الهوية كائن اجتماعي، وتاريخي، وثقافي ورمزي، وقوامها التعدد في مصادرها ومكوناتها لأن الحياة السياسية الحديثة، تعتمد على الانفتاح في منظومات الأفكار والأسواق السياسية الحرة، والمجال العام الذى يشكل مركز التفاعلات والحوارات والسجالات، والذى يشكل حالة من القطيعة مع فكرة الأسواق agoras التى عرفتها بعض المجتمعات، حيث يتبادل الناس أفكارهم وآراءهم وسلعهم في دائرتها.من هنا تبدو الهوية في المجتمعات الحديثة متعددة، وبعضها مقصى ومستبعد عن الحضور والفعالية والتعبير في عديد الأحيان أمام الهوية المسيطرة وفق سياسة القوة والغلبة والهيمنة لجماعة حاكمة أياً كانت مسمياتها. الدولة الحديثة، تحولت إلى المحور الرئيسي للهوية، ومن ثم لا يمكن الحديث عن الهوية بعيداً عن الدولة، ومفهومي الأمة والقومية، وهي مفاهيم تبلورت مع تطور الجدل والتفاعل بين الدولة والقومية والرأسمالية الأوروبية والغربية واتساع الأسواق وتوحيدها، وذلك في إطار تمدد الدولة وسيطرتها على مكوناتها الأرضية والبشرية المتعددة، وعلى وضع حدود للدولة القومية. استطاعت النخب الحاكمة الأوروبية في فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا .. إلخ، أن تفرض سياسة لغوية وأنظمة تعليمية .. إلخ، لإنتاج الموحدات في ظل صعود حركة القوميات، وتحديد هويات قومية ألمانية وفرنسية وإيطالية، ومن ثم هويات قومية في هذه الدول ومجتمعاتها. استطاعت الدول القومية ونخبها السياسية الحاكمة وأنظمتها السياسية الديمقراطية الليبرالية، أن تصوغ الهويات والموحدات القومية فوق التعدديات والمكونات الأولية دون إقصائها، في ظل التشكلات الطبقية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية التي كانت تتطور مع الاكتشافات التكنولوجية، وتطور نظم الأفكار داخل هذه المجتمعات. من هنا ارتبطت عمليات بناء الهويات وسياسة الهوية باختيارات النخب الحاكمة، وتطور النظم السياسية الليبرالية وأنظمة التنشئة داخلها. يمكن القول إن الموحدات المشتركة السياسية والثقافية وبناء الهوية القومية لم تؤد إلى إذابة بعض الهويات الأخرى داخل هذه المجتمعات أو إقصاء لها أو نبذ ثقافي أو سياسي أو اجتماعي، لأن الديمقراطية الليبرالية وأنظمتها ومؤسساتها كانت ولا تزال تسمح لها بالتعبير الثقافي والرمزي والحضور للهويات الأخرى في مشاهدها على اختلافها، لأنها تغذي الهوية القومية، وتشكل أحد روافدها وجزءا من حيويتها الرمزية. الهوية الحداثية انفتاحية وتتطور من داخلها، ومن تفاعلها مع تغيرات وتحولات المجتمع والدولة الرمزية والثقافية والاجتماعية، في إطار مؤسسات سياسية ليبرالية، ومجتمع مفتوح ومجال عام حر وحيوي ومتطور. الهوية وسياسة الهوية في المنطقة العربية اعتمدت على مفاهيم الغلبة، وأيديولوجيات النخب السياسية الحاكمة وأجهزتها الأيديولوجية والقمعية، ومن ثم اعتمدت سياسة الإقصاء، وفرض سياسة للهوية قسرية، وتعتمد على تغليب مكون على مكونات أخرى، واتخذت غالبُ النخب السياسية التسلطية والاستبدادية سياسة الهيمنة الرمزية وفرض تصور مكون على آخر، من خلال القسر والإرغام والعنف المادي والرمزي، بل واستخدام مفرط للدين كمكون للهوية تعتمد عليه في عديد التوظيفات السياسية. الدين والمذهب ثم استخدامها في القمع الداخلي وإزاحة الأقليات الدينية والعرقية واللغوية والقومية في المشرق العربي والسودان، وفي بعض الدول النفطية. اعتمدت سياسة وخطاب الهوية في المنطقة على القمع الأيديولوجي والديني والمذهبي والعرقي، واستبعاد هويات المكونات المتعددة داخل التكوين الاجتماعي. من هنا ساد مفهوم أحادي ولا تاريخي وإقصائي لسياسة الهوية، ومع أزمات الدول والأنظمة السياسية الاستبدادية والتسلطية، وصعود حركات الإسلام السياسي، والجماعات الإرهابية والسلفيات المختلفة والجهادية، إلى أن أصبح مفهوم الهوية وسياساتها يعتمد على بُعد ومكون ديني محض مع نزعة استبعادية لمفاهيم الوطنية وغيرها من المفاهيم والمكونات الهوياتية، مما أدى إلى إفقار المفهوم، وتحوله إلى أحد أدوات السيطرة والهيمنة الرمزية والإقصاء السياسي، والأخطر تحول الهوية من كائن اجتماعي ورمزي وثقافي وسياسي تاريخي إلى مفهوم لا تاريخي وأسطوري يرتكز على تفسيرات وتأويلات دينية وضعية بامتياز، ومذهبية، يتم من خلالها إضفاء معانٍ على الهوية تتجاوزها، على نحو أدى إلى تكريس الانقسامات الاجتماعية، وإلى لجوء بعض المكونات المذهبية والعرقية واللغوية والقومية إلى إحياء هوياتها الخاصة التي تحولت من التاريخي والاجتماعي إلى اللاتاريخي، ومن ثم أصبحت الهوية مفهوما وسياسة، تخضع للصراعات السياسية والدينية والمذهبية على نحو أثر سلباً على عملية تجديد أو بناء موحدات مشتركة تتجاوز المكونات الأولية للمجتمع. من ثم يشكل المفهوم الديني والمذهبي الأحادي واللاتاريخي للهوية السائد عربياً إلى عائق بنيوي إزاء بناء الموحدات الوطنية، وأداة كسر للوحدة الوطنية وكرس ذلك نزعتي الاستبداد والتسلط السياسي والديني، ولا مجال لبناء المشتركات والوحدة إلا من خلال الهوية المشتركة والمتعددة الأبعاد والمكونات والمنفتحة على ذاتها وعالمها. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح