تأسست مؤسسة الأهرام ثلاث مرات خلال تاريخها الطويل منذ بدأت كشركة فى 27 ديسمبر 1875، وكصحيفة فى 5 أغسطس 1876، فكان التأسيس الأول للمؤسسين سليم وبشارة تقلا، أما الثانى فكان مع انتقال الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى الأهرام فى عام 1957، واكتمل هذا التأسيس مع انتقال الصحيفة من مبناها القديم فى شارع مظلوم بحى باب اللوق إلى مبناها الجديد فى شارع الجلاء فى عام 1968 ووصفه الأستاذ بأنه إطلالة على القرن الحادى والعشرين. وبكل المقاييس فإن خروج هيكل من قيادة الأهرام كان بداية للتأسيس الثالث، والذى ربما لايزال فى مرحلة الاكتمال التى لعب الأستاذ إبراهيم نافع فيها دورا كبيرا بحكم كونه ظل رئيسا للتحرير بين عامى 1979 ورئيسا لمجلس الإدارة بين عامى 1984 و2005 فكان الرجل الذى عبر بالأهرام بين قرنين. كتاب الأستاذ مصطفى سامى أهرام القرن ال21، ذكريات خمسين عاما يحكى بامتياز قصة التأسيس الثاني، والجيل الذى عاشه وكان له بصماته الصحفية المستقلة عن الشخصية الطاغية. ما كان تقليديا فى الكتابة عن الأهرام دارت حول الأستاذ، ولكن مؤلفنا عنه يغوص فى أعماق المؤسسة الغراء ويجد فيها نسيجا فريدا من الشخصيات والعمل الصحفى عاش التجربة المصرية منذ منتصف الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات؛ وحتى يرصد التحولات الكبرى كان عليه أن ينظر إلى ما قبل هيكل وما كان بعده، وما بين القبل والبعد فإن القارئ سوف يجد إضافة غنية للتاريخ المصرى وتاريخ الصحافة المصرية ودور الأهرام فيها. وبينما كان على الكاتب وهو الذى دخل الأهرام عام 1959 أن يتعامل مع بقايا العاملين من التأسيس الأول بكل تقاليد العصور الخديوية والملكية، فإنه كان على من دخل الأهرام مثلى فى منتصف عام 1975 أن يتعامل مع جيل من الكواكب التى دارت فى معظمها فى المدارات المختلفة لشمس الكاتب الكبير، ولكن كلا منها كان لها قصتها الخاصة بعدا وقربا من النجم الوهاج. فلم أعرف من بقايا الجيل الملكى إلا الأستاذ حسن باشا يوسف الذى دخل الأهرام رئيسا لوحدة الدراسات التاريخية فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية حاملا معه مذكراته كرئيس للديوان الملكى والذى طلب إبقاءها دون نشر حتى وفاته، ولكن الأستاذ السيد يسين - رحمه الله نشرها فى حياته بناء على طلبه، وتوفى بعد النشر بفترة قصيرة. جيل التأسيس الثانى كان هو من كان علينا التعامل معه، وكان الدكتور سامى منصور هو طليعة هذا الجيل فى المركز، ولكن الأقدار ساعدت بعد ذلك على التعرف على عدد كبير منهم، ولفترة زمنية طويلة امتدت حتى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. الأستاذ مصطفى سامى كان من تلك النخبة الفنية من هذا الجيل، وهؤلاء بحكم عملهم كانت لديهم فضيلة التأمل عن بعد نسبي، وبحكم أنهم يشكلون الجسر ما بين التحرير والمطابع، فقد كانت لديهم سطوة من نوع أو آخر، كما أنه كان لديهم الانتشار ما بين أبناء جيلهم، من سبقهم ومن لحق بهم، وعندما يستغرق ذلك خمسين عاما، فإن المشاهد يصبح لديه حصيلة ثرية عن الأشخاص والأزمنة وعلاقتهم بالمكان الذى كان دوما الأهرام فى أوقات النهار والليل. النظرة عن بعد، وعن قرب أيضا، تكونت لدى صاحبنا بشكل عادل، وحينما كتب لم يصب بالوهج الهيكلي، كما أن القرب الشديد والصداقة لم تمنعه من إطلاق أحكام عادلة. الصلة مع جيل التأسيس الأول كان فيها دوما كم هائل من الاحترام الذى يليق بتلميذ بين أساتذة، ولكن الصلة مع جيل التأسيس الثانى فكان فيها قدر كبير من التعاطف مع التجربة الثرية، والإضافة المحترفة على الجانبين التحريرى والفنى للعملية الصحفية، ولكن فيها أيضا قدرا غير قليل من التعاطف مع الضعف الإنسانى الذى تجلى مع تغير الظروف والأزمنة. وعلى مدى 37 سنة عملت بها فى الأهرام فإن كاتب السيرة الأهرامية كانت له ابتسامة ساحرة من الصعب أن تنسى ما فيها من أسرار أحكام يختزنها لكى يكتبها فى كتاب ذات يوم. فكتابه عن الأشخاص، وعن البشر، ونوازعهم، وما أصابوا فيه وما أخفقوا، وربما كانت هناك أسرار اختزنها لكتاب آخر تخص الحب والعاطفة، أو لأنها لا تليق! لمن لا يعرف الأهرام فإن عليه أن يقرأ الكتاب حيث يجد نوعا من الهوية أو الشخصية الصحفية التى عبرت عن مدارس فى الصحافة المصرية مثل تلك التى لدى الأخبار وروز اليوسف ودار الهلال. الجيل التأسيسى الثانى كانت معضلته الرئيسية الخوف على الهوية الأهرامية من عدوانية السياسة، وإغراء الوسائل الصحفية الأخرى من تليفزيون وإلكترونيات، وفى سبيل ذلك فإن لديه رغبة كاسحة فى توقف الزمن لكى يبقى الأحباء ممن صنعوا الأهرام وسمعته فى الخبر والتحقيقات الصحفية والعلاقات الخارجية. ومن المدهش أن كثيرين ممن تولوا مهام فى الأهرام انتهت بهم الحياة وتوقفت خلال فترة قصيرة بعد تركهم العمل اختيارا أو إجبارا. قضى الأستاذ مصطفى سامى 20 عاما من حياته الصحفية بين باريس ومونتريال فى كندا عاملا فى المكاتب الصحفية للأهرام أو قائدا لها، والتى كانت أشبه بسفارات أخرى لمصر. هذه الحياة البعيدة جعلت خبرة التقدم عالية، وهى بدورها تجعل أدوات النقد والفحص والتأمل أكثر تعقيدا وتركيبا مما يبدو الحالة البسيطة والمباشرة للمؤلف. ولعلها من ناحية أخرى خلقت القلق على مستقبل الأهرام، والصحافة المطبوعة فى مصر، ووضعت تقديره لإدارات الأهرام المختلفة التى حاولت جاهدة تجسيد التأسيس الثالث ل «لأهرام» ولكن الحالة الثورية خلال العقد الحالى حالت دون ذلك. وفى الحقيقة فإن كتاب أهرام القرن ال21 يمثل صرخة ونداء: الصرخة تنبه إلى الأوضاع الصعبة للصحافة المطبوعة وما تلاقيه من حصار مالى وتكنولوجي، ونداء إلى أبناء الأهرام بالتكاتف من أجل تجاوز المرحلة، هو متفائل فى النهاية أن الخروج من الأزمة ممكن بفضل جيل جديد من الصحفيين يعرف بما يجرى فى العالم، ويتعلم من دروسه. لمزيد من مقالات ◀ د. عبد المنعم سعيد