منذ 10 أبريل الماضى عندما اتفقت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى وقادة الاتحاد الأوروبى على تأجيل موعد البريكست إلى أكتوبر المقبل لإتاحة المزيد من الوقت للتوصل لتوافق فى البرلمان البريطاني، لم تتردد كلمة البريكست كثيراً على لسان ماى أو جيرمى كوربن زعيم حزب العمال المعارض. فقد انشغل كلاهما أولا بعطلة عيد الفصح، ثم فضيحة تسريب مناقشات مجلس الأمن القومى البريطانى وإقالة وزير الدفاع جافن وليامسون بتهمة تسريب المناقشات لصحيفة «ديلى تلجراف»، وأخيراً انشغلا بالانتخابات المحلية فى إنجلترا وأيرلندا الشمالية. ومع ذلك كان البريكست، حاضراً الوقت وخلال كل تلك التطورات. ففضيحة تسريبات المناقشات السرية حول «هواوي» مرتبطة بالبريكست وبرغبة عدد من وزراء الحكومة الرافضين لنهج ماى فى المفاوضات فى إضعافها والإطاحة بها عبر إظهارها بمظهر الضعيف فيما يتعلق بالأمن القومي. أيضا أطل البريكست برأسه فى كل منعطف للانتخابات المحلية. فقد خسر حزب المحافظين 1335 مقعداً كما فقد السيطرة على 49 مجلساً محلياً. وبينما كان من المتوقع أن يجنى حزب العمال ثمار إخفاق المحافظين ويحقق مكاسب كبيرة، مُنى الحزب بنتائج سيئة جداً وخسر 82 مقعدًا فى الانتخابات. فى المقابل حقق «الأحرار الديمقراطيين»، الذين يدعمون إجراء استفتاء شعبى ثان على البريكست، نتائج هى الأفضل منذ عقود، حيث حصلوا على 703 مقاعد. كما ضاعف الأعضاء المستقلين مقاعدهم ثلاثة مرات. أيضا حقق حزب «الخضر» نتائج جيدة وحصد 194 مقعداً فى المجالس المحلية. وقال زعيم «الأحرار الديمقراطيين»، فينس كابل، إن الناخبين «لم تعد لديهم ثقة بحزب المحافظين، لكنّهم يرفضون أيضاً مكافأة العمّال بينما يراوغ الحزب بشأن أهم مسألة اليوم وهى البريكست». هذه النتائج سيئة للحزبين الكبيرين. لكن الأسوأ قد يأتى خلال انتخابات البرلمان الأوروبى نهاية مايو الحالي. ومع أنه كان من المتوقع أن يخسر حزب المحافظين مئات المقاعد فى المجالس المحلية، إلا أنه لم يتوقع حتى أكثر المتشائمين فى الحزب أن يخسروا أكثر من 1300 مقعد. لكن الضربة الحقيقة جاءت لحزب العمال. فقد كان متوقعاً أن يفوز بمئات المقاعد الإضافية مستفيداً من تعثر المحافظين، لكن الحزب خسر مقاعد كان فوزه بها أمرا مسلما به، ما يكشف حجم سخط الناخبين على حزب العمال وزعامة جيرمى كوربن. فعادة ما يحقق الحزب الرئيسى فى المعارضة نتائج جيدة أمام الحزب الحاكم فى دورته الثانية. لكن بعد 9 سنوات سيئة بمعايير كثيرة من حكم حزب المحافظين، ما زال العمال غير قادرين على توجيه ضربة انتخابية لحزب المحافظين لا فى الانتخابات العامة ولا فى المحليات وهذه إدانة كبيرة لجيرمى كوربن. حزب يعانى أزمة هوية ووفقاً للنتائج النهائية فإن حزب العمال خسر بكثافة فى معاقله التقليدية فى المدن العمالية الصناعية فى شمال إنجلترا، والتى كانت فى الماضى بمثابة «عمود فقري» له والفوز بها مضمون. فقد خسر الحزب مثلا مدينة ستوك فى شمال إنجلترا التى توجه إليها كوربن لتدشين حملة الحزب الانتخابية. كما خسر الحزب مدينة سوندون وهى معقل تاريخى له. وتشير النتائج فى المدن الشمالية إلى أن حزب العمال يخسر أصوات «الطبقة العمالية» بسرعة مثيرة للقلق. وبرغم أن الحزب حقق نتائج أفضل فى جنوبإنجلترا، فى مناطق تعتبر تمثيلا للطبقة الوسطي، إلا أن مكاسب مدن الجنوب لم تعوض خسائر مدن الشمال العمالية. وهناك سببان أساسيان لتلك النتائج السيئة للعمال. أولا أن الحزب أصر على «مسك العصا من المنتصف» فى البريكست. فهو من ناحية يؤكد التزامه بتطبيق نتائج تصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبى فى 2016 كى يرضى قواعده فى الشمال التى صوتت بكثافة للبريكست، لكن من ناحية أخرى قدم وعودا غامضة لإجراء استفتاء شعبى ثان إذا تم البريكست على يد حكومة من حزب المحافظين كى يرضى سكان المدن البريطانية الكبيرة التى صوتت بالبقاء فى الاتحاد الأوروبي. هذا الموقف الملتبس أسهم فى خسارة حزب العمال مئات المقاعد. وهى المقاعد التى نالها حزب «الأحرار الديمقراطيين» الذى أعلن منذ البريكست أنه يرفض القرار وسيحاول النكوص عنه، أما بإلغاء المادة 50 من معاهدة لشبونة التى بدأت مسار الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو بإجراء استفتاء شعبى آخر. لكن العامل الآخر الذى كبد حزب العمال هذه المقاعد هو جيرمى كوربن نفسه. وبعد النتائج، تعالت أصوات داخل الحزب تدعوه لإعلان دعمه بشكل لا لبس فيه لإجراء استفتاء شعبى ثان على البريكست، مشيرة إلى أن «الأحرار الديمقراطيين» الذين يدعمون اسفتاء ثانيا حققوا نتائج أفضل من المتوقع بسبب جذبهم لأصوات مؤيدى البقاء فى الاتحاد الأوروبي. البريكست يشل بريطانيا كما أن الكثير من الناخبين التقليديين للعمال لا يعتقدون أن كوربن سيكون رئيس وزراء جيد بسبب سياسة «القبضة الحديدية» التى يدير بها الحزب، وميله لأنصاف الحلول، وفقدانه للكاريزما وبعض سياساته التى تميل لأقصى اليسار، ومن بينها تأميم المواصلات العامة وشركات الطاقة والكهرباء والمياه وزيادة الإنفاق الحكومى بالديون الخارجية. وعلى قدر رفضهم لتيريزا ماى وسياساتها، على قدر شعورهم أن كوربن لن يكون الرجل المناسب للحلول مكانها. وهذا يقود إلى الأزمة المركبة والمعقدة التى تعانى منها ماى نفسها فى حزبها ووسط الناخبين. فالبريكست يبدو كقطار معطل غير قادر على الحركة فى أى مكان وهو يشل بريطانيا معه. وفى نظر غالبية الناخبين يتحمل حزب المحافظين الحاكم المسئولية الأكبر بسبب انقساماته الحادة حول البريكست. وبعد النتائج المفجعة للحزب وهى الأسوأ لحزب المحافظين منذ 1995، دعا مسئولون كبار إلى «وحدة الحزب» لحمايته من الانهيار الكامل بعدما خسر الحزب فى معاقله التقليدية فى الجنوب مثل اكسفوردشاير، وسامرست، وديفن، ونورفك، وهرفوردشاير وهى مدن طبقة وسطى تقوم على القطاع الخاص، وتصويتها ضد الحزب يعنى أن المحافظين لم يعد حزب المال والأعمال فى بريطانيا. واعترفت رئيسة الوزراء بأن النتائج فاقت حتى أسوأ توقعات الحزب الحاكم، واعتبرتها بمثابة رسالة من الناخب لحزبى «المحافظين» و«العمال» مفادها «نفذوا البريكست». وتابعت «إنّها أوقات عصيبة لحزبنا، ونتائج الانتخابات هى أحد أوجه ذلك». واعترف وزير الداخلية البريطانى ساجد جاويد، وأحد المرشحين لخلافة ماي، بأن الناخبين لديهم «أزمة ثقة» مع الحكومة بسبب البريكست. وقال إن الانتخابات الأوروبية «ستكون أكثر تحديا». فيما قال وزير الصحة، مات هانكوك، إن الحزب الحاكم «بحاجة إلى الإنصات إلى النتائج». من ناحيته، قال وزير الخارجيّة البريطانى جيريمى هانت إنّ النتائج «بمثابة صفعة للحزبين الرئيسيين». وتعالت الأصوات المطالبة ماى بالاستقالة. وقال النائب المحافظ نايجل ايفانز إن استمرار ماى على رأس الحزب سيكبد المحافظين مقاعد كثيرة خلال انتخابات البرلمان الأوروبى المقررة بين 23 و26 مايو الحالي. ووفقاً للقواعد الداخلية لحزب المحافظين، لا يستطيع نواب الحزب الحاكم طلب تصويت بسحب الثقة من ماى إلا فى ديسمبر المقبل. طريق مسدود وبالرغم من أن ماى وكوربن يريدان المضى قدما فى مفاوضاتهما من أجل اتفاق «حل وسط» بين الحزبين الكبيرين حول البريكست، إلا أن المؤشرات توضح ان أى اتفاق بينها لن ينال الدعم الكافى فى البرلمان. فكوربن يريد أن تظل بريطانيا فى اتحاد شراكة جمركية مع الاتحاد الأوروبى بعد البريكست وهذا خط أحمر للمئات من نواب حزب المحافظين الحاكم. وبالمقابل تريد ماى أن يتم إلغاء فكرة إجراء استفتاء شعبى ثان على أى اتفاقية بريكست، وهذا خط أحمر للمئات من نواب حزب العمال الذين يصرون على أن أى اتفاق يجب أن يخضع لتصويت شعبى ثان للتصديق عليه. وواقعياً يعتقد الكثير من المراقبين أن طريق «البريكست التوافقي»، أى الذى يتم عبر توافق بين الحزبين الكبيرين، أصبح طريقا مسدودا. فالمفاوضات بين كوربن وماى متعثرة جدا ومن الأفضل إعلان فشلها والبحث عن بدائل أخري. لكن ما هى البدائل الأخري؟. البعض يقترج إجراء انتخابات عامة مبكرة للخروج من الأزمة الحالية، لكن من غير المرجح أن يدعم الحزبين ذلك الخيار. فنتائج الانتخابات المحلية تعنى أنه إذا جرت غداً انتخابات عامة مبكرة، لن يحقق المحافظين أو العمال الأغلبية المطلوبة لتشكيل حكومة، بل سيفقدا مقاعد إضافية، أى أن بريطانيا ستكون أمام سيناريو «برلمان معلق» على غرار البرلمان الحالى ما يعنى تواصل «الشلل السياسي» الذى تعانى منه البلاد. البعض الآخر يقترح تغيير فى زعامة الحزبين، لكن هذا أيضا لن يحل أزمة البريكست. فالبرلمان منقسم بشكل حاد وتغيير كوربن أو ماى لن يعالج الانقسامات فى البرلمان. البعض يقول إن الحل الوحيد هو إجراء استفتاء شعبى ثان على البريكست. وهذا قد يكون الملجأ الأخير لكنه يحتاج إلى شجاعة سياسية من ماى وكوربن وهى شجاعة ليست هناك مؤشرات على أنها موجودة. ووسط كل هذا يواجه الحزبان معركة صعبة فى انتخابات البرلمان الأوروبى نهاية الشهر الحالي. وسيزيد صعوبة المعركة أن الانتخابات المقبلة سيشارك فيها «حزب البريكست» الجديد بزعامة نايجل فاراج، وحزب «تغيير بريطانيا» بقيادة مجموعة من نواب حزبى «العمال» و«المحافظين» الذين استقالوا من الحزبين الكبيرين لتأسيس ذلك الحزب الذى يريد إجراء استفتاء شعبى ثان على مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي. ويعنى هذا أن الحزبين الكبيرين بصدد خسارة المزيد من الأصوات لمصلحة الحزبين الجديدين. أى أن مسلمات السياسية البريطانية وعلى رأسها أن «انتكاس المحافظين يعنى انتعاش العمال» و«انتكاس العمال يعنى انتعاش المحافظين» تتحطم. فالحزبين يتهاويان معا فى الوقت نفسه على صخرة البريكست.