الكتابة التاريخية حول ثورة يوليو 1952، لا تزال موشومة بالانحياز الأيديولوجي، والأحكام القيمية والأخلاقية المترعة بالتعميمات، والنزعة الحدية بين من يؤيدونها ويحاولون تنزيهها عن الأخطاء الكبرى فى سياسة صنع القرار المركزى عند قمة السلطة، أو هؤلاء الذين يختصرونها فى شخصية الرئيس عبد الناصر وزعامته التاريخية وكاريزميته الطاغية المؤثرة، والتى حركت قطاعات جماهيرية واسعة بطول العالم العربى وعرضه، وداخل مصر بين الفئات الشعبية والوسطى الصغيرة، والوسطى الوسطى. هناك من يركزون على الأخطاء التاريخية، التى يصفونها بالخطايا الكبرى، ويركزون على الجوانب السلبية فى المشروع الناصرى والتجربة التاريخية. هذان الاتجاهان فى المقاربة التاريخية، كلاهما ينطوى على أخطاء منهجية تعود إلى انحيازهما السياسى والأيديولوجى الواضح والتعميمات المجنحة بلا ضوابط، والتى حملتها كتابات وأطروحات بعضها أكاديمى تنطلق من الأيديولوجى السابح فى فضاءاته، لتطبق على بنيات ووقائع سياسية واجتماعية مفارقة لهذه المقاربات الأيديولوجية الليبرالية أو الماركسية أو القومية أو الناصرية أو الإسلامية. تعود هذه الأحكام المجنحة أيديولوجيا، وذات الانحيازات المسبقة إلى أزمة الكتابة التاريخية فى مصر سواء على مستوى الدرس الأكاديمي، أو الكتابات السياسية والصحفية السريعة والمجتزأة، وهو ما يعود إلى بعض الأسباب وعلى رأسها: 1- فى عصر الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى، هيمنت النزعة الأيديولوجية على الدرس التاريخى الأكاديمي، والإعلامي، والنزعة الانتقائية فى التقاط الوقائع، والسياسات والأرقام التى تدعم وترسخ القيمة والمعنى المستمد من هذه الأيديولوجية أو تلك لتخدم أهدافها فى الصراع الأيديولوجي، وفى التعبئة السياسية، وفى جذب المناصرين لها فى حومة الصراع اليومي. من ثم يعتمد المؤرخ أو الكاتب على بعض الوقائع ويجعلها فى مركز التقييم التاريخي، ويهمش أخرى أيًا كانت أهميتها، ويركز عليها فى تحليله، واستنتاجاته لتأييد موقفه الأيديولوجى المسبق، وهو ما نستطيع أن نجده فى تقييم المرحلتين الناصرية، والساداتية من بعض المؤرخين الناصريين، أو هؤلاء الذين مالوا مع السادات وسياساته حيث مال إلى بعض من نقيض الإنجازات الناصرية الاجتماعية، أو فى الثقافة، أو فى مجال الاستقلال الوطنى وعدم الانحياز. من ناحية أخرى بعض من المؤرخين الليبراليين عمومًا، وبعض من ذوى الانتماءات الوفدية الذين حولوا الناصرية إلى مأتم تاريخي، ومرحلة سوداء انطلاقًا من أزمة الحريات العامة والاختيارات السياسية الفردية، والعصف بالمبادرات الفردية فى عديد المجالات. نقطة انطلاق هذا الاتجاه هو التركيز على تصفية التعددية السياسية والحزبية، وانغلاق المجال العام السياسى على نظام التعبئة السياسية المتمثل فى الحزب الواحد، وإقصاء الأحزاب والاتجاهات السياسية الليبرالية والماركسية وغيرها باستثناء هيئة التحرير ثم الاتحاد الاشتراكى العربى والتركيز على مفهوم تحالف قوى الشعب العامل المستمد من خلطة أيديولوجية من الماوية وتحالف القوى الثورية المعادية للاستعمار، ومن التجربة السالزارية، والبيرونية السياسية، وبعض من تجربة حزب الوفد كوعاء لقوى اجتماعية عريضة هذا الاتجاه سعى فى غالبه إلى التركيز على غياب حقوق المواطنة السياسية الليبرالية ونسيان حقوق المواطنة الاجتماعية التى تحققت فى عهد ناصر، وسياساته الاجتماعية التى أدت إلى اتساع قاعدة الفئات الوسطى، من خلال مشروع التنمية، ناهيك عن دعم حقوق العمال والفلاحين. تناسى بعض هؤلاء الليبراليين الحراك الاجتماعى الذى كان أحد أبرز الإنجازات الناصرية. من ناحية أخرى غفل هؤلاء الدور البارز للتعليم المجانى فى جميع مراحله، والتأمينات الصحية، والاجتماعية، وتطور السياسة الثقافية... إلخ. وكذلك الدور البارز لجمال عبد الناصر كأحد أهم الزعامات الشعبية الكبرى فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، إلى جانب سعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد، وتجاوز مكانته حدود مصر إلى عالمها العربى ودول القارات الثلاث. شكل ناصر مع نهرو، وتيتو، وسوكارنو أقطاب هذه الحركة السياسية للقارات الثلاث فى السياسة الدولية. كان لحضور ناصر الكاريزمى البارز دوره فى دعم مكانة مصر وسياساتها الدولية والإقليمية من خلال دعمه لحركات التحرر والاستقلال الوطنى فى مواجهة الاستعمار الغربي. من ناحية أخرى كان مفهوم الكرامة الوطنية وهيبة مصر ورفع شأن المصريين من خلال مشروع التنمية، هو تعبير موضوعى عن استثمار التقاليد التاريخية للوطنية، ولمفهوم الأمة المصرية التاريخى الذى تأسس مع الدولة / الأمة الحديثة، ومن أحمد عرابي، ومحمد عبد الشهيد الحى وصحبه من الجنود الذين استشهدوا فى معركة التل الكبير، إلى وموروث الحركة الوطنية الدستورية الليبرالية المعادية للاستعمار البريطاني. قدم جمال عبد الناصر نموذجًا لرجل الدولة الذى يقرأ، ويتابع ويعطى عمره وصحته للدولة الأمة وشعبها. من ناحية أخرى كان رجل دولة وزعيما سياسيا نظيف اليد لم تمتد يديه إلى المال العام أو إلى أموال الآخرين، وعاش حياة متقشفة ونزيهة ومعه أسرته! وتحققت معه نزاهة رجل الدولة، وهو مفهوم تراجع بعده كثيرًا على نحو ما رأينا من تجاوزات كبرى فى المال العام. هذه الأبعاد الإيجابية الفعالة لناصر وثورة يوليو 1952، حاول ولا يزال بعضهم نسيانها، والتركيز على بعض أخطاء الناصرية الكبرى التى لا ينكرها أحد حول نوعية التعليم التى تراجعت لحساب الكم لا الكيف، ومصادرة الحريات العامة السياسية، والمثالب الكبرى التى أدت إلى عدم تحقيق الخطة الخمسية الأولى لأهدافها كاملة، وهزيمة يونيو 1967 الساحقة الماحقة! كان ناصر زعامة تاريخية كبرى، لكنها تراجيدية، لكم يبقى منها معانى الاستقلال الوطني، والكرامة القومية والعزة والكبرياء وقيم النزاهة فى الحكم، وحرمة المال العام. تستدعى الذاكرة الجماعية للأمة المصرية ناصر ومعه إنجازاته الاجتماعية، وكبرياءه الوطني، والتصدى للفساد. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح