* حرفة تقليدية فى انتظار "مجلس قومى" لإحيائها وتعظيم مواردها ماذا لو علمنا أن نصيب الحرف التقليدية من التجارة العالمية يفوق ال 100 مليار دولار، بينما نصيب مصر من هذا الكم، يتقدم فى استحياء، متأرجحا بين الصعود والتراجع، وفقا للمجلس التصديرى للصناعات اليدوية؟..ففى عام 2017 سجلت صادراتنا 202 مليون دولار مقابل 230 مليون خلال 2016، لتعاود الارتفاع عام 2018، وتسجل نحو 210.763 مليون دولار.. حتى المستهدف من ورائها لا يرقى أبدا لتاريخنا او تراثنا، حيث نخطط للحصول فى نهاية 2025 على نحو 450 مليون دولار.. ولو نظرنا لدول المنطقة، لصدمتنا الأرقام وحجم الصادرات من الحرف التقليدية، فقد حققت المغرب نسبة نمو بلغت 16 % خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وحققت الإمارات دخولا مضاعفة من صادراتها، والحديث سيطول عن الهندوتونس، وغيرها من الدول التى خصصت وزارات بأكملها للصناعات التراثية.. والسؤال الآن لماذا تكاد الحرف التقليدية تندثر فى مصر رغم تاريخنا الطويل؟ والأهم كيف ننميها اقتصاديا واجتماعيا وسياحيا؟ وكيف نوقف نزيف الملايين التى يفقدها الاقتصاد المصرى بسبب انفراط عقد تراث وحضارة أجدادنا؟ ...................................................................... فى البداية، وباختصار، نشير إلى أن الصناعات التقليدية قادرة بأقل تكلفة على توفير فرص عمل لآلاف العاطلين ومن مختلف المؤهلات، وكذلك لغير المتعلمين وذوى الاحتياجات الخاصة، مع الاعتماد على الخامات المحلية المتوافرة فى المحافظات المختلفة، إضافة إلى مساعدة المرأة، سواء كانت المعيلة (الأرملة أو المطلقة) أو ربة المنزل، على العمل فى الأوقات التى تناسبها، أما التدريب والتأهيل فهو منخفض التكاليف، لاعتماده على أسلوب التدريب أثناء العمل فضلا عن استخدامه فى الغالب للتقنيات البسيطة غير المعقدة. لذلك حاولت «الأهرام» البحث والتنقيب وسؤال المتخصصين، للحصول على رد شاف وواقعى، من أجل توحيد المجهودات المتناثرة، وجاءت الردود شبه مجمعة على ضرورة تشكيل «مجلس متخصص» أو «مجلس أعلى للحرف التقليدية» يمتلك إستراتيجية ورؤية شاملة، وقادر على توحيد الجهود. ولكى ينجح هذا المجلس يجب أن يتبع مباشرة رئيس مجلس الوزراء ويديره مجلس أمناء من قادة الحرفيين والباحثين والمسئولين عن هذا المجال- كما يقترح الفنان التشكيلى عز الدين نجيب رئيس مجلس ادارة جمعية أصالة لرعاية الفنون والمعاصرة- وممثلين عن العديد من الوزارات والهيئات التى تخصص الدولة لكل منها ميزانية خاصة، على أن تصب هذه الميزانيات جميعا فى معين واحد هو صندوق تنمية الحرف التراثية، ومن خلاله يجرى الإنفاق وتقديم الدعم والرعاية للأفراد والجمعيات بإعطائهم دفعات مالية كمقدم إنتاج يسدد فى شكل منتجات ذات مواصفات معينة، وإقامة مشروعات متناهية فى الصغر للشباب والمواطنين فى محال إقامتهم، مع وضع معايير للجودة لقياس قيمة هذه المنتجات وتحديد أسعارها.. ولكى يتم التطوير بشكل علمى – يقترح عزالدين نجيب- إنشاء مركز للابحاث والدراسات الميدانية، ضمن منظومة المجلس، من مهامه وضع المادة العلمية حول الحرف التقليدية، وجمع البيانات الاحصائية عن المشتغلين بها فى مصر والقيام بالدراسات والابحاث المتصلة بماضيها وحاضرها ومستقبلها، وإصدار الكتب والموسوعات العلمية عنها، ووضع تصميمات مبتكرة أو مطورة لأنماط الحرف عن طريق الفنانين لفتح آفاق جديدة نحو انتشارها وتعايشها مع متطلبات العصر. ولم يغفل المشروع المقترح من جمعية أصالة، بل وضع ضمن أولوياته، إقامة نظام للتأمين على الحرفيين ضد المرض والعجز وتوفير المواد الضرورية للانتاج بتيسيرات جمركية، ودعم تصدير المنتجات بحوافز تشجيعية وضمان حق الملكية الفكرية وغير ذلك من أنواع الحماية للمنتج المحلى فى مواجهة الزحف الذى يغزو البلاد بالمنتجات الاجنبية بعد أن أدى عجز المنافسة المصرية لها الى انسحاب الكثير من منتجاتها من السوق وهجرة أغلب الحرفيين المهرة واللجوء الى أبواب أخرى للرزق. ومن المأمول أن يقوم «المجلس القومى للحرف التقليدية» برعاية واحتضان الكثير والكثير من الحرف التى قد تتجاوز 40 حرفة تراثية منها فنون النسيج اليدوى، السجاد والكليم، نسيج الحرير، الحصير، الازياء التراثية، فنون التطريز وأشغال الابرة، الخيامية، وفنون النجارة الدقيقة، المشربية والخرط، وفنون التطعيم بالصدف، صناعة الالات الموسيقية، المصاغ الشعبى، المشغولات النحاسية (الاوانى وفنون التقبيب والتخريم والشفتشى) وفانوس رمضان، وفن التكفيت بالفضة.
كما أن هناك حرفا أخرى من المقترح رعايتها ومنها زخارف العمارة بالنحت على الحجر والزخارف الرخامية والفسيفساء والخط العربى، وكذلك فنون الحرف الفخارية التى تشمل الفخار، والخزف، والنحت الفطرى، والزجاج بالنفخ، والزجاج المعشق، وغيرها من الحرف التراثية. أنقذوا الشفتشى والتلى وفى الحقيقة، فإن تأسيس مظلة قومية للمهن لن يحولها فقط الى رقم معتبر ضمن الصادرات المصرية ولن يجعلها رافدا من روافد السياحة فحسب بل سيحميها من الاندثار،،فمن أشهر الحرف التى كادت تندثر «الشفتشى»..وهى مهنة تجمع بين نعومة التصميم وخشونة النحاس، فمن هذا السلك يتم بحرفية شديدة تشكيل القطع وكأنها «دانتيل»، ثم يطلى بالفضة، ويستخدم فى صناعة وحدات الإضاءة من نجف وأباجورات وشمعدانات والاكسسوارات. أما «التلى» فقد اشتهرت به قرية شندويل بمحافظة سوهاج والذى يعد أحد الفنون المصرية لتطريز النسيج بخيوط من الذهب والفضة وتتقنه المرأة الصعيدية منذ عدة عقود،و للاسف فإن هذه الصناعة تواجه العديد من المشكلات التى أدت إلى تدهورها. والبطل الأشهر فى تلك الحرف هو فانوس رمضان بشكله التقليدى واحتلت الاشكال الصينية العجيبة مكانه. واختفت العمالة الماهرة التى كانت تحتمل النيران لتبدع قطعة زجاجية رائعة من عجينة ملتهبة بالنيران، فتخيل أن تكون خزافا أو فرانا تعمل أمام فرن تتجاوز حرارته الالف درجة مئوية،فهذا أمر يمكن احتماله بقدر من الحيطة والصبر،أما أن تكون فى فوهة النار ممسكا بماسورة تنتهى بكتلة عجين من الزجاج الطرى،وتنفخ فيها كل الهواء الذى تمتلئ به رئتاك،فتشكل باليدين والانامل المرهفة من العجينة الملتهبة أشكالا كأنغام عازف الأرغول،فتلك مقدرة لا تتأتى إلا لمن منحه الله صبرا فوق حدود البشر وعشقا للحظة الخلق،التى يشكل فيها نافخ النار والقابض عليها بدائعه الرقيقة الملونة بكل الألوان.. الغريب ان تلك الحرفة المصرية بامتياز تعلمتها منا شعوب العالم حتى صارت إيطاليا على سبيل المثال تجعل منها مصدرا مهما للدخل الاقتصادى،أما فى بلدنا فقد تدهورت وأوشكت على الانقراض. الفخار «محظوظ» وبخلاف المهن السابقة يعد الفخار «من الفنون المحظوظة لأنه وجد سبيلا للتدريب والتسويق فى قرية تونس بمحافظة الفيوم التى تحولت لخلية نحل،ما بين تدريب وعمل وتسويق،والحقيقة طاقات الأمل تسكن هذا المكان فتعلم الأطفال فن الفخار منذ نعومة أظفارهم، حتى صاروا شبابا يتقن هذه الحرفة، سافروا واجتهدوا وشاركوا فى معارض عالمية، ومن النماذج ( المفرحة) إبراهيم سمير- صاحب ورشة بالقرية- والذى قال إنه تعلم صناعة الفخار منذ صغره على يد الفنانة الالمانية إيفلين التى تعيش بالقرية منذ عدة عقود وأقامت مدرسة لتعليم المهنة، وفتحت بعلاقاتها القوية بفرنسا وبلجيكا وعدد من الدول الاوروبية أسواقا واعدة له ولكل جيرانه الذين امتهنوا صناعة الفخار،وشاركوا فى معارض دولية عديدة،وأقاموا معرضا سنويا فى مصر برعاية أحد البنوك الكبرى، ويشير سمير الى أن الخزافين المصريين لهم شهرة عالمية فى مختلف الدول،لافتا إلى أنه يقوم بتدريب أطفال قريته على صناعة الفخار حتى لا تندثر المهنة،بينما تشير أمل محمد من نفس القرية الى تعلمها الفخار منذ الصغر وبعد زواجها علمت زوجها لتحترف الاسرة هذه المهنة وتتغير ظروفها المادية للافضل. أمل لذوى الإعاقة وإذ تقرع «الاهرام « كل النواقيس لافتة الانتباه ومطالبة باهتمام الدولة بكافة مؤسساتها بالحرف التراثية لما لها من مرود على خفض معدلات البطالة وتوفير عملة صعبة للدولة، فإن هناك فئات اخرى يمكن ان تستفيد بشكل اكبر وهم ذوو الاحتياجات الخاصة، فتقول دينا حسن المدير التنفيذى لوحدة إحياء وتنمية التراث والحرف اليدوية إن المهن التقليدية أصبحت أحد أهم محاور التنمية فى برامج العمل مع الفئات الأكثر احتياجاً، وتوضح أن مجالات الحرف اليدوية وتحديداً البسيطة منها مثل منتجات الديكوباج والاكسسوارات والصلصال الحرارى جميعها تتناسب ووضع الأشخاص ذوى الإعاقة فى الحد من صعوبات التعامل معهم فى سوق العمل، فيمكنهم العمل داخل منازلهم وسط بيئة آمنة وبعيداً عن اى مضايقات قد يتعرضون لها. وتطالب دينا حسن بتواجد فعال من قطاعات الدولة، ليس فقط فى توفير أسواق مناسبة لترويج منتجات الحرف التراثية بل إحكام الرقابة على منظومة التدريب والتأهيل، ووضع قواعد ثابتة وعقوبات رادعة لكل من يعبث بمجالات التدريب ويحولها إلى وسيلة للكسب المادى وتحقيق النفع الشخصى له بعيداً عن الاهتمام بجودة الدورات التدريبية ومخرجاتها، معربة عن قلقها من استخدام وسائل التواصل الاجتماعى فى الترويج لما يسمى بالمبادرات وهى فى الحقيقة (وهمية) تستغل الرغبات والطاقات الساعية إلى التعلم فى تنفيذ دورات دون المستوى المطلوب مما يؤثر سلباً على منتجات الحرف اليدوية والتراثية المصرية وتشويهها. وأخيرا.. ننتظر تحرك الدولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتوحيد الجهود المتناثرة لتعظيم حجم صادراتنا من الحرف اليدوية لتتخطى حاجز الارقام المحزنة التى لا تتلاءم ابدا وتاريخ الحضارة المصرية والتراث الشعبى.