هل تعاني مصر, والمصريون من أزمة في هويتهم؟هل نحن إزاء انشطارات, وتهشم في بنية الهوية ومكوناتها وتجلياتها في الفكر وأنماط السلوك الاجتماعي, والديني, والسياسي والثقافي؟هل النصوص الدستورية حول التحديد القسري للهوية, تؤدي إلي إنتاجها, أو تطويرها أو تجديدها, أو تحديد معالمها الأساسية؟. أسئلة, وإشكاليات مفهوم الهوية, والقومية والوطنية والعالمية والكونية تطرح, وتتوالد, وتتكاثر وتتشابك وتتعقد, ولا تطرح في الفكر اليومي السائد تفكيكات وتحليلات وتفسيرات رصينة تسعي وراء استجلاء بعض وجوه الحقيقة النسبية للمساهمة في تطوير الوعي, والمعرفة, وتجديد بني الأفكار بما يطور أنماط الحياة الاجتماعية للمواطنين وأساليب الحياة, ويحفز علي الإبداع الفردي والجماعي في إطار الأمة, أو الجماعات المتعددة داخلها- العرقية والدينية والمذهبية والقومية والمناطقية-, أو في نطاق الفئات الاجتماعية علي تعددها وتناقضاتها, والأطر الجامعة لتفاعلاتها.إن الصراع المحتدم علي الهوية والدستور سياسي بامتياز لاسيما في عقب هزيمة يونيو1967 بكل آثارها المدمرة علي الوعي الجمعي, والثقافة المصرية, والدولة, ونظرة المصريين لذواتهم وعلاقتهم بتاريخهم, وبالمنطقة والعالم.إن نظرة علي الجدالات التي ثارت داخل الجماعة الثقافية المصرية آنذاك, تكشف عن استخدام عديد الأطراف والفواعل الثقافية والأيديولوجية لمسألة الهوية, ومحاولة قصرها علي معني أيديولوجي وديني محدد, هو أحد وجوه الصراع السياسي والثقافي والرمزي والاجتماعي في مصر. من ناحية أخري كان الصراع علي الدين وبه في السياسة المصرية المعتقلة أحد وجوه السعي لإعادة إحياء السياسة من مواتها الإكلينيكي في ظل التسلطية السياسية والثقافية للنظام, حيث أتاحت لحظة الهزيمة فرصة نادرة من أجل طرح قضايا سياسية ذات أقنعة رمزية وثقافية بعيدة عن الفعل والحركة السياسية الحية في الواقع المصري.الجدل حول الهوية المتخيلة وفق دراسة أندرسون ذائعة الصيت في الأوساط الأكاديمية-, كان أحد أبرز المداخل لبعض أيديولوجيي الإسلام السياسي, للعودة إلي دائرة الجدل العام, من خلال تفسير أسباب الهزيمة, ومحاولة ربطها بأزمة الهوية المصرية المتخيلة, وأن العودة إلي الهوية الإسلامية- وفق بعض المعاني التاريخية المغلقة- هو المدخل لتجاوز الهزيمة, والانتصار في ميادين القتال علي إسرائيل, والتطور الحضاري والقفز علي حالة التخلف التاريخي التي تراكمت عبر الزمن. من ناحية أخري حاول بعض الليبراليين واليساريين والقوميين العرب, والقوميين المصريين, صوغ معان للهوية وفق تصوراتهم وأساطيرهم الأيديولوجية, مع تداخلات في تحديات الهوية ومعانيها وأطرها التاريخية.تحديد الهوية لدي غالب ممثلي مدارس الفكر والعمل السياسي, اتسم ببعض من الانتقائية التاريخية في صياغتها وتحديد مصادر إنتاجها وتشكلها, وفي هيمنة بعض متغيراتها علي البعض الآخر لأسباب إيديولوجية, ولا تاريخية بامتياز!تفاقمت مسألة الهوية واحتقاناتها في ظل هيمنة التسلطية السياسية, والصراع علي الدين وبه في المجال العام المحاصر, وامتدت أنشطة الحركة الإسلامية بمختلف أطيافها وتعددها إلي المجال الخاص للهيمنة الرمزية عليه كمدخل للسيطرة علي المجال العام. كانت أطروحة الهوية ذات المعني والبعد الواحد هي أحد أبرز هذه المداخل. إن استخدام مسألة الهوية, والدستور كانت عملا سلطويا بامتياز أثناء وضع دستور1971 وتعديلاته من قبل الرئيس الأسبق أنور السادات, الذي وضع نص المادة الثانية بهدف مواجهة القوي اليسارية, والليبرالية والقومية.ثم عدل نص المادة بإضافة الألف واللام لتمرير التعديل الخاص بإمكانية ترشحه كرئيس للجمهورية لأكثر من مرتين متتاليتين!تزايد الجدل حول العلاقة بين الهوية- علي تعددها وتطوراتها وأبعادها وتداخلاتها في سياقات زمنية وجغرافية واجتماعية, وثقافية وسياسية ورمزية-, بين الكتابية, أو تحولها إلي نص مكتوب كسلاح دستوري وقانوني وسياسي وثقافي ورمزي في أيدي القوي الإسلامية السياسية في مواجهة بعض القوي السياسية وإزاء الأقباط وذوي الانتماءات الدينية والمذهبية الأخري. الهوية المغلقة التي يطرحها بعضهم أثناء الجدال حول نصوص الدستور المؤقت المزمع وضعه, هي أطروحة سياسية وأيديولوجية, وهو تعبير عن صراع بين الطبقة السياسية والمثقفين وبعضهم بعضا, ومن ثم هو صراع علي السلطة وبها في التشريع, وعلي روح الأمة, وعلي أنماط الحياة الحديثة وما بعدها التي عاشها ولا يزال المصريون علي اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية.إننا إزاء صراع سلطوي بامتياز يرمي إلي تأميم حياة وأفكار وإبداعات المصريين-وإنتاجهم الاجتماعي- الذين يعيشون هوياتهم الجماعية والمتعددة, والتي تتشكل من تاريخهم, وأديانهم ومذاهبهم, وإبداعهم ورموزهم وذلك في تصالح. موضوع الصراع علي الهوية بين المثقفين وإيديولوجيي الحركة السياسية الإسلامية وغيرها من الليبراليين والماركسيين والناصريين, ومعهم الدولة العميقة ورموزها من التسلطيين, هو موضوع نخبوي بامتياز ويراد فرضه علي المصريين, وذلك للهيمنة علي هوياتهم وروحهم الجماعية, ويسعي إلي تفكيكهم وبث الفرقة والشقاق الاجتماعي والرمزي والثقافي فيما بينهم, في حين إنهم يعيشون حياتهم وهوياتهم الجماعية- المتعددة والمركبة والخصبة- دونما ارتباك إلا بعد أن فرض عليهم الساعون إلي السلطة والحكم والثروة والمكانة والنفوذ قضاياهم المتخيلة, وأفكارهم الأيديولوجية الفارغة في المكاتب والغرف المغلقة, وفي دهاليز وأقبية الصفقات السياسية فيما بينهم, أو بين بعضهم وبعض تسلطيي الدولة العميقة! وهكذا تفرض بعض النخب السلطوية في الحكم, أو خارجه أو علي هوامشه قضاياها المتخيلة علي حياة الناس, وارواحهم وإنتاجهم, في حين أن أبسط الناس يعرف هوياته ويتصالح ويتعايش معها, ويطورها عبر الزمن بالإنتاج الاجتماعي الفردي والجماعي, ودونما صياح, أو آلام وأحزان, لم يعرف المصريون هذا النمط منها, إلا بعد صراعات المثقفين والأيديولوجيين والمذهبيين والغلاة والتسلطيين داخل بيروقراطية الدولة وأجهزتها السرية, والذين يحاولون تحويل الرمزي والشفاهي والمعاش إلي كتابي, وذلك من خلال هيمنة النص الدستوري علي حياة دينامية لا تأبه كثيرا بالنصوص أو تأويلاتها, أو مصالح وأهداف كهنة النصوص الأيديولوجية والدستورية والمذاهب السياسية الوضعية أو حراس التسلطية وخدم الطغاة! ارحمونا يرحمكم الله! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح