على مدار تاريخها رفضت مصر الارتباط بالأحلاف العسكرية التى تنشأ تحت رعاية قوة عظمي، فلقد قاومت مصر مشروع قيادة الشرق الأوسط الذى طرحته الولاياتالمتحدة فى مطلع الخمسينيات لتجميع دول الشرق الأوسط مع كل من بريطانيا وفرنسا بهدف تطويق الاتحاد السوڤيتى فى إطار ما كان يُعرف بسياسة «الاحتواء»، كما أجهضت مصر حلف بغداد الذى تكون عام 1955من العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا برعاية أمريكية لمنع انتشار النفوذ السوڤيتى فى الشرق الأوسط، ورغم أن مصر كانت تُقدر الموقف الأمريكى من العدوان الثلاثى إلا أنها تصدت لمشروع أيزنهاور عام 1957 الذى كان يَصُب فى نفس اتجاه المشروعين السابقين. وعندما شاركت مصر فى التحالف الدولى لتحرير الكويت عام 1991 تحت قيادة الولاياتالمتحدة جاء موقفها من منطلق دفاعى . هنا يلاحظ أن كل الأحلاف السابقة كانت عابرة للمذاهب ففى كل من مشروع قيادة الشرق الأوسط وحلف بغداد كان الدور الإيرانى أساسيا بحكم العلاقة الوثيقة بين شاه إيرانوالولاياتالمتحدة، ومع أن إيران لم تشارك عمليا فى عاصفة الصحراء إلا أن دعمها تحرير الكويت جعلها طرفا غير مباشر فى هذا التحالف. الآن هناك مشروعان جديدان للتحالف العسكرى يتنافسان على إدماج مصر فى كليهما، الأول والأكثر تداولا هو المشروع الذى تبنته الإدارة الأمريكية ويقوم على تشكيل تحالف عسكرى «سني» مؤسس على مبادئ حلف الناتو من بعض دول الخليج + مصر والأردن ومخصص لمواجهة الخطر الإيرانى بما قد يستلزمه ذلك من التنسيق المخابراتى مع إسرائيل، والثانى تردد فى بعض الدوائر الإيرانية ومؤداه ضم مصر إلى «محور الممانعة» الذى صار بعد تحوره يضم كلآ من إيرانوالعراقوسوريا ويحتفظ بعلاقة وثيقة مع روسيا. وعلى هذين التحالفين يمكن إبداء الملاحظات الآتية: الملاحظة الأولى هى أن الطرحين معا يسهمان فى تمييع القضية الفلسطينية ويرجئان حلها إلى ما شاء الله، فالحلف الأمريكى يعيد ترتيب مصادر تهديد الأمن القومى العربى على نحو يُعَظِّم من الخطر الإيرانى، على حساب الخطر الإسرائيلي، كما أن الهدف المستتر وراء الحلف الإيرانى هو تطويق الدور الإقليمى للمملكة العربية السعودية وإن اتخذ هذا الحلف مسمى جذابا هو «الممانعة» فى إشارة إلى رفض المشروع الصهيوني. والواقع أنه مع أن أحدا لا يقلل من خطورة المشروع الإقليمى الإيرانى إلا أن إسرائيل ستظل هى مصدر التهديد الأساسى للأمن القومى العربى - ليس فقط بسبب سياستها الاستيطانية التوسعية ولكن لأنها توأم الإرهاب ولأنها ضالعة فى محاولات تفكيك الدولة الوطنية فى المنطقة العربية . ومن جهة أخرى، لا يوجد من يصدق أن هذه الاستماتة الإيرانية فى الحرب الدائرة فى سوريا هدفها الحفاظ على نظام » مقاوم« فَلَو استثمرت الجمهورية الإسلامية مالها وسلاحها وحرسها الثورى فى مواجهة إسرائيل خلال تلك السنوات الست لتغيرت موازين القوى العربية - الإسرائيلية، لكن الهدف هو الدفاع عن أحد معاقل النفوذ الإيرانى فى المنطقة منذ عام 1979. الملاحظة الثانية هى أن كلا الطرحين يتخذان طابعا مذهبيا فى وقت بلوغ الاستقطاب السني/الشيعى ذروته ليس فقط على مستوى المنطقة ككل لكن أيضا على مستوى عدة دول عربية كلٍ منها على حدة. بطبيعة الحال فإن هذا الطابع المذهبى المقيت يظهر بشكل أكثر وضوحا فى الطرح الأمريكى الذى يتحدث عن تحالف عسكرى بين «دول سنية»، لكن المذهبية أيضا هى عنصر مسكوت عنه فى الطرح الإيراني، فأن يضم الحلف المقترح مصر أو حتى الجزائر كما فى بعض الصيغ المتداولة، فإن هذا لا ينفى أنه أحد أدوات إدارة الصراع المذهبى مع السعودية وأن إيران تعد نفسها حامية الشيعة فى العالم. الملاحظة الثالثة أن الطرحين معا ذهبا بعيدا فى تأويل السياسة الخارجية المصرية بما يخدم منطلقات كلٍ منهما. وكمثال نُشر قبل أيام مقال باللغة الإنجليزية تحت عنوان «ما الذى يمكن أن يعنيه ذوبان الجليد المصرى - الإيرانى بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية فى المنطقة؟»، وفيه تم الربط بين رفض مصر الحلف العسكرى «السني» و بين ما وُصف بالتقارب المصرى مع إيران من خلال ثلاث حلقات هي: أن مصر تعتبر الإسلاموية «السنية» مصدر عدم استقرار الشرق الأوسط ما يحدوها للاصطفاف مع روسياوإيران اللتين تحاربان هذا النوع من الجماعات، وأن مصر تتمسك بحقها فى قيادة المنطقة ولا تقبل الانخراط فى تحالف لا تتبوأ فيه موقع القيادة، و أن صعوبة وضع مصر الاقتصادى يجعلها تنفتح على العراق. هذا التحليل المتهافت لا يعرف شيئا عن موقف مصر الثابت من الأحلاف العسكرية ناهيكم أن يكون هذا الحلف له طابع مذهبى مقيت ويستبدل خطر إيران بخطر إسرائيل. ويتناسى التحليل أن داعش هو الكابوس الذى يؤرق العالم كله وليس مصر وحدها أى أن إزعاج هذا الكابوس مبعثه جرائم التنظيم و ليس مذهبه، كما يتناسى أن مصر شاركت فى عاصفة الحزم تحت قيادة سعودية، وأن علاقة مصر بالعراق ليست وليدة اللحظة وتتجلى قوتها فى المواقف المفصلية : حرب أكتوبر وحرب الثمانى سنوات . من جهة أخرى، عوّل من كتبوا عن تحالف مصر مع إيران على قطيعة مصرية - سعودية بناء على اختلاف وجهات نظر الدولتين بخصوص بعض قضايا السياسة الخارجية وهذا تحميل للأمور فوق ما تحتمل، فالتطابق فى رؤى الدول ليس واردا فى مجال العلاقات الدولية ولنا فى تمايزات مواقف الدول الخليجية نفسها خير مثال، والتزام مصر بأمن الخليج ينبع من مسئولية قومية ومن مصلحة وطنية مؤكدة، وقد خطت السعودية نفسها خطوة إيجابية باتجاه العراق وزار بغداد وزير خارجيتها، بل إن ملف الحوار الخليجى مع إيران موضع نقاش وقد حمل بشأنه وزير خارجية الكويت رسالة لطهران كما زار الرئيس الإيرانى عُمان والكويت والتقى وزير خارجية إيران بأمير قطر، وكلها عوامل تُقرب الموقفين المصرى والسعودي. لم ترتبط مصر عبر تاريخها بأحلاف عسكرية شرق أوسطية برعاية قوة عظمى وليس من الوارد أن تفعل الآن لا ضد إيران ولا معها، ويكفى النظر للسيولة الشديدة فى المواقف الدولية تجاه أزمة كالأزمة السورية لنتبين أن أى حلف عسكرى جديد سيؤسس فوق تل من الرمال المتحركة، وكل المطلوب إعادة تقييم العلاقة مع إيران تقييما يدرك نقاط التلاقى والتصادم بين مصالح الدولتين فليس منطقيا أن يتحاور الجميع مع إيران إلا مصر . لمزيد من مقالات د.نيفين مسعد;