الخميس الماضى وصل مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكية إلى مصر. وبالإضافة إلى اللقاء مع الرئيس السيسى فإنه أجرى محادثات مع السفير سامح شكرى وزير الخارجية، ثم قام بإلقاء خطاب بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة استغرق عشرين دقيقة تقريبا. ما جرى فى اللقاء والمباحثات لم يخرج عنه إلا القليل الذى يشير إلى متانة العلاقات المصرية الأمريكية، واعتزاز الولاياتالمتحدة بالجهود التى تبذلها مصر. وكان الرئيس ترامب قد قام بالتمهيد لهذه الزيارة بتغريدة أشاد فيها بافتتاح مسجد الفتاح العليم وكاتدرائية ميلاد المسيح باعتبارهما إشارة إلى الشمول الذى يجرى فى السياسة المصرية. الخطاب كان هو الذى جذب الانتباه أولا لأنه أعاد التذكير بالخطاب الذى ألقاه باراك أوباما عام 2009 فى جامعة القاهرة والذى كان مؤثرا فى وقته، وفيما بعد عندما بدأت الأحداث تتداعى بما سمى الربيع العربي. ما لم يتم تذكره كان خطابا آخر ربما يكون الأقرب لوزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس والذى ألقته أيضا فى الجامعة الأمريكية فى مبناها القديم بميدان التحرير. وثانيا: جاء الخطاب بعد تقديمه فى الصحافة الأمريكية والغربية فى العموم على أنه سوف يوضح السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط والتى شابها الغموض بعد قرار الرئيس ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، وعما إذا كان ذلك إشارة إلى الانسحاب من المنطقة أم لا. وثالثا: أن بورصة التوقعات لزيارة الوزير الأمريكى وصلت إلى أن الخطاب سوف يكشف ما عز على المعرفة العربية والعالمية فيما سمى صفقة القرن أو تلك الوصفة السحرية التى طال الإعداد لها، والمتعلقة بحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلي. ورابعا: أن الزيارة والخطاب كان متوقعا لهما أن يحلا لغز المواءمة بين التصريح باستمرار الاهتمام الأمريكى بالمنطقة وحقيقة أن خمس دول من تلك التى سوف يزورها وزير الخارجية لا يوجد بها سفير يحافظ على الاتصالات الدبلوماسية والسياسية بين واشنطن وعواصم عربية مختلفة. ما جاء فى الخطاب ذاته ذهب لكى يكون مفاجأة لدى المراقبين العرب ليس فقط بما جاء فيه، وإنما بما سكت عنه. بشكل ما فإن حديث الوزير انقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولها: وفى سابقة لم تعرفها الولاياتالمتحدة من قبل، ولم تكن من تقاليدها الدبلوماسية، أن الوزير الأمريكى الحالى قام بانتقاد الإدارة الأمريكية السابقة لباراك أوباما وما ذهبت إليه فى سياستها الشرق أوسطية باعتبارها جاءت معتذرة عن السلوك الأمريكى وساعية فى ذات الوقت إلى تغيير النظم فى الدول العربية. لم يلتفت بومبيو إلى حقيقة أن المحافظين الجدد فى الإدارة الجمهورية الأسبق لجورج بوش الابن ذهبت أيضا إلى ذات الاتجاه بعد الغزو الأمريكى للعراق، وبعدها علمنا أن الاتجاه كان يسير إلى أنه بعد بغداد سوف تأتى الرياضوالقاهرة. كان الثلث الأول من الخطاب خارجا من صميم السياسة الداخلية الأمريكية حيث الصراع المحتدم بين ترامب من ناحية والديمقراطيين ووسائل الإعلام الرئيسية من ناحية أخري. وثانيها: أن الثلث الثانى من الخطاب ذهب إلى إيران باعتبارها العدو والخصم الأول للولايات المتحدة والدول العربية فى المنطقة لأنها من ناحية تقوم بما تقوم به من مساندة للإرهاب، ومحاولات الهيمنة الإقليمية عن طريق توابعها فى العراقوسوريا ولبنان. هنا أيضا لم تسلم إدارة أوباما من بعض اللطمات باعتبارها هى التى وقعت الاتفاق النووى مع طهران. وثالثها: أن الثلث الثالث كان مخصصا للعلاقات بين الولاياتالمتحدة والدول العربية التى زارها أو سوف يزورها وما تقوم به من جهد لمحاربة الإرهاب ومقاومة التطرف وتجديد الفكر الديني، ومواجهة إيران، وما قامت به من اقتراب من إسرائيل. وفى هذا الصدد وجه «بومبيو» الدعوة لتحالف عربى يضم دول مجلس التعاون الخليجى العربية الست ومعها مصر والأردن لمواجهة التطرف وإيران وتحقيق الاستقرار والرخاء فى المنطقة. وربما كان المسكوت عنه فى خطاب بومبيو لا يقل أهمية عما كان مذكورا فى خطابه؛ وكأن السكوت عن ذكر صفقة القرن والاكتفاء بالتنويه عن تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين سوف يحل هذا اللغز الذى احتارت فيه العقول العربية. ولكن الأكثر إثارة للدهشة كان أنه بينما أعطى بعض التفاصيل عن الجهود الإيرانية للهيمنة على العراقوسوريا ولبنان وموقف الولاياتالمتحدة فى مواجهتها، إلا أنه لم يذكر الحوثيين بالاسم مرة واحدة طوال الخطاب مكتفيا بالإشارة العامة إلى محاولات إيران الإقليمية للهيمنة. هل كان بومبيو لا يريد إفساد الجهود الدبلوماسية الجارية فيما يتعلق بعمليات الجلاء عن الحديدة؟ ربما. ورغم أن الغرض العام المعلن من الزيارة، هو تأكيد أن الولاياتالمتحدة لم ولن تترك المنطقة، فإنه لم يذكر شيئا عن سحب القوات الأمريكية من سوريا، بعد أن أعلن جون بولتون مستشار الأمن القومى للرئيس ترامب بأن الولاياتالمتحدة سوف تنسحب عندما تنسحب إيران تماما من سوريا، وهو ما لم يحدث حتى الآن. ما قاله بومبيو إن تعمير سوريا لن يحدث طالما كانت هناك قوات إيرانية وهو ما يحمل مهمة الجلاء الإيرانى إلى الدول التى سوف تقوم بمهمة الإعمار المقدرة وفقا لمبعوث الأممالمتحدةلسوريا بما مقداره 250 مليار دولار. وإذا كانت مقاومة الإرهاب والتطرف جزءا أساسيا من زيارة بومبيو فإن الأكثر إثارة للدهشة كان تجاهله تماما التطورات التى جرت فى شمال غرب سوريا قبل إلقاء خطابه بساعات حيث أصبحت جبهة النصرة هى المسيطرة على محافظة إدلب بتصريح من تركيا. ومن المعلوم أن هذه الجبهة هى امتداد لتنظيم القاعدة فى بلاد الشام، ومحتسبة فى إطار التنظيمات العالمية الإرهابية. المسكوت عنه والأكثر إشكالية أن بومبيو طرح مرة أخرى فكرة الناتو العربى المكون من الدول الست فى مجلس التعاون الخليجى ومعهم مصر والأردن دون ذكر، وربما إدراك، أن هناك تحالفا رباعيا قائما بالفعل، وأن لهذا التحالف علاقات وثيقة مع الأردن، وفيما بينها تجرى مناورات وتدريبات عسكرية وتعاون اقتصادي. لماذا أراد قيام تحالف جديد بينما هو موجود بالفعل؟ لمزيد من مقالات ◀ د. عبد المنعم سعيد