تحولت مواقع التواصل الاجتماعى إلى منصات لإصدار الأحكام الصارمة على المراحل والوقائع الكبرى والشخصيات التاريخية، من خلال الانطباعات السريعة، وأحكام القيمة الأخلاقية، وثنائيات ضدية تدور بين حدى المديح والثناء المفرط أو القدح أو الذم وذلك دونما تحليل موضوعى يستند إلى بنية معلوماتية دقيقة تستند إليها هذه الآراء الانطباعية أو التى تعكس مواقف سوسيو- نفسية أو أيديولوجية مسبقة لدى بعضهم. حالة من الاضطراب والسهولة والتبسيط فى تقييم المراحل والأحداث والشخصيات التاريخية، وانتزاعها من سياقاتها وظروفها وضغوطها وفاعليتها، وإصدار أحكام عامة تبدو شبه مطلقة على بعض الشخصيات، وتحويل بعضها إلى أبطال استثنائيين فى التاريخ المصرى أو العربى، أو اعتبارهم شخصيات عادية لعبت أدوارًا سلبية فى تاريخ المنطقة. هذا النمط من الأحكام السياسية ليس جديدًا، وإنما كان جزءًا من الصراع السياسى والأيديولوجى فى التاريخ المصرى والعربى، حيث قامت القوى والأحزاب والجماعات السياسية بتقديم تصوراتها لتاريخ بلادها، من منظورها الأيديولوجى. الصراع على التاريخ المصرى والعربى، هو أحد مساحات الصراعات على الهويات الوطنية والقومية منذ تأسيس الدولة العربية ما بعد الاستقلال، وسعى النخب الحاكمة وآباء الاستقلال لفرض رؤى سلطوية وأيديولوجية متحيزة تدور حول توجهاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية والحزبية والقبلية والعشائرية. أبناء العائلات الحاكمة فى النظم الملكية، فرضوا تاريخ العائلة كمركز لتاريخ الدولة، وإغفال حركة هذه المجتمعات، ودينامياتها وفاعليها ورموزها، أو استبعاد بعض الأحداث التاريخية أو بعض الشخصيات المؤثرة التى لعبت أدوارًا مغايرة أو معارضة لتاريخ العائلة الحاكمة. هذا النمط من الكتابة التاريخية حول العائلة الحاكمة، يرمى إلى تأسيس الشرعية السياسية للحكم، ومن هنا تفرض السردية الملكية أو المشيخية أو العائلية حول تاريخ هذا البلد أو ذاك بوصفها التاريخ الرسمى المقرر الذى يدرس للطلاب فى كل مراحل التعليم. فى التاريخ المصرى الحديث والمعاصر، برزت إشكاليات منهجية عديدة، دارت حول مسألة الموضوعية والتحيز الإيديولوجية فى الكتابة التاريخية، لاسيما منذ بناء الدولة المصرية الحديثة على عهدى محمد على باشا، وإسماعيل باشا، حيث خضعت بعض التقييمات التاريخية لبعض المؤرخين حول المرحلة الملكية لعديد من التحيزات لإنجازات عمليات بناء الدولة ومؤسساتها وغالبًا بعضها اتسم بالصحة التاريخية، من حيث انتقال مصر المجتمع والدولة من نظام المكانة إلى دولة يسودها القانون الحديث، والمؤسسات التى تمت استعارتها من الأطر المرجعية الأوروبية، لاسيما فى عهد إسماعيل، وذلك كجزء من عمليات دمج الاقتصاد المصرى فى بنية الاقتصاد الرأسمالى الدولى من خلال تجارة القطن. فى ظل ثورة يوليو 1952 اتخذت السردية التاريخية حول هذه المراحل منحى مختلفا اتسم بالتركيز على سمات الاستبداد التى ارتبطت بحكم محمد على، وتركة الديون الثقيلة لحكم إسماعيل باشا، مع إغفال دورهما الكبير فى تأسيس مؤسسات الدولة وتكوين الهندسات القانونية الحديثة. هذا المنظور السلطوى فى كتابة السرديات التاريخية الوطنية نجده فى كيفية معالجة بعض الأحداث التاريخية الكبرى، والأوصاف والمصطلحات السياسية التى أطلقت عليها من قبيل ثورة، أو هبة جماهيرية، أو انتفاضة، وذلك بقطع النظر عن مدى دقة استخدام المصطلح على بعض هذه الأحداث، وفق الوقائع والعمليات التاريخية التى تمت فى الواقع الموضوعى. خضع المصطلح للتوظيف السياسى والأيديولوجى فى البحث التاريخى. عدم دقة استخدام المصطلحات، أو النزوع إلى التعميمات المجنحة، أو الاستخلاصات غير الدقيقة من سرد بعض الوقائع التاريخية وحذف بعضها الآخر، تعود إلى أزمة مناهج الكتابة التاريخية السائدة فى تدريس التاريخ فى بعض الجامعات العربية، ومن ثم فى تكوين بعض المؤرخين، حيث تسود المناهج التى تعتمد على سرد الوقائع التاريخية، وسعى بعضهم إلى محاولة تفسيرها، أو تأويلها وفق تحيزاته المسبقة. بعض هذه الدراسات السردية والوقائعية اعتمدت على بعض الوثائق الرسمية، أو الصحف أو المقابلات مع بعض الشخصيات التاريخية على قلة هذا النوع من الممارسات البحثية، قد يشكل بعضها أهمية معلوماتية فقط، لإعادة تحليلها وتركيبها وتفسيرها منهجياً إلا أنها لا تقدم إسهاما متميزا فى الرؤية التاريخية. أسهمت مدرسة التاريخ الاجتماعى فى مصر، فى إحداث نقلة منهجية فى دراسة التاريخ المصرى منذ العصر العثمانى، وحتى ثورة يوليو 1952، وراكم بعض من مؤرخيها البارزين دراسات متميزة عن الريف المصرى، وعن الحركة الوطنية المصرية، وثورة 1919 والحركة السياسية المصرية، وبعض المؤسسات السياسية والحزبية، كالبرلمان وحزب الوفد وأحزاب الأقلية.. الخ. يمكن القول إن ميراث حركة التأريخ المصرية يتسم بالثراء والتعدد من حيث عدد الكتابات والأطروحات الأكاديمية والبحوث من مدارس مختلفة، إلا أن ثمة حاجة إلى حركة منهجية نقدية وموضوعية لإعادة النظر فى الحالة البحثية والمنهجية فى الحقل التاريخى المصرى عموما، وليس قصراً على مرحلة التاريخ الحديث والمعاصر، وإنما المراحل التاريخية المختلفة، منذ التاريخ الفرعونى، وحتى المرحلة الراهنة، وإيلاء نظرة منهجية حول المقاربات المنهجية التى استخدمت فى دراسة التاريخ القبطى والإسلامى، فى ضوء الاكتشافات الجديدة، وذلك لتصويب نظرتنا تجاه مراحل تاريخنا المختلفة. من ناحية أخرى تبدو الحاجة ملحة إلى إجراء دراسات حول السرديات التاريخية الرسمية التى تم إقرارها فى المناهج التعليمية فى المراحل الملكية وفى ظل نظام يوليو 1952، وكشف الأخطاء والتعميمات والتحيزات والاجتزاءات حول تاريخ مصر ومراحله المختلفة، وشخصياته التاريخية، وذلك لتصحيح الصور التاريخية الخاطئة التى رسخت فى العقل والوعى الجمعى من خلال النظام التعليمى والإعلامى السلطوى فى المراحل المختلفة، وفق أهواء ومصالح النخب الحاكمة منذ بناء الدولة الحديثة وحتى الآن. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح