تشهد منطقة الشرق الأوسط حاليا استقطابا واضحا وخطيرا بين طرفين, أحدهما عربى وبالذات خليجى وبالأخص سعودى والثانى إيران، وليس الاستقطاب جديدا على المنطقة، بل إن الاستقطاب هو النموذج المتواتر للتفاعلات فيها مع حضور واضح ومؤثر للقوى العالمية، ففى خمسينيات القرن الماضى شهدنا الاستقطاب حول سياسة التحالفات الغربية, وقد تمحورت حول حلف بغداد بين مصر الرافضة لهذه السياسة والعراق المتجاوب معها وانتهت المواجهة بهزيمة مشروع الحلف، وفى الستينيات برز الاستقطاب بين القوى الثورية بقيادة مصر والقوى المحافظة بقيادة السعودية والذى انتهى بهزيمة 1967 التى فرضت عقداً من التضامن العربى شهد حرب أكتوبر وانتهى بتوقيع المعاهدة المصرية - الإسرائيلية التى أفضت إلى استقطاب مصرى - عربى دام حتى أصبح للاستقطاب العربى - الإيرانى, وقد تجسد فى الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988), الأولوية فعادت العلاقات المصرية - العربية إلى سابق عهدها وما كادت تفعل حتى وقع الغزو العراقى للكويت, وانقسم العرب حوله كما لم ينقسموا من قبل حتى مطلع القرن الحادى والعشرين لتنفجر المنطقة بعد ذلك مباشرة بالغزو الأمريكى للعراق 2003 لكى تحقن سلطة الاحتلال الأمريكى العراق والمنطقة بفيروس الاستقطاب الطائفى وتفكك الدولة والمجتمع فى العراق, مما أتاح الفرصة لإيران كى تزيد نفوذها فيه ومن قبله علاقتها الوطيدة بالنظام السورى ونفوذها فى لبنان من خلال حزب الله, وأخيراً فى اليمن بعد الانقلاب الحوثى 2014 الذى يعد مفجر الحلقة الراهنة من الاستقطاب مع إيران ومسرحها أساساً اليمن ثم لبنان, حيث تبودلت تصريحات رسمية بين السعودية وحلفائها فى الخليج وبين إيران مع رسائل إعلامية تضمنت تهديدات وصلت إلى حد التهديد بضربات صاروخية تستهدف مدنا بعينها. والسؤال الآن هل لهذا الاستقطاب سبب ومضمون؟ بالتأكيد نعم، ومن وجهة النظر العربية فإن المشروع الإقليمى لإيران شديد الوضوح وهو تحقيق أكبر قدر من الانتشار والنفوذ إن لم يكن الهيمنة عربيا وإقليميا, والشواهد قائمة منذ عقود فى سورياولبنان ومنذ ما يزيد على العقد فى العراق بعد, وأخيراً منذ أكثر من ثلاث سنوات فى اليمن، وواكب هذه التطورات تصريحات إيرانية فجة تلتها عادة محاولات للتخفيف من وقعها بدعوى عدم دقة ترجمة تحدثت عن إمبراطورية إيرانية تمتد إلى الدول السابقة وقواعد بحرية إيرانية يجب أن تُبنى فى سوريا واليمن وإرادة إيرانية يجب أن تؤخذ فى الاعتبار فى أى قرار سياسى ذى شأن فى المنطقة، والسؤال الثانى هل يهدد هذا الاستقطاب أمننا؟ والإجابة بالتأكيد أيضاً نعم فلو دانت السيطرة على باب المندب للحوثيين يصبح المدخل الجنوبى لقناة السويس مهدداً ومع استمرار السيطرة الحوثية ولو على جزء من اليمن تصبح «صعدة» بؤرة نفوذهم الملاصقة للحدود الجنوبية للسعودية مصدر تهديد لأمنها, وقد تُرجم ذلك التهديد بالفعل فى هجمات محددة ناهيك بالصواريخ التى تهدد العمق السعودى وآخرها الصاروخ الذى أُطلق على مطار الرياض وكان سببا مباشرا للحلقة الراهنة من التصعيد، أما السؤال الثالث وهو هل توجد بدائل للتصعيد؟ وتفترض هذه المقالة أن الإجابة بالإيجاب عن هذا السؤال يمكن أن تكون صحيحة. ويستند السبب فى ضرورة البحث عن بدائل للتصعيد إلى المدرسة الواقعية فى تحليل العلاقات الدولية، ذلك أن كلاً من طرفى الاستقطاب يمتلك قوة عسكرية هائلة بالمعايير الإقليمية. ومن شأن وصول التصعيد إلى المدى الذى تتحدث عنه التصريحات النارية المتبادلة أن تحدث دماراً هائلاً للطرفين الجميع فى غنى عنه، كما أن المعالجات الخاطئة لبعض المعضلات السياسية -كما فى الحالة اللبنانية - يمكن أن تُحدث فتنة وعدم استقرار هائلين بالحد الأدنى وتدميرا غير مسبوق فى هذا البلد، ويتمثل البديل الذى تطرحه المقالة للنقاش فى محاولة تجربة التهدئة وتخفيض التوترات، وقد يتصور البعض أن هذا البديل يتناقض مع التسليم بوجود مشروع إيرانى يهدف إلى النفوذ والهيمنة، غير أن المدرسة الواقعية أيضا تقدم المخرج من هذا التناقض المحتمل، فقد سبقت الإشارة إلى معادلة القوة فى المنطقة التى تشير إلى امتلاك طرفى الاستقطاب قوة يعتد بها قادرة على إحداث الضرر بالآخر, ومن ثم فإن تفادى التصعيد يفضى إلى مكاسب واضحة للطرفين فى إطار احترام كل منهما مصلحة الآخر وعدم المساس بأمنه، وهناك خبرات عالمية وإقليمية تفيد بهذا، فهل كان هناك ما هو أكثر عدائية من التناقض بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى فى مرحلة الحرب الباردة؟ ومع ذلك فقد أفضى توازن القوى بينهما إلى انفراج بدأ فى سبعينيات القرن الماضي، وهناك أيضا خبرة السلام المصرى - الإسرائيلى بعد ثلاثين سنة من الصراع وتبنى الدول العربية بعد إبرامه بثلاث سنوات فقط وحتى الآن نهج التسوية السلمية مع إسرائيل صاحبة المشروع الاستعمارى الإحلالي، بل لماذا نذهب بعيداً وقد مرت العلاقات السعودية - الإيرانية نفسها فى تسعينيات القرن الماضى بسنوات من الهدوء والتقارب؟ سوف تكون آلية هذه التهدئة حوارا نديا ندخله من موقع الثقة بالنفس فلسنا لقمة سائغة، وقد أثبتت عاصفة الحزم ذلك بإيقاف تقدم الحوثيين نحو السيطرة على كامل اليمن، ولكى يحدث هذا الحوار لابد أن تدخل الأطراف العربية المعنية أولا حوارا فيما بينها لتوحيد الرؤية وتتحمل مصر بسياستها المتوازنة مسئولية خاصة هنا، وليكن معلوما أن حماية الرياض من الصواريخ الإيرانية بيد الحوثيين لن تأتى بإمطار طهران بصواريخ مماثلة أو إخراج زحزب اللهس من معادلة الحكم فى لبنان بالقوة وإنما ثمة طريق بديل لتسويات سياسية متوازنة وعادلة لبؤر الاستقطاب تحقق مصالح الجميع وتحمى أمنهم. لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد