الصراع السياسى والإيديولوجى على تاريخ المنطقة وشعوبها، ومصر فى قلبها أسهم فى إنتاج عديد من الأساطير السياسية حول الأحداث الكبرى، أو التى صيغت على أنها كذلك، وطمست أحداث أخرى مهمة، ووقائع وشخصيات لعبت أدواراً متميزة، لكنها كانت مضادة لمؤرخ السلطان، أو لكتاب التاريخ السلطوى، أو لبعض المؤرخين الذين انحازوا إلى بعض مقولاتهم التاريخية الإيديولوجية حول دور الفرد أو الزعيم فى حركة التاريخ، أو دور الطبقة الاجتماعية، وذلك دونما أن تتوافر الأطر الاجتماعية التى تبلورت داخلها الطبقات، وفق التطور التاريخى الذى شهدته النظم الغربية. من هنا كثيرا ما استخدم بعضهم مصطلحات الطبقات البورجوازية والبروليتاريا والإقطاع والبروليتاريا الرثة، والتى لا تشكل دلالة على الواقع الموضوعى والتاريخى للتشكيلات الاجتماعية فى مصر والمنطقة العربية. صحيح أن بعض الباحثين والمثقفين حاولوا إدخال بعض التحويرات والتعديلات على بعض هذه المصطلحات، إلا أن غلبة القاموس الاصطلاحى الإيديولوجى لدى بعض الجماعات السياسية الماركسية والقومية، أشاع هذه المصطلحات على غيرها. تظهر الكتابات الإيديولوجية التى تسهم فى تشويه التاريخ الوطنى لمصر أو للمنطقة العربية، من خلال نمط من الخطابات السياسية السوقية حول بعض الشخصيات التاريخية الكبرى التى أثرت فى تاريخ مصر، أو المنطقة العربية، وهى كتابة تميل إلى إطلاق أحكام القيمة الأخلاقية والعامة، والتى تنتزع الشخصية التاريخية من سياقاتها، وظروفها، وأحداث التاريخ، وضغوط عمليات صناعة القرارات السياسية الكبرى، ثم تطلق أحكاما جزافية دونما منطق ومنهج يعتمد على بنية معلوماتية ووثائق، وتحليل، واستنتاج، ونتائج. يبدو ذلك من دخول بعض الصحفيين والإعلاميين إلى منصات إطلاق الأحكام التاريخية دون درس أو معلومات أو منهج أو تحليل، وخاصة فى الإعلام الإيديولوجى الرسمى أو الحزبى، وخاصة إزاء شخصيات رحلت إلى الأبدية أو العالم الآخر، وأصبحوا مستباحين من قبل الحاكم الجديد الذى يستخدم الإعلام فى تشويه وتحطيم الصورة التاريخية للحاكم السابق كجزء من عملية بناء شرعيته وتوطيد نظام حكمه. هذا النمط من الأحكام التاريخية السوقية بات متكرراً كل عام مع جمال عبد الناصر، من خلال التركيز على بعض الأخطاء التاريخية فى مجال انتهاك الحريات العامة، أو إلغاء التعددية السياسية ونسيان دوره التاريخى فى التحرر الوطنى والاستقلال وفى حركة عدم الانحياز. بعضهم يرفض توجهاته فى العدل الاجتماعى، والإصلاح الزراعى، ويركز على الطابع التسلطى للحكم، ولكن دونما تقييم موضوعى شامل للتجربة ومثالبها وإنجازاتها. آخرون يمدحون السادات ويتناسون أخطاء تاريخية كبرى فى إدارة الدولة، واتخاذ القرار السياسى، وفى صناعة القوانين، وفى إدارة السياسة الخارجية، وفى التسلطية. محاولة فى تمجيد الحاكم، ونسيان الخلل فى نظام الحكم، وإدارة النظام السياسى ونتائج التجربة، والتلاعب بالدين فى السياسة، وشروخ الاندماج الوطنى. من ناحية أخرى أسهم الصراع السياسى بين الحركة الإسلامية السياسية وبين الدولة المصرية فى المرحلة شبه الليبرالية ونظام يوليو إلى بروز سردية إسلامية إيديولوجية تضفى تأويلاً دينياً على المراحل التاريخية لاسيما منذ بناء الدولة الحديثة. لا شك أن صراع السرديات والتأويلات الإيديولوجية والدينية يسهم أيضا فى اضطراب وتشويه الرؤى التاريخية حول مسارات ووقائع وتطور وشخصيات تاريخنا، ويؤدى إلى حالة خصام مع هويتنا القومية المصرية. ثمة حاجة موضوعية لإتاحة المصادر المعلوماتية الرسمية للباحثين، لاسيما الوثائق التاريخية التى يحتاجون إليها فى دراسة بعض القضايا المهمة. من ناحية أخرى لابد من إيلاء أهمية خاصة لدراسات حول التاريخ الشفاهى ومناهجه، وتاريخ الحياة اليومية الذى يسمح برؤية أكثر عمقا لتاريخ المصريين والعرب، ويسد عديدا من الثغرات فى التاريخ السياسى للبلدان العربية، ولاسيما تاريخ الجماعات العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والقومية. من الأهمية بمكان إعادة النظر فى كتابة تاريخ الحركة الثقافية المصرية والعربية الذى دار حول بعض الشخصيات التاريخية البارزة، التى لعب بعضها أدواراً مهمة فى تاريخ تطور نظم الأفكار، أو فى صياغة بعض المعادلات الفكرية التوفيقية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين. بعض كتابات هذه الرموز كانت جزءاً من سياقاتها التاريخية ولم تعد لها ذات التأثير السابق بالنظر إلى تغير الظروف والمشكلات ومتغيرات عصرنا. من ناحية أخرى هناك شخصيات لم تكن على مقربة من الحياة السياسية والفكرية وقدمت بعض الإسهامات المهمة، وظلت هامشية، ويجب إعادة النظر فيما قدمت لتاريخ الأفكار فى مصر والمشرق العربى. بعض كبار المثقفين والمفكرين المصريين اكتسبت أعمالهم قيمة وتأثيراً كبيرين لوزنهم السياسى والأكاديمى، والصحفى، ومن ثم تشكل إعادة النظر فى إنتاجهم منهجياً وتاريخياً أهمية خاصة، لاسيما من زاوية تاريخية استعارة بعض أفكارهم المرجعية من الأطر الفلسفية والسوسيولوجية والنقدية الأوروبية، التى تم بعضها بعد أن تراجعت هذه النظريات والمفاهيم فى مهادها. من ناحية أخرى الدور السلبى للنزعة التلفيقية التى سادت لدى بعض المفكرين فى تطور منظومات الأفكار الكبرى فى عالمنا العربى. إن إعادة النظر فى كتابة تاريخنا المصرى والعربى ضرورة موضوعية لتحرير ذاكرتنا الجماعية من الأساطير والأباطيل، ومن ثم تحرير الإنسان المصرى والعربى من عديد الأوهام الساكنة فى مخيلته وعقله الجمعى. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح