تبدو النزعة الماضوية فى غالب كتابات المنظرين الإسلاميين مسيطرة، وذلك من خلال تمحورها حول إعادة إنتاج بعض المنظومات الفقهية التاريخية، واعتبارها بمنزلة مرجعية للتنظير السياسى للدولة الحديثة التى تختلف تاريخيًا عن النماذج السابقة للدولة ما قبل تطور حركة القوميات الأوروبية، والرأسمالية الغربية، ونشوء الدولة الأمة. هذا الخلط بين نماذج الدولة وتطورها التاريخى وسياقاته المختلفة شكل ولا يزال نزعة لا تاريخية فى مقاربات بعض أيديولوجية الجماعات الإسلامية السياسية، وهو ما دفع بعضهم إلى محاولة فرض هندسة اجتماعية وقانونية مستمدة من بعض التجارب التاريخية على الواقع الموضوعى المعاصر، وإغفال اختلاف الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فى مراحل تطور الدولة والمجتمعات الإسلامية، عن التغيرات الهائلة التى تمت عبر عديد القرون فى هذه البلدان، ولاسيما فى ظل الاستعمار الغربى، وحتى دولة ما بعد الاستقلال. من هنا ظلت سطوة النموذج التاريخى المؤسس مهيمنة كمرجعية لبعض هذه الكتابات على نحو جعلها تتناقض جذريا مع واقع عربى وعولمى بالغ التعقيد. من ثم بدا واضحًا عدم استيعاب طبيعة ثقافة الدولة القومية وتراثها وطبيعة عمل أجهزتها فى تكوين بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وقبلها فى السودان، والأخطر عدم معرفة وإدراك مدى عمق الوعى الجمعى والتاريخى بالدولة المركزية فى الثقافة السياسية للمصريين، وهو ما شكل أحد أسباب الفشل الذريع فى فهم أحد مفاتيح السلوك الاجتماعى، ومعرفة أساليب إدارة أجهزة الدولة المصرية. الطابع الماضوى للفكر ينزع إلى الدوران حول نموذج تاريخى بوصفه المثال الذى يحتذى، ويتم إسقاط التاريخ وتطوراته فى هذا النمط من التفكير والتنظير السياسى. من هنا كانت بعض الاجتهادات حول الدولة شكلانية من خلال استعارة بعض النظريات التقليدية فى دراسات النظم الدستورية فى كليات الحقوق، والتى تتسم بالطابع الشكلى، واللاتاريخى، ومحاولة بناء شكل مفترض للدولة الإسلامية لدى بعض منظرى الحركة الإسلامية السياسية، وهى استعارات شكلية لم تؤد إلى تأصيل تاريخى، وتنظير معمق لمفهوم الدولة، وإنما كانت محض تمرينات أولية بسيطة لصياغة مفهوم الدولة الدينية، على نحو يجافى الدولة القومية وتطوراتها المختلفة. لا شك أن النزعة الماضوية اللا تاريخية المستمرة أثرت سلبيا على تطور غالب الفكر الإسلامى الحديث والمعاصر، وشكلت حالة فكرية تمددت إلى المدارس الفكرية والسياسية والأيديولوجية العربية الأخرى. من هنا انشغل الفكر العربى منذ هزيمة يونيو 1967، ولاسيما منذ عقد الثمانينيات وما بعد بمسألة الخصوصية الثقافية وسياسة الهوية، وهى نمط من التفكير فى بعض مقارباته يمثل إعادة إنتاج الفكر الماضوى ومرجعياته لتغدو جزءًا من الجدل والسجال العام مصريًا وعربيًا، ومن ثم تبدو تحولات الواقع الموضوعى الداخلية والإقليمية والدولية، غائبة حينا وشاحبة غالبا فى عديد المقاربات الأيديولوجية السائدة. ثمة نزعة ماضوية ونصوصية لدى بعض المدارس اليسارية، تتمحور حول المراجع النظرية والإيديولوجية المؤسسة لها، ويتم إسقاطها على الواقع الحى، دون قراءات تاريخية وسوسيو-ثقافية دينية للواقع الموضوعى فى ذاته وتغيراته. يبدو أن ذلك يعود إلى الفجوة بين التنظير الأيديولوجى، وبين البحث الاجتماعى لاسيما البحوث الميدانية التى تدرس هذا الواقع وتركيباته ومشكلاته وتغيراته، وربما إلى تخلف غالب مراكز البحث الاجتماعى فى المنطقة العربية، فضلا عن القيود السياسية والأمنية والدينية المفروضة على الأنشطة البحثية عموما. لا شك أن القيود الباهظة التى فرضت على المفكرين والمثقفين العرب فى ظل موت السياسة، أثرت أيضا على المدارس الفكرية القومية العربية والليبرالية. الفكر القومى العربى بدا أقرب إلى أيديولوجيا التبشير السياسى، على الرغم من أهمية الفكرة العربية الجامعة وروادها من ساطع الحصرى، وميشيل عقلق، وصلاح الدين البيطار، وشبلى العيسمى وآخرين، إلا أنها اعتمدت على نظرة لا تاريخية لوضعيات التطور الاجتماعى والسياسى والثقافى والتفاوت الكبير فى مستوياته بين البلدان العربية، وظل الفكر القومى والبعثى تحديدا يتسم بالعمومية والإنتاج الأيديولوجى المفارق للواقع وخصوصياته، والنزعة الشعاراتية للنظم الشمولية التى حكمها حزب البعث فى سوريا والعراق، والتى كانت القومية العربية أحد أسس الشرعية السياسية لكلا النظامين. استمد الفكر القومى مرجعيته النظرية والتاريخية من الحركات القومية الأوروبية، ومن التنظير الفرنسى والألمانى للفكرة القومية، والمزج فيما بينهما وإغفال التطور التاريخى للقوميات الأوروبية فى إطار تطور الرأسماليات الأوروبية وتشكلاتها الاجتماعية والسياسية، وفى بناء الدولة الأمة. وللحديث بقية لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح