بعض الفكر المصرى الحديث والمعاصر فى غالب اتجاهاته ومدارسه السياسية والأيديولوجية، يتعامل مع الدرس التاريخى وفق مقاربات منهجية تقليدية نسبيا، تعتمد على السرود التاريخية للوقائع والأحداث، والسعى إلى تسبيب بعضها اعتمادا للنمط السردى للأحداث، ومواقف أطراف الأزمات والفاعلين فى إطارها، ودوافعهم إزاء سلوكهم السياسى، أو غيره، أو من خلال استنطاق الوثائق الرسمية أو غيرها، أو عبر التأويل ومحاولة ملء الفراغات، وبعض الغموض الذى يحيط بها. بعض الاتجاهات التى تأثرت بالماركسية وما أطلق عليه مدرسة التاريخ الاجتماعى، كان يحاول عبر التأويل إعادة قراءة الأحداث التاريخية، وفق الخطوط والترسيمات الكبرى فى المقاربة الماركسية للتاريخ، وصراع الطبقات الاجتماعية والجدل الخطى بين البناء التحتى والفوقى.. إلخ، إلى آخر هذا المنظور، وكذلك بعض ممن ينتمون إلى الفكر الليبرالى، والحركة القومية -أو الوطنية وفق الترجمة غير الدقيقة للمصطلح فى نهاية القرن التاسع عشر- كانوا يعتمدون على السرد والوصف والاستنتاج من منظور عمليات تشكل الدولة والأمة الحديثة والحركة الوطنية الدستورية المعادية للاستعمار البريطانى وقادتها. هذا النمط الأيديولوجى من المقاربات التاريخية، أسهم فى إنتاج تقييمات معيارية، وبعضا من الأمنيات الفكرية، ومضمرات المؤرخ فى طريقة التعامل مع الوقائع والأشخاص، والأفكار، على نحو أدى فى بعض الأحيان إلى التركيز على بعض الأشخاص والقادة والأحزاب، على حساب أطراف أخرى، ثم إسناد الأخطاء أو الخطايا لبعضهم على ممارساتها، ومحاولة رفع المسؤولية السياسية أو التاريخية عن بعضهم الآخر. هذا النمط التفسيرى والتأويلى المؤدلج للوقائع والأحداث والأحزاب والساسة أدى إلى بناء بعض الأساطير، أو التنزيه لبعضهم، أو تشويه وشيطنة البعض الآخر، وتحويله إلى شيطان رجيم أو شرير. ثمة بعض من الإغفال لدور بعض الشخصيات أو القوى أو الجماعات، ونسيانها، أو اختزالها فى بعض ممن أطلق عليهم الشخصيات التاريخية البارزة منذ مطلع الدولة الحديثة، أو حتى اللحظة التاريخية الراهنة، ومن ثم تراكمت مجموعة من التقييمات التاريخية الإيجابية أو السلبية حول بعض الشخصيات والأحداث الهامة فى تاريخنا الحديث والمعاصر، ويعاد إنتاجها ونادرًا ما يجرؤ بعض الباحثين على تحدى هذه الأحكام المعيارية والأخلاقية، ولم يقتصر الأمر على السياسة والسياسيين، وإنما امتد إلى تاريخنا الثقافى والفكرى، حيث التركيز على طه حسين والعقاد والمازنى، وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، ويحيى حقى، وحسين فوزى، ولويس عوض وزكى نجيب محمود، وفؤاد زكريا وآخرين، وتناسى شخصيات وكتابات وأدوار هامة قام بها آخرون ظلوا فى الهامش التاريخى لتطور نظم الأفكار. من ناحية أخرى التركيز على من أسهموا بأدوار فى إطار مؤسسات الدولة الثقافية أو السياسية أو الإعلامية، وتناسِى آخرين تم تهميشهم إهمالا، أو خطأ، أو لعدم دقة المتابعة، أو السير على الصراط التاريخى الرسمى المستقيم! ومن خرج على السنن السائدة فى الكتابة التاريخية هم بعضُ من الجيل الجديد للمؤرخين، الذين تلقوا تعليما وتدريبا وتكوينا بحثيا، ومنهجيا مغايرًا فى الجامعات الغربية العريقة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر خالد فهمى، وشريف يونس، وآخرون يعملون فى بعض الجامعات ومراكز البحث فى أوروبا وكندا والولايات المتحدةالأمريكية. يعود هذا التوجه فى إعادة بحث وفحص التعميمات الشائعة إلى تكوين منهجى مغاير يعتمد على المناهج الحديثة والجديدة فى المقاربة التاريخية، التى تعتمد على منجزات التطور المنهجى والألسنى والفلسفى فى العلوم الاجتماعية، والذى أدى إلى طفرة كبرى لا تزال بعيدة إلى حد ما عن الدرس الأكاديمى والمنهجى للتاريخ وغيره من العلوم الاجتماعية فى جامعاتنا ومراكز البحث المصرية، والاستثناءات جد محدودة. قلة قليلة من مؤرخينا تتابع التطور فى المناهج والكتابة التاريخية، وفى الغالب الأعم ما تواجه بعديد من الانتقادات، بعضها سياسى وأيديولوجى، وشخصى، ولم نشهد إلا قليلا بعض المراجعات للكتابات التاريخية الجديدة فى مصر، أو خارجها من خلال الجدل الموضوعى لا السجالات الحادة وخطاباتها العنيفة. إن بناء الأساطير والأحكام المعيارية حول تاريخنا، اعتمد أيضا على طبيعة النظام البحثى السائد، ومدى حرية البحث الأكاديمى، ونوعية المناهج والمواد التى تدرس للطلاب والباحثين. من ناحية أخرى على طبيعة النظام السياسى السائد، ومواقف النخبة السياسية المسيطرة، واستخداماتها للتاريخ فى بناء شرعيتها السياسية، ومن ثم ما تفرضه سياسة تعليم التاريخ فى مناهج التعليم الرسمية، على تشكيل ذهنية الطلاب وما تنطوى عليه من تحيزات أيديولوجية. نستطيع أن نلمح ذلك فى عديد من مراحل التغير التاريخى والسياسى وفى المناهج الرسمية المقررة حول تاريخنا، ومنها مثلا إسقاط المرحلة القبطية، أو الكتابة الإنشائية والسطحية حولها، أو نظرة نظام يوليو إلى النظام شبه الليبرالى، أو التركيز على تاريخ الأسرة العلوية والنخبة الحاكمة قبل 1952، أو تاريخ رؤساء الجمهوريات، والكتابة عن تاريخ كل مرحلة من خلال سياساتهم أو قراراتهم، وإضفاء الحكمة والرشادة والعقلانية السياسية عليهم، بقطع النظر عما خلفه بعضهم من كوارث سياسية واقتصادية، وأزمات ممتدة واختلالات كبرى للدولة والمجتمع. يبدو أننا فى حاجة موضوعية ومعرفية استثنائية إلى إعادة النظر فى كتابة تاريخنا، وتحريره من الأيديولوجيا، والأساطير والأوهام، والأكاذيب والمناهج التقليدية وبعض التحيزات السياسية، وذلك حتى تتحرر الأمة والدولة من الحجب التى تحول دون تحررنا العقلى والثقافى والسياسى ومواريث الكذب، والازدواجية وتضخم الذات القومية المفرط والمسيطر على أذهاننا وحياتنا.