتكدس الأجساد تلهث الألسنة والأفئدة بالمناجاة الشفيفة.. ألسنة من كل حدب وصوب.. لغات لم أسمعها من قبل ووجوه وقبائل شتى.. قلوب منفطرة لا تسمع منها سوى الدعاء والنشيج ولا ترى من أثرها سوى الدمع الذي يغسل الروح من أدرانها لتخرج من بين عتباته شفيفة.
وبعد صلاة ركعتين تامتين في روضته الشريفة.. لا تمتلك سوى أن تترك مكانك لغيرك وتمضي وقلبك يبتهل وهو معلق به.. وأنت تدعو الله العظيم ألا يحرمك العودة إليه ولا يحرمك لذة مناجاته والوقوف بين يديه والتماس شفاعته وشربة من يده الشريفة لا تظمأ من بعدها أبدا!
"المشهد الثالث" في الطريق إلى مكة.. هل أنتِ مصرية؟
خمسة أيام في المدينة المنورة مرت كالبرق الخاطف.. ها نحن نودع مسجد رسولنا الحبيب ونولي وجوهنا شطر السجد الحرام.. عبر الطريق البري الذي سيتوقف بنا في الميقات لنحرم بالعمرة حيث إنني كنت نويت "التمتع" أي الإحرام بالعمرة ثم التحلل لأيام.. ثم الاحرام بالحج وذلك قبل يوم الثامن من ذي الحجة.
ارتقينا الباص الذي انطلق به سائقه الآسيوي ذو اللغة العربية المكسّرة ومرشده السوداني الذي كان يتوقف بين آن وآخر ليعطينا التعليمات.
الليل يرخي سدوله على الطريق الممهد الطويل والذي تحفه الجبال الراسيات من الجانبين.. يتوقف الباص كل بضعة كيلومترات للتفتيش، حيث يصعد أحد أفراد الأمن السعودي لمراجعة جوازات السفر والتأكد من وجود تأشيرة الحج.. ومن يتم اكتشاف غير ذلك يتم ترحيله.
بعد أن تناول ضابط الأمن عدة جوازات ليتفحصها نظر إليّ وسألني والابتسامة تملأ وجهه: مصرية؟ قلت له نعم، قال: من أجل المصرية مفيش تفتيش.. ونزل مودعا إيانا.. ازدادت سرعة الباص ومعه ازدادت آمال الجميع شوقا وتوقا للبيت المعمور، وقد لفت انتباهي صوت بعض الحجاج المصريين الذين كانوا يتحدثون بشوق عن هذه الزيارة تارة.. وتارة أخرى عن الأشواق لمصر والحنين إليها.
المشهد الرابع.. وانهمرت دموعي على عتبات الكعبة!
نسيت الارهاق والتعب وأنا أرى الكعبة المشرفة تعانق مدّ بصري، هاجتني المشاعر الإيمانية ودعوت الله حتى ابتل وجهي وفاضت دموعي لتروي روحي الظمآنة لفيض رحمته وعطاياه.. فاض صدري بوجده المضطرم بالدعاء والتبتل.. كما تضطرم النار في الهشيم، فاشتعلت بالدعاء نسيت من أنا.. وبطن قدميّ تلمسان رخام أرض الطواف البارد فتصعد الطمأنينة إلى أحشائي بردا وسلاما، فها هى الكعبة المشرّفة.. إليها يا عيناي.. عانقيها.. ها هى الكعبة المشرفة إليها يا قلبي .. بح لربك حبيبك وأنيسك بما يعتريك.. ها هى الكعبة المشرفة يا روحي.. هيا صيري خفيفة كالنور.. وتوشحي بالضياء والمحبة.. ها هى الكعبة المشرفة يا لساني.. ففض بالدعاء ولا تخجل.. ها هى الكعبة المشرفة يا كلي .. يا جوارحي.. فامتثلي واعلني لله وحدانيته بعيدا عن دنيا البشر..واشهدي بربوبيته وحده.. يا الهي.. ما أشهى البكاء على بابك.. ما أحلى الرجوع إلى كنفك.
ها هنا .. ومن حول الكعبة تسوخ الأقدام وتطفو الأرواح فوق عبراتها.. كل هذه الأجساد يا رب أتتك في حشد واحد.. جاءتك وقد خلعت مباهج الحياة وزينتها إلا من أثمال الأكفان.. خرق من القماش الأبيض تستر بها عورتها.. راغبة وراهبة منكسرة ذليلة لا أحد ينتبه لمن حوله.. الكل يفكر فيما هو فيه.. يوجه قلبه وروحه إليك.. فماذا يكون يا رب من أمرنا يوم الحشر؟ هنا يا رب هنا.. لا رجل يخجل من بكاء ولا امرأة تشكو من تكدس و زحام.. فالكل في حضرتك أرواح تلاشت أجسادها فأنيرت بمباهج رحمتك.
المشهد الخامس.. ومشيت على خطى أمي هاجر المصرية!
هدأت آلام روحي كأنما طهرتها الدموع التي كادت تحفر أخاديدها على خديّ.. بعدما انتهيت من الطواف وقفت في خشوع لصلاة ركعتين أمام مقام إبراهيم عليه السلام.. الكعبة قبلتي أحضنها بقلبي وأراها بعيني وأتمثل حبيبنا محمد صل الله عليه وسلم وأتخيل.. هل لامست جبهته الشريفة هذه البقعة المشرفة وصلى فيها أو ركع.. هل لامست قدمه الشريفة هذه الأرض التي نطأ؟ بعد تمام الركعتين توجهت لري روحي بشربات مشبعات من زمزم ودعوت الله بالشفاء والعلم النافع واستخدامي فيما ينفع الناس.. ومشيت الهوينى إلى المسعى.
ها أنذا أستعيد لوعتها بين الصفا والمروة.. أمام عيني يتجسد جبلا الصفا والمروة أو قل ما تبقى منهما.. حيث تم تعبيد الطريق فيما بينهما للتيسير والتسهيل على الساعين.. وتتجسد أمامي أمي هاجر المصرية أم اسماعيل عليه السلام أبو العرب.. تصعد وتهبط قلقة حزينة.. منفطرة القلب هائجة الوجدان.. لا تدري من أمرها شيئا.. ماذا تفعل لتسكت بكاء رضيعها في هذا اليباب.. الشمس حامية لا مكيفات ولا مبردات ولا أسقف ينطلق منها الهواء البارد.. جف ثدياها وما عادت تمتلك سوى الرجاء.. ماذا تفعل وقد تركها زوجها نبي الله إبراهيم عليه السلام دون مؤن تكفيهما بعد أن قالت له معاتبة.. أتتركنا في هذا اليباب.. ولما علمت أنه أمر الله امتثلت وأيقنت أنه لن يضيعها ووليدها أبدا.. إنها قمة الامتثال والتسليم!
استشعرت حال أمي هاجر السيدة المصرية العظيمة الحنون وأنا أستحضر معاناتها وهى لهفى وكبدها الحرى كمدا على صراخ رضيعها الذي يشق الصدور.. ثم الوصول إلى قمة المروة والإشارة إلى الكعبة والتكبير ثلاثا ثم نزولا للسعي حتى الوصول مرة أخرى إلى مقدمة الصفا .. هكذا سبعة أشواط يقوم بها المعتمر والحاج.. تبدأ من الصفا وتنتهي بالمروة حيث تنتهي شعائر العمرة بالحلق للرجال والتقصير للنساء.. قصرت شعري قيد أنملة.. وحمدت الله أن يسر لي أعمال العمرة ودعوتها أن يتقبلها وييسر لي أعمال الحج .. وتمددت على رخام الصفا لأغط في نوم عميق.
المشهد السادس .. على باب الحرم.. طر يا حمام الحمى.. واحضن نجوم السما!
الساعة الآن الثامنة صباحا.. خرجت من الحرم الشريف كمن اغتسل من أدرانه وذنوبه.. أحسست بروحي خفيفة نقية، فتحت رئتيّ للهواء العليل الذي هب فجأة فطارت ثيابي وطار الحمام من حولي.
وترى حمام الحما يلتقط الحبّ ويطير ثم يهبط في أسراب أو فرادى.. يصنع تشكيلات جمالية بأجنحته الرفرافة وألوانه البديعة، يسقط ظله على الأسفلت فيرفرف مصدرا هديله البديع.. لم أتمالك نفسي وأنا أقف بينه وأرفرف مثله بأجنحتي وأغني طر يا حمام الحما.. واحضن نجوم السما.. كان آمنا في بيت الله الحرام الذي وعد من دخله إنه آمن.. لا يطير من الخوف أو الفزع من المارة.. بل تيها وفرحا وسعادة فهو يعلم علم اليقين أن أحدا لن يقربه بسوء أبدا.. فهذا وعد الله الحق.
طر يا حمام الحما.. طر وخذ قلبي معك..ليرفرف بجناحين من نورٍ وألق، ما أجملك وأنت تهز جناحيك بفرحة غامرة، مستأنسا.. فرحا مطمئن البال، في مأمنٍ من شباك الصيادين المتربصة ونبال الأطفال اللاهية!
مرّ الوقت سريعا.. عدت إلى مسكننا في منطقة العزيزية القريبة من "محبس الجن" بالقرب من مكان رمي الجمرات.. ها هو التعب يحلّ عليّ بعد يوم طويل من التأمل والتسوق والعبادة.. ألقيت بجسدي المرهق على سريري وغططت في نومٍ عميق!
المشهد السابع.. إلى عرفات الله.. والبكاء على جبل الرحمة!
مكة كلها حرم.. هكذا نعلم.. اعتسلت وتطهرت وانتويت الاحرام بالحج .. وخرجنا يوم الثامن من ذي الحجة قاصدين عرفات الله..
في تمام الواحدة بعد الظهر إلى مخيماتنا في عرفات وعليّ الحضور قبل الموعد المحدد حتى أحجز لي مكانا.
استقللت مكاني في الباص والدموع تنساب من عيني ولا أدري لذلك سببا.. كانت سيدة مصرية أربعينية تبدو عليها ملامح الريف الطيبة تجلس بجواري.. كانت تتأملني بين لحظة وأخرى.. ولما رأتني ألهج بالدعاء.. أخذت تفعل ذلك هى الأخرى بجد واجتهاد.
لم يحملنا الباص إلى منى كما كان متوقعا .. فإدارة الحج ارتأت أن يكون الذهاب إلى عرفات مباشرة.. تفاديا للازدحام الشديد الذي يمكن أن يحدث لضيق المساحة الزمنية بين الذهاب لمنى والمبيت فيها والزحف فجرا الى عرفات لقضاء اليوم فيه حتى تغيب الشمس فيكون الذهاب إلى مزدلفة العودة مرة أخرى إلى منى للبقاء فيها أيام التشريق.
أخذنا الباص إلى عرفات.. بهدوء عرفت الخيمة بمساعدة بعض المرافقين.. وضعت متاعي القليل.. وأخذت جلستي، كان الهواء حارا راكدا.. وكان الزحام شديد.. أصابني الارهاق لكن قلبي كان يريد أن يهرع إلى الخارج ليرى جبل عرفات الذي طالما هفا إلى الوقوف عليه.. أليس هو قرين التوبة والعودة كيوم ولدتنا أمهاتنا؟!
الشوق يأخذني للخروج من الخيمة.. الظلام يلف المكان إلا من الأعمدة الكهربائية التي تحيط الخيام.. بعض الخيام تسمع فيها أصوات التكيفات كأسود تزأر والبعض الآخر تئن فيها المراوح الضخمة وهى تقلب الهواء الساخن عسى أن يمنح الوجوه التي لفحتها حرارة الشمس وأنضجتها فصارت جميعا برونزية أو حمراء أو مائلة للسمرة.
خرجت من الخيمة ورفيقتي لنحضر بعض المياه المثلجة.. ولما عدنا قررنا أن نصلي الظهر والعصر قصرا وجمع تقديم ثم نتجه إلى جبل الرحمة.. فالآن الآن يقف الخطيب على منبره في مسجد "نمرة" خاطبا خطبة يوم عرفة.. إنه يوم التسامي والتسامح والمغفرة.. إنه يوم البراءة والعفو.
وصلنا إلى جبل الرحمة.. الطريق لأعلى وعرة والشمس في أوج سطوعها، والمبردات والمراوح التي تنثر الماء من أماكن عالية .. حتى من الطائرات لا تجدي مع هذا اللهيب..
تلمست طريقي.. الجلوس على الجبل والنظر باتجاه القبلة إحساس له طعم آخر.. لا يعرفه إلا المشتاقون التواقون .. اخترت مكانا جيدا أستطيع من خلاله التحكم في جلستي كي لا يختل توازني وأسقط.. وضعت مظلتي البيضاء فوق رأسي وهمت في ملكوت الرحمات.. لا شيء يأخذني من البكاء سوى الدعاء.. ولا شيء يقطعني عن الدعاء سوى الدموع التي بللت ملابسي.. وشعرت في لحظة ما لا أدركها بالضبط أنني صرت صفحة بيضاء.. كنت موقنة قبيل أن أنزل أن الله قد غفر لي وتاب عليّ ومحا عني ذنوني وستر هفواتي وغمرني بستره وحماني بحماه.. نزلت فقط لأنني شعرت بانسحاب روحي.. حالة من الاعياء التام.. وشعور بالغثيان مما دعا رفيقتي لأن تسندني للنزول.. ونزلنا.. واتجهنا نحو خيمتنا.. انحراف قليل عن الطريق الذي اتجهنا إليه.. جعلنا نتوه عن بعضنا البعض وعن خيمتنا حتى انتصف الليل وأسقطنا في يدنا!
المشهد الثامن.. المصريون .. ومخيامات 170 على أعلى قمة في منى!
يا إلهي؟!
هكذا قلت لنفسي.. وأنا أرى الطريق الملتوي لأعلى .. هل عليّ أن أصعد هذه المسافة التي تزيد على كيلو ونصق كيلو متر بلا أية وسيلة للمواصلات سوى الكراسي المتحركة التي يؤجرها بعض الصبية بمبالغ باهظة تزيد على مائتي ريال سعودي.. لمن يريد الصعود والهبوط من خلالها خاصة لكبار السن؟
الحقيبة أحملها فوق كتفي لم تكن ثقيلة ولكنه الإعياء والتعب قد بلغ مني مبلغه.. الطريق المسفلت لم يمنع الإحساس بالجهد المبذول فأنت تصعد على جبل مسفلت.. تبحث عيناك على شارع 163 الذي ترقد من خلاله مخيمات 170و 171 التي يستقر فيها مئات الآلاف من الحجاج المصريين.
أعترف أن رحلة الذهاب لرمي جمرة العقبة الكبرى فسوف يتوجب عليك السير لمسافة تزيد على العشرة كيلومترات في رحلتيّ الذهاب والإياب .في ظهيرة اليوم الأول من أيام العيد وأول أيام التشريق كانت رحلة صعبة.. عاينت فيها العذاب الحقيقي.. فبعد عودتي من رمي السبع جمرات "جمرة العقبة الكبرى" وفي مواجهة الطريق المؤدي لمخيمات 170 شارع 163 وجدتني أجلس على أحد الأرصفة.. ثقلت جفوني لم أعد أتحمل.. ولن أستطيع السير إلى المخيم.. بشكل تلقائي نظرت يمينا ويسارا .. كان بعض الحجاج يجلسون يحتمون بظل الحائط من حرارة الشمس القائظة.. تمددت بتلقائية وغطيت وجهي بعباءتي ووضعت حقيبتي تحت رأسي ورحت في نوم عميق.
تعالت بعض أصوات من حولي.. فأفقت.. جلست قليلا أتأمل الرائحين والغادين وقد ظهر عليهم التعب هم الآخرون.. وبدأت رحلة العودة.. العودة للمخيم..
ما إن تحاملت على نفسي ووصلت إلى أول خيمة قابلتني حتى وقعت من طولي ولم أفق إلا في المساء على أصوات توزيع وجبات العشاء.. انتبهت إلى إنني لم أتذوق شيئا منذ فجر الأمس حين كنا متجهين إلى منى من مزدلفة.. ولكن أين حقيبتي؟
في إحدى الخيام 171 لمحت عدة مشتركات كهربائية ممتلئة لآخرها بشواحن والهواتف معلقة خلالها.. توقفت واستأذنت السيدة التي ردت عليّ بلهجة عراقية: "عيني حبيبتي" قلت لها في تأثر.. لقد تهت عن مكان حقيبتي وبدأت أصف لها شكل الحقيبة ولونها فإذا بالعمود الذي ترتكز بجواره الشواحن هو نفس العمود الذي تستلقي عليه حقيبتي في طمأنينة وثبات!
فغر فاه الجميع وأنا أهتف.. حقيبتي.. حقيبتي.. جلست في هدوء .. ناولتني السيدة العراقية بعض الطعام.. أخذت آكل في حين بدأت الكهرباء تسري عبر بطارية موبايلي لتعيد إليه الحياة مرة أخرى.
المشهد التاسع .. وذهبنا إلى المعيصم لنشهد الذبح!
ولما كنت قد دفعت ثمن صك الهدي الخاص بي.. في بنك الراجحي.. فقد كاد يوم التشريق الثالث أن ينقضي ورفيقتي في الرحلة لم تقدم هديها بعد.. بحثنا عن أي فرع من فروع الراجعي أو البنوك الأخرى التي تتلقى ثمن هذه الصكوك.. فلم نجد، لذا كان لزاما علينا أن نخوض تجربة الذبح.. ذبح الهدي بأنفسنا وتوجهنا إلى المجازر في منطقة المعيصم.
في مدخل السلخانة وقف أحد الجزارين الآسيويين ولما رآنا ونحن نسوق الهدى أمامنا عرض علينا خدماته.. وأنه مستعد لأن يقوم بعملية الذبح مقابل خمسين ريالا.. بالإضافة لدفع خمسين ريالا أخرى وهى رسوم الذبخ في السلخانة نفسها
أشار علينا الشاب المصري مصطفى أن نبحث عن جزار مصري ليفخمنا ونفهمه، وبالفعل.. بحثنا عن أحد الجزارين المصريين الذي سرعان ما جاء حينما عرف أن زبائنه الجدد مصريين أيضا.. وأصر الجزار "الشرقاوي" أن نمسك بالذبيحة معه.. وأن نساعده في السلخ ونشهد تقطيعها.. وبعد ذلك قامت رفيقتي بأخذ هديها بعدما قسمه الجزار إلى ثلاثة أنصبة.. نصاب لها ونصاب لمن تحب أن تهديه وثالث للفقراء والمساكين.
بعدما أنجزنا المهمة بنجاح.. فابت الشمس وانطلقنا سريعا باتجاه السكن لنحفظ لحوم الهدي في الديب فريزر حتى تقوم رفيقتي بما عزمت عليه.. بطهوها وتوزيعها على الفقراء في الطريق إلى الحرم.
المشهد العاشر .. انهاء أعمال الحج.. والسقوط في مستشفى أجياد بالحرم!
انتهينا من طواف الإفاضة..سبعة أشواط تبدأ بالحجر الأسود وتنتهي به.. ثم صلاة ركعتين عند مقام إبراهيم الأولى قرأنا فيها الفاتحة ويا أيها الكافرون والثانية الفاتحة والإخلاص.. ثم شربنا من ماء زمزم حتى ارتوينا.. واتجهنا إلى الصفا والمروة لنكمل طواف الإفاضة بسبعة أشواط تبدأ في الصفا وتنتهي في المروة.. يا إلهي.. لقد نال منا التعب.. ارتميت ورفيقتي على رخام المسعى.. وبعدما انتهينا ذهبنا إلى حيث الكعبة وجلسنا.. ويبدو أنني لم أتحمل الرخام البارد والمكيفات من فوقي فأصابتني رعشة وتجمدت أطرافي وسقطت من الإعياء.. نتم نقلي على كرسي متحرك إلى مستشفى أجياد المواجهة للحرم مباشرة وهناك قام الأطباء الذين كان معظمهم من المصريين بعمل اسعافات أولية لي .. عدة حقن ومحاليل ومسكنات.. أكثر من خمس ساعات ختى استعدت بعض قدرتي على الخروج.. استقللنا أحد التاكسيات لأكمل العلاج الذي استمر لأكثر من ثلاثة أيام في السكن المخصص لنا.. وكلما مر يوم دون الخروج الى الحرم.. زاد حزني وألمي.. لكنني قلت لنفسي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. فأراحتني الآية.
المشهد الحادي عشر .. عرفات ومزدلفة ومنى مقفرات موحشات بلا حجيج!
بعد أن تماثلت قليلا للشفاء واستطعت تحريك قدميّ قررت الذهاب للحرم.. كي لا نضيع وقتا أكثر مما ضاع في فراش المرض.. كنا قد اتفقنا مع أحد سائقي الليموزين المصريين.. على أن يحملنا ويعيدنا إلى الحرم كلما أردنا فقد كان أمامنا أسبوعا كاملا حتى موعد عودتنا لوطننا الحبيب.
في رحلات الحرم اليومية اقترح علينا السائق أن نذهب إلى جبل عرفة ثم نمر على مزدلفة ثم منى لنراهما بدون حجيج.. على الرغم من لهفتي لرؤية هذا المشهد.. لا أدري ما الذي جال بصدري حينها؟
حينما شاهدت وحشة المكان وفراغه من الحياة التي كانت تضج به عرفت سبب خوفي وقلقي.. أهذا هو عرفة الذي كان يموج بملايين القلوب والأفواه والأجساد والحناجر الملبية؟ أهذا هو جبل الرحمة الذي عج طوال نهار عرفة براغبي المغفرة وطالبي الرحمة؟
أهذه الطرق الموحشة هى الطرق التي كانت تمتلئ بالبشر والعربات التي تحمل قوارير المياه المثلجة والتمور الفاخرة والطعام من كل لون هدية سائغة لحجاج بيت الله؟
أهذه هى البقالات التي كانت مملوءة بم لذ وطاب .. أغلقت أبوابها وأنا التي وقفت على إحداها لأبتاع عصيرا وبعض البسكويت فأبى أحدهم إلا أن آخذ ما أريد لي ولعدد ممن في خيمتي ويدفع هو الثمن.. ففعلت لما استشعرته فيه من قمة العطاء والمنح والرضى..والرغبة في نيل الثواب.
أمام الحمامات العامة والتي كانت تنتشر في كل مكان.. كنت ترى طوابير النساء والرجال كلٌ على حدة.. كلٌ في مكانه.. خاصة مع اقتراب مواعيد الصلوات.. أين ذهب أولئك وهؤلاء؟ لقد خلت الشوارع فلا ترى سوى الصمت ولا تسمع سوى الوحشة.. السكون هو سيد الموقف.. لكأنك تسير وسط أرض اليباب أو الخراب التي تحدث عنها الشاعر الانجليزي الكبير (ت .س. اليوت )..
من فوق.. شاهدت قباب خيام منى أكاد أسمع نشيجها وأنين نحيبها على الأحبة الذين سكنوها من كل جنس ولون.. فهذا عربي.. وهذا آسيوي.. وهذا أوربي.. وهذا أورو متوسطي.. أين ذهبوا يا رب السماء؟
وعرجت على الطريق الذي كان يرهقني صعودا وهبوطا ومررت على مرمى الجمرات الذي كان يستغرق الساعات الطوال.. كل هذا لم يستغرق سوى دقائق معدودة.. ثم انطلقنا نحو السوق.. لنشتري بعض الهدايا ونأكل "الطعمية والشاورما والمسحّب" ومن بعدها آيس كريم مكة.. ألذ آيس كريم يمكن أن تتذوقه ها هنا.
مشهد26 .. العودة إلى مصر .. واشتعال الحنين
وانتهت الرحلة المباركة.. لكن سيظل حلم الطواف حول بيت الله الحرام وتقبيل الحجر الأسود والاغتراف من ماء زمزم الزلال بقصد التوبة والشفاء والتعلم والدعاء لمن نحب بما نحب .. ستظل هذه الأشياء هى الحلم الذي لا يدانيه حلم والأمنية التي لا تكافؤها أمنية..
حين يتأرجح الشوق في الصدر تقوى مناعة الروح، ويزداد التوكل ولا يشعر المرء بنفسه إلا وهو ييصير نسيجا واحدا وسط كل هذه الجموع الهادرة .. يتهادى جسده المتلاشي في رقة وليونة كموج البحر حول بيت الله المعظم في مدّ وجزر.. وحالة من الوجد والعشق لا توقفها الأوبئة أو أمراض أو عوارض جاءت وانتهت والتي يمكن اعتبارها في نهاية الأمر نوع من عوامل اختبار صلابة الروح في المضيّ بعزم وشوق.. نحو مركز الأرض.. ومركز الروح.. مكة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.