هل قابلت من يشعرك بتاريخك الهش أو الوضيع؟، وهل تلاشيت بنظرة واحدة؟، وهل شعرت بضآلتك، وتفاهتك؟، إذا حدث لك هذا، فمن المؤكد إنك التقيت ب « ميمى شكيب»، تلك التى لن تتنازل أن تطلق لسانها لتهينك وتشعرك بحجمك الحقيقى، وتنبهك قبل أن تتحدث بمقدارك التافه، بل إنها لن تتوانى أن تشير بيديها أو بنظرة عيونها للخدم كى يحملوك ويقذفوك للخارج. ............................................................. لنصف قرن، كانت «ميمى شكيب» أو «أمينة شكيب» وهو اسمها الحقيقى، والمولودة فى ديسمبر 1913، وحتى رحيلها الغامض فى مايو 1983، تطل علينا بهذا القدر من التعالى والسخط وكأنها لا ترى أحدًا أمامها، تتحدث وقد وضعت قدما على أخرى، وشفتاها تقبضان على السيجارة الرفيعة فى المبسم ليزيدها طولا وكأنها تريد أن تخذق لك عينيك، بنظرة واحدة تتحدث، وبنظرة واحدة تأمر، وبنظرة واحدة تطيح وتنتقم، لا ترهق نفسها فى المجادلة أو الحديث الكثير، فكلماتها قليلة، وأفعالها مرعبة ذات تأثير وفاعلية نادرًا أن نراها فى معشر النساء. »ميمى شكيب» وجه لا ينسى مهما مر عليك الكثير من النساء، صاحبة الجسد المقلق، والسيرة الأشد إقلاقًا، والتى كانت تمتلك فما لا يعطى إلا الأوامر، ويشخط وينطر باستمرار. والجميل أن هذا الفم كان له ضحكة حادة، وصوت مميز ببحة إفرنجية، يجعلك تنتبه له بين ملايين الأصوات، وأسفل هذا الفم، نجد تفاصيل الجسد الممتلئ بثقل تاريخى متوتر، بين مجد الأرستقراطية العظيم وانسحاقها فى بئر التاريخ، النهد المرتفع كجبل المقطم، والأرداف التى تؤكد لك أن سيدة هذا البيت لا تغادر المقعد، أى إنها لا تقوم بأى شيء من أعمال البيت، والخصر الذى يضعك فى قلق وتوتر مستمر وكأنه جبهة حرب مشتعلة، والشفاة التى تخرج الكلمات بحساب دقيق، والحاجب الذى يتحرك بتوازن رهيب مع كل كلمة، مؤكدًا تفاخرها بهذا الماضى، واستعداده بأن يحمَّل بكل السباب والشتائم. يعود كل ذلك بالتأكيد لحياتها وشبابها وأصولها الشركسية، فطريقة الأمر والنهى قد تعلمتها من والدها- كان مأمورًا لقسم بوليس حلوان- فإذا أضفت إليها والدتها التى كانت سيدة أرستقراطية بامتياز، وتتقن العديد من اللغات، تعلم من أين جاء إتقانها لهذه الأدواء. وكتلميذة تخرجت من مدرسة العملاق « نجيب الريحانى»، استطاعت أن تظهر قدرات تمثيلية خاصة بها، فى الإلقاء، والأداء الجسدى، واستغلال قدرات وتفاصيل وجهها المعبر سواء بالعيون أو الحواجب أو الشفاة. وهذا ما جعل بعض أدوارها لها مذاق خاص، يؤكد تفردها كفنانة لها طعم مميز. فيكفى أن نعلم إنها الوحيدة التى استطاعت أن تهين السيد «أحمد عبد الجواد»، بجبروته وقسوته كنموذج للرجل الشرقى، فهى التى تعلم سره وأفكاره، وهو الذى كان يذوب فى «كعب شبشبها» ويشرب الويسكى فى حذائها، لذا نجده كفأر مذعور عند حضورها فى فرح ابنه، إنها الراقصة «جلجلة» ملكة العوالم وسلطانة الطرب، و«قطعة الزبدة السائحة» باعتراف السيد أحمد عبد الجواد ورفاقه فى فيلم «بين القصرين». هذا التعالى والقدرة النسائية «الفاجرة»، يجب أن تتأمله فى دور «درية هانم» بفيلم «شاطيء الغرام»، كعمة «لعادل حسين صدقى»، إنها لا تتوانى عن تقديم ابنتها للزواج منه، من أجل الحصول على الثروة وإنقاذ أسرتها من الإفلاس، فهى جالسة كعازفة بيانو لخراب حياة « عادل»، تعزف بكل براءة المؤامرات، وتحيك النغمة على النغمة حتى يصبح لحنا لا يشدو به إلا الغربان. وعلى أوتار ألحان الخراب التى تهوى عزفها، جاء جبروتها الحقيقى فى فيلم «دهب»، كزوجة أب تعلم أن زوجها خانها مع الخادمة، كانت قاسية وحادة، لكنها لم تنفر من الزوج أو تفارقه، بل قدمت انتقامها من ابنته الطفلة « دهب»، فتأمر زوجها بأن يطلق تلك الخادمة، ثم التخلص من الطفلة الرضيعة، كقطعة لحم تلقى للكلاب، لكن وبعد أن يفقد زوجها ثروته على مائدة القمار، كانتقام سماوى، وتتبدل الأحداث، وتعلم بثراء الابنة «دهب» من وراء عملها فى الفن، نجدها بكل بساطة- وسط صلفها وجبروتها- تطلب حضانتها، كما أنها لم تتوان عن تقديم المبررات لإنقاذ نفسها، كانت تؤدى كل هذا وهى تمسك فى يديها أوراق « الكوتشينة»، إنها اللاعبة الماهرة فى بوكر الحياة. وفى فيلم « إحنا التلامذة»، حيث الأم المستهترة، التى تقضى نهار يومها فى النادى وليلها على مائدة القمار، فتدهش بأن شخصية مثل تلك توجد فى الحياة، حتى عندما يخطئ الابن «سمير- يوسف فخر الدين» مع الخادمة «زيزى البدراوى» لا تهتم، ولا ترتبك، فقط تذهب لحقيبة نقودها كى تسدد ثمن أخطاء ابنها، فكل شيء بمقابل وكل شيء له ثمن حتى الأعراض. الجميل أن «ميمى شكيب» كانت تعلم ما يدور فى عقولنا نحن الرجال، لكنها لم تقدم لنا نفسها لتثيرنا بمفاتن جسدها، بل إنها تقدم للنساء الخبرة والتجربة وكيف يتعاملن مع الرجال، وكيف يزدن من مكرهن، وكيف يتم تسوية الرجال على جمر الاشتياق، ويجعلنهم يدورون فى فلكهن حتى لو كن فى النصف الآخر من هذا الكوكب. فى «دعاء الكروان» كانت شخصية أخرى لم نعتدها، الخبرة المدوية فى الحياة، والرؤية الثاقبة أيضًا، فى دور « زنوبة - المخدماتية والغازية والمرابية» وهو من أهم ما قدمت للسينما، ونالت عنه جائزة أفضل ممثلة لدور ثان. فكل ما سبق كوم، ودورها فى هذا الفيلم كوم آخر، وكأنه تم استبدالها بأنثى أخرى، كانت هى الحضن الذى يتلقى الانكسار القادم فى تلك النساء: الأم والابنتين « أمنية رزق، وزهرة العلا، وفاتن حمامة»، ترقص « زنوبة « وهى تصفق بيديها وتنظر لهما، تحاصرهن بعيونها وكف يديها وكأنها تعتصرهن لإخراج ما فى صدورهن، رغم ثقل البوح على لسان الأم المكلومة « أمينة رزق». لنتأمل « زنوبة» صاحبة الوجه المكشوف، التى لا تستحيى ولا تخجل، تتحدث بطلاقة، ونادرًا ما يتوقف لسانها الطويل، حادة، وواعية بوجهها الأبيض المستدير كرغيف خبز حام لا يبرد، العيون المتسعة كبئر ماء فى صحراء الأنثى الخام، الرموش الحادة التى تظلل أحيانا وتصبح سهاما أحيانا أخرى، الخدود الممتلئة والتى تخشى أن تقبلها من حدة الرموش الذى تحرسها، الوشم على وجهها وذقنها يزيدها بهاء ورهبة، وكأنها لا تخشى شيئا فى تلك الحياة، وفمها المتناسق المتسع بعرض الوجه، كأنه عين مياه فى قناطر الحياة، دلالة وراقصة ومرابية، تحدثها ضاربة الودع بأنها تقدم القرش وتأخذه أربعة، وأنها لا تقدم شيئا مجانيا، فتتركها « ميمى شكيب» وتقترب من «الأم - أمينة رزق» وتخبرها فى خبرة امرأة سوق حقيقة، «إذا كنتى شايلة الهم، نشيله سواء»، ثم تسحب « آمنة- فاتن حمامة» من يديها وتخبرها وهى تربت على صدرها، «لما يضيق بك الحال، زنوبة خدامتك»، إذًا هى الخبرة، وهى الرؤية، وهى البهجة الحقيقية فى هذا العمل المثقل بالهم الأنثوى الخالد، فتكمل لها وتقول: أسألى على زنوبة وألف من يدلك أنا فين». وعندما تهرب « آمنة» من بيت المهندس « أحمد مظهر»، وتحاول العودة، تبحث عن «زنوبة»، فتستقبلها بعيون متسعة وهى جالسة تحتسى قدح القهوة، تنظر ل «آمنه» وهى تدخن سيجارتها، وكأنها محقق جنائى فى الحياة، وتقول لها بنظرة واحدة «بقى أختك راحت فى الوباء»، هى تعلم الكذب الذى تتحدث به «آمنه»، ومع ذلك تساعدها عندما تطلب «آمنة» نجدتها فى محنتها، فتقدم لها خبرتها وتقول: «الرجالة زى السمك، يشاهدون الطعم ولا يرون السنارة» وفى الصباح تسحب خلفها «آمنه» لبيت المهندس، إنها سجانة حقيقية تمتلك مفاتيح الحياة، تعلم أن هذا الطائر محبوس لن يطلق فى السماء إلا من هذا البيت الغارق فى الحب. ربما كنا دائمًا وبيننا وبين أنفسنا- نريد أن ننتقم من « ميمى شكيب» كزوجة أب مسيطرة وقاسية، أو سيدة أخذت حقا غير حقها، أو دست إشاعة بين حبيبين ففرقت بينهما، فجاء القدر بعاصفة أطاحت بها، ووصمت سمعتها فى قضية شهيرة تحمل اسم « الرقيق الأبيض» فى منتصف السبعينيات. » ميمى شكيب» طبق المهلبية الأرستقراطية التى تمتلك أنوثة لم تحتملها شاشتنا البريئة، ستظل حياتها لغزا كبيرا، لغزا جعل من سيرتها حكاية، ومن جسدها كفنا، ومن موتها أسطورة لا نستطيع فك شفراتها حتى الآن.