عاش العرب بعد حصولهم على الاستقلال نحو ربع قرن كانت معادلة أمنهم القومى فيه شديدة الوضوح، فقد كانت مصادر التهديد تتمثل فى بقايا الظاهرة الاستعمارية وما ارتبط بها من مشروع استعمارى استيطانى على أرض فلسطين، والتحولات التى طرأت على سياسات قوى الهيمنة والتى تمثلت فى محاولات إلحاق الدول العربية بنظام الأحلاف الغربي، كما تمثلت فى عدد من المشاريع كقيادة الشرق الأوسط فى مطلع خمسينيات القرن الماضى وحلف بغداد فى منتصفها ومشروع أيزنهاور فى 1957، وكانت القوى الإقليمية الكبرى آنذاك جزءاً من مشروع الهيمنة الغربيةكتركيا الأطلنطية وإيران التى كان نظامها مخلب قط لهذا المشروع، وكان هناك إدراك عربى واحد لمصادر التهديد، وحتى النظم التى كانت تتوافق مع هذا المشروع اختياراً أو اضطراراً لم تكن تجرؤ بصفة عامة على أن تعلن هذا، وكان نصيب من أقدم على هذا هو الاندثار كما حدث للنظام الملكى فى العراق الذى اتخذ الخطوة الأولى فى تنفيذ محاولة ربط الوطن العربى بنظام الأحلاف الغربية بتوقيع ميثاق بغداد مع تركيا فى 1955، وكانت السنوات من 1967 إلى 1973 خير دليل على وجود معادلة متفق عليها للأمن القومى بين الدول العربية رغم اختلاف نظمها، فعقب الهزيمة انتهى الاستقطاب الحاد بين مصر والسعودية حول ثورة اليمن، وتم التوصل فى قمة «الخرطوم» إلى استراتيجية لإزالة آثار العدوان الإسرائيلى طُبقَت بنجاح حتى حرب أكتوبر المجيدة، ويُلاحظ أن الانشقاق المصري - العربى الذى وقع حول سياسة الرئيس السادات لتسوية الصراع مع إسرائيل لم يكن ناجماً عن اختلاف فى تقدير مصادر التهديد، وإنما حول إدارة الصراع مع إسرائيل وإمكانية أن تكون بالوسائل السلمية. ومع نهاية السبعينيات حدث تغير فى المعادلة بنجاح الثورة الإيرانية التى لم تُخف نياتها فى تصدير أفكارها وبالذات للبلدان المجاورة، وأتبعت القول بالفعل بسلسلة من الأعمال المزعزعة للأمن فى بلدان الخليج أفضت فى النهاية إلى نشوب الحرب العراقية-الإيرانية فى 1980،التى استمرت حتى 1988، وفى البداية حقق العراق انتصارات لأنه كان المبادر بشن الحرب، لكن قواته ارتدت إلى حدوده الدولية فى 1982 تحت وطأة المقاومة الإيرانية العنيدة، وبدا بعد ذلك وكأن الحرب يمكن أن تتطور فى اتجاه غير موات للعراق وبالذات بعد نجاح إيران فى اختراق شبه جزيرة الفاو العراقية فى 1986، الأمر الذى عقّد معادلة مصادر التهديد، فقد أُضيف للمصدر التقليدى المتفق عليه - الذى يجسده الخطر الإسرائيلى - مصدر آخر يتمثل فى النظام الإيراني، ذلك أنه كان من شأن هزيمة العراق أن يقع الخليج كله تحت التهديد الإيراني، وهنا تداعى العرب فى 1987إلى قمة «عمان» التى كانت القمة العربية الأولى التى تبحث هذه المعضلة، وتمثل الحل فى بدء تراجع السياسة العربية عن موقفها المتشدد ضد سياسة التسوية السلمية المصرية بقرار قمة عمان القاضى بأن مسألة عودة العلاقات الدبلوماسية مع مصر هى مسألة سيادة، وكان الموقف العربى قبلها أن العلاقات قد قُطِعَت بقرار جماعى ولا تعود إلا بالطريقة نفسها، وعلى الفور أعادت الدول العربية علاقاتها مع مصر عدا سوريا وليبيا اللتين أخرتا هذه الخطوة حتى 1989 بعد أن حدثت تغيرات استراتيجية فى النظامين العالمى (جورباتشوف وسياساته التى ترتب عليها وقف تزويد سوريا بالأسلحة)، والإقليمى (هزيمة إيران التى كان النظام السورى يؤيدها)، وكان المعنى الواضح لهذا أن مواجهة الخطر الإيرانى لا يمكن أن تكتمل إلا بوجود الثِقَل المصرى فى معادلة الأمن العربي، ومن ثم أنه فى مواجهة الخطر الإيرانى لا بأس من تخفيف الموقف العربى المتشدد تجاه سياسة التسوية المصرية مع إسرائيل، خاصة أن قمة بفاس» كانت قد اعتمدت مبادرة ولى العهد السعودى آنذاك لتسوية الصراع مع إسرائيل وإن بصيغة مغايرة لكامب ديفيد. ويعنى ماسبق أن معضلة ترتيب الأولويات فى مصادر تهديد الأمن القومى العربى ليست جديدة وإن تجاوز الجدل حولها الآن حدود المعقول بوجود من يقولون إن إسرائيل لم تعد تمثل خطراً على الأمن القومى العربي، وأن الخطر يتمثل فى إيران وحدها، وهى وجهة نظر تدفع الولاياتالمتحدة وإسرائيل بقوة فى اتجاهها إلى حد الحديث عن ناتو عربى يضم إسرائيل أو يتعاون معها ضد إيران وهذا هو الخلط الخطير بعينه، فهل من كلمة سواء فى هذا الصدد؟ ذلك أنه لا شك فى أن كلاً من القوى الإقليمية الثلاث الكبرى المحيطة بالعرب يمثل تهديداً للأمن القومى العربى بغض النظر عن اختلافنا حول ترتيب أهمية هذه التهديدات، ولا يحتاج الأمر إثباتاً فكل من الدول الثلاث تحتل أراضى عربية مع الفارق فى حالة إسرائيل بطبيعة الحال، وكلها تتبع سياسات مزعزعة للاستقرار فى الدول العربية، وإذا اكتفينا بالظاهر فقد كانت إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى العالم التى أيدت الانفصال الكردي، وتحتضن تركيا تنظيم الإخوان المسلمين وتدعم سلوكه التخريبى فى أكثر من بلد عربي، وتزهو إيران بأنها أصبحت إمبراطورية تتبعها أربع دول عربية، وقد نختلف فيما بيننا حول ترتيب أولويات مصادر التهديد هذه لكن إسقاط أى منها جريمة بحق الأمن العربي، ولا يجوز لنا ونحن نشكو من ازدواجية المعايير فى تعامل القوى الدولية معنا أن تكون لدينا الازدواجية نفسها، فندعو للسلم مع إسرائيل والحرب مع إيران، والصحيح أن لنا مصالحنا وأن علينا أن نسعى لتحقيقها بالوسائل كافة، وأننا قد نُضطر لتحقيقها بالقوة لكن علينا استكشاف سبل الحوار الندى فى إطار التمسك بمصالحنا والوعى بمحاولات القوى الخارجية توريطنا فى حروب هى الوحيدة التى ستجنى مكاسبها، ولنعى أخيراً أن الاستخفاف بأى مصدر من مصادر تهديد الأمن العربى سوف تكون له عواقبه الوخيمة على الجميع. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد